المحتوى الرئيسى

مفيد فوزى: والدي رفض دخولى البيت بعد العاشرة فنمت في "بير السلم"

05/07 10:54

بهدوء يعود الشاب «مفيد» إلى بيته، بعدما يكون قد انتهى من جلسة السمر مع صديقه «سمير فريد»، الذى يسكن بجواره. نبضات قلبه تسابق دبيب قدميه، الهدوء يلف مدخل البيت، درجات السلم تبدو أمامه، وكأنها جبل المقطم أيام حملة نابليون بونابرت، وبعد دقائق يصل «مفيد» إلى باب الشقة، وبيده يطرق طرقة، واثنتين وثلاثاً، وعند الطرقة الثالثة يأتيه صوت أبيه من الداخل قائلاً: «أيوه يا سيدى: كنت فين لحد دلوقتى» فيرد «مفيد» بالصمت لا بالكلام، فهو يعرف أن أباه يرفض السهر بعد العاشرة مساءً، فما بالك والسهر هذا عند صديق يسكن بجواره، ثم يكرر الأب: الساعة بقت عشرة، اتفضل روح عند اللى كنت عندهم، ثم يطفئ الأستاذ فوزى نور الصالة، ويعود إلى حجرته، وفى نفس اللحظة يغير «مفيد» من وضعه، ويجلس فى «بير» السلم، بعدما يكون تحرك من أمام باب الشقة حيث لا مجال للتفاوض مع «فوزى» أفندى للدخول.

يمر الوقت بصعوبة، يدور حوار داخلى بين «مفيد» ونفسه. هو أنا يعنى كنت عملت إيه؟ دانا كنت قاعد مع سمير فريد وأخوه منير، وكنت بكتب شعر لـ«منير» علشان يقوله لحبيبته، وأثناء هذا الحوار الداخلى بين «مفيد» ونفسه، يأتيه صوت الحنان، صوت العطاء، صوت الست أم «مفيد» -التى يراها بحر الحنان الذى لا ينضب- قائلة له: «اطلع يا مفيد» بابا نام، فيغادر مكانه فى «بير السلم»، ويقطع درك السلم فى قفزات متتالية سريعة، ليدخل إلى حجرته ويطفئ النور، ثم تقول له أم «مفيد»: تصبح على خير، فيرد: وبابا هعمل إيه معاه؟ لا تخف.. الصبح هينزل على الشغل، وينسى كل حاجة، المهم كتبت لصاحبك شعر حلو عن الحب؟ نعم: كتبت «فى حياتى حياتك.. وفى مماتى مماتك»، فتبتسم الأم الطيبة، وتخرج وتقول لـ«مفيد» وهى تغلق باب حجرته «تصبح على خير يا مفيد».

هذه المحطة -ضمن محطات أخرى- تذكرها معى الكاتب والإعلامى المتميز «مفيد فوزى» ونحن نتحدث سوياً عن «حضرة المحترم أبيه» فوزى أفندى. وإلى نص الحوار:

- تستطيع أن تقول ذلك، نعم كانت التربية لديه تعنى الشدة، وكان الحرص على مستقبل ابنه يعنى القسوة، فهو كان يريد لى أن أتعلم وأنجح حتى أكون مدرسًا، فالتدريس فى رأيه كان هو حصن أمان، ومن هنا كان يريد لى أن أتحرك فى هذا الاتجاه.

- الصحافة هى التى اختارتنى، كانت بالنسبة لى الساحرة التى سحرت عقلى، وسحبت يدى لطريقها، ولم تكن لديه مناعة أو مقاومة لمواجهة هذه الساحرة، التى تعرف باسم «صاحبة الجلالة».

- من كتابات كانت اسمه «فرج جبران»، كنت قرأت له، وأنا فى بداية العمر، كان هذا الكاتب يأخذنى إلى عوالم ساحرة، حيث كان يطوف العالم ويعود لنا يكتب ما رآه.. وما عايشه، ولقد تأثرت به لدرجة جعلتنى أفعل مثله.. فبدأت وأنا طفل أكتب، مفيد فوزى يكتب من برلين، ومن كيب تاون، ومن باريس، كل هذا وأنا مازلت فى مراحل الدراسة الأولى، وهذا شجعنى على أن أعمل مجلة حائط فى المدرسة، حيث أحررها وأعلقها وألونها أنا بمفردى وكنت وقتها منضمًا لجماعة الصحافة بالمدرسة، وأذكر أننى كتبت مقالاً عنوانه: «ليس هكذا التربية يا حسين أفندى سليم». ومن هذا المقال عرفت يعنى إيه رقابة».

- بمعنى أننى بعد ما كتبت هذا المقال، وقمت بنشره فى صحيفة الحائط فى المدرسة، وبدأ التلاميذ زملائى يتوافدون ليروا ماذا كتب «مفيد»، جاء السيد مدير المدرسة فى ذلك الوقت «سامى أفندى سليمان» - ووضع ورقة سوداء على المقال. ويومها قال لى: فى المستقبل سأراك ضمن أسرة التدريس، فأنت مشروع مدرس لغة ممتاز، وطلبت منى أن أنتقل من جماعة الصحافة إلى جماعة الخطابة بالمدرسة.

- لا.. لم أوافق على طلبه، ورفضت بشدة، فأنا لا أستطيع أن أفعل شيئاً سوى الجلوس أمام الورقة، وفى يدى قلