المحتوى الرئيسى

هاشتاغ نحن_نحترق

05/08 18:40

صفحاتنا الفيسبوكية أصبحت تضج بالصمت وصدى قرقعة أقدام الموت وصفير ريحٍ بعيدٍ يحمل رائحة البارود والدمار، وصوتٍ مخنوقٍ لطفلٍ صغيرٍ يبكي بحرقة دون أن يعيره أحد أي انتباه، وكأنه اشتاق إلى ثدي أمه وحليبها الذي جفّ من الخوف... تشعر وكأنها أحد شوارع حلب المنكوبة أو حي الخالدية الحمصيّ المهجور الذي نامت أبنيته فوق بعضها البعض، وتلاصقت وكأنها تطلب الدفء أو الأنس بعد أن هجرها من اعتادت على ثرثراتهم اليومية العبثية وضحكاتهم العابرة ورائحة مطابخهم العامرة التي كانت تجوب الحيّ وتركض بين الأزقة القديمة لتوقظ "عصافير بطن" المارة وتشعرهم بالجوع...

وكأنها معتقلٌ منسي يقبع في زنزانته المعتمة وينظر إلى خيوط الضوء المتسلل من النافذة الصغيرة وهي تتشاجر مع جزيئات الغبار التي اخترقت كل الحواجز لتزوره وتكسر وحدته وتطرق باب قلبه الذي نسي بأن خارج هذه الجدران الإسمنتية اللعينة يوجد حياة، وصوت عويل معتقلٍ آخر يختلط مع زمجرة السجان وصوته الأجش المثقل بالسباب واللعن يقتحم باب غشاء طبل أذنه اليمنى التى ما زالت تصلح للسمع دون استئذان!!

فقد أصبح عالمنا الأزرق الافتراضي لا يختلف كثيراً عن عالمنا الأحمر الواقعي، وصفحاتنا الفيسبوكية الخاوية من الحياة لا تختلف عن نفوسنا المشتاقة لطعم الحياة الحلو المغطس بشوكولاتة "غالاكسي" اللذيذة التي أصبح امتلاكها يعد رفاهية من رفاهيات الطفل السوري الذي ودّع عالم الطفولة الوردي منذ أكثر من 5 أعوام.

تستيقظ عند الصباح لتمارس طقوسك اليومية الفيسبوكية وتتمشى قليلاً بين أزقة البوستات وزحمة الصور وضجيج الفيديوهات التي تعجّ بها ساحات الفيسبوك العامة، فلا ترى إلا بوستات مصبوغة بلون الدم، وهاشتاغات مشتعلة يتصاعد منها اللهب والشرر وسحاب الدخان الأسود، وصور لأطفالٍ ونساءٍ ورجالٍ شوه الحزن تعابير وجوههم، وحفر الخوف أخاديد عميقة تحت عيونهم المحاصرة بلون السواد، ونهش الجوع والتعب لحومهم وتركهم مجرد أخيلة عظمية هائمة على وجهها، وفيديوهات تعرض صراخ رضيعةٍ لم يتجاوز عمرها الأيام وهي تتحدى الموت وتتحدى هذا العالم السافل العاهر وتخرج من تحت ركام مبنى تساقطت عليها حجارته برأفة لا يمتلكها بنو البشر حتى لا يخدش بشرتها الغضة البيضاء التي لم تغازلها أشعة الشمس بعد!!

تركض مسرعاً لتبتعد عن هذه الأزقة الفيسبوكية المعبدة بالموت، فترى مفترقاً يلوح لك من بعيد، تهرول تجاهه هرباً فلا تجد إلاّ تصريحاً سياسياً يسبب الغثيان لبان كي مون وهو يؤكد للمرة المليون حالة القلق المتفاقم الذي أصابه تجاه ما يجري في سوريا، أو تصريحاً مقززاً آخر لأوباما وهو يتشدق عن حقوق الإنسان ويوزع صكوك الهلاك والغفران وأنفه مغموس حتى النخاع ببحر الدماء السوري، أو إعلاناً لقناة تلفزيونية سورية تبث من حضن الوطن عن سهرة فنية عامرة يحيها الفنان سركيس الفلتان على أنغام الكمان بصحبة الفنانة الصاعدة ألحان، وكأن ما يحدث في سوريا يحدث في كوكب آخر لا ينتمي لعالمهم الذي تشرق فيه الشمس وتزقزق فيه العصافير ويخرج فيه الناس أفواجاً أفواجاً للاستمتاع بـ"السيران" على كتف النهر وشوي اللحمة والشيش!! أو برنامجاً تلفزيونياً وطنياً لأحد الكائنات الهلامية وهو يروّج للسياحة ويدعو الناس لزيارة سوريا والتمتع بطعم "الشاوغما" (أي الشاورما)، بينما يقبع خيرة شباب سوريا الواعي والمبدع والمثقف خارج سور الوطن المصفح!!

ولا يخلو الأمر أيضاً من أن تصادف على جانبي الطريق بوستاً لأحد الطبول المنفوخة المعارضة ممن يدعون تمثيل الشعب السوري وهو يتباكى وينظم الأشعار حزناً على ما آل إليه حال المواطن السوري بعد وصول الدولار الواحد إلى تخوم الــ600 ليرة سورية، بينما لا يقل راتبه الشهري عن 5000 دولار أميركي بأسوأ الأحوال يتقاضاها شهرياً مقابل مهامه التي يقوم بها، والتي تتمحور بسلب ألباب الشعب السوري يومياً بطلته البهية وصوته الشجي على مختلف المحطات التلفزيونية وزيارة بعض مخيمات اللجوء لالتقاط الصور التذكارية لا أكثر!!

تخرج من هذا العالم الأزرق وقد تطعّم صباحك بطعم الألم والحزن على حال سوريا والشعب السوري المسكين، وهنا تبدأ رحلتك مع عالمك السوري الحقيقي بحلته الجديدة، سواءً في مخيم اللجوء أو الكامب أو بيتك الذي يلاعبه التيار الكهربائي كل 3 ساعات وكأنها لعبة القط والفأر، أو أشلاء منزلك الذي رحل عن هذه الحياة باكراً وهو في ريعان شبابه... فتشعر بأن عالمك الحقيقي لا يختلف أبداً عن عالمك الأزرق بل تزيد طينه بلة ألف ألف مرة، فأخبار موت فلان وعلان تلاحقك على أفواه الناس أينما ذهبت، ومشاهد الدمار والألم والأشلاء تتصدر محطات الأخبار التي تقتحم يومك رغماً عن أنفك، سواءً عبر تلفاز بائع الخضراوات الذي تمرُ به وأنت في طريقك إلى عملك أو عبر خدمة الأخبار الخليوية العاجلة التي تصبح أكثر عجلة عندما تحمل معها أرقاماً مرعبة لأعداد الضحايا والموتى من أبناء وطنك، ولربما يكون أحد هذه الأرقام هو صديقك أو جارك أو أستاذك في المدرسة أو صاحب بسطة الفلافل الذي اعتدت أن تلقي عليه التحية كل صباح!!

إلى أين نهرب فعوالمنا كلها أصبحت عوالم مزيفة لا تنتمي لنا نحن الشعب السوري المحب للحياة، عوالم مفروضة علينا بقوة السلاح والبارود لا نملك إلاّ الإذعان لها، فالعصفور الصغير لا يستطيع الوقوف أمام الدبابة المجنزرة، عوالم مغشوشة مصنعة في معامل لا تنتج إلا المنتجات الرديئة ذات الصلاحية المنتهية التي لا تصلح حتى للاستخدام البشري والآدمي والسوري حصراً!! بالله عليكم قولوا لنا أين نذهب فقد ضاقت بنا عوالمنا وضقنا بها؟؟

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل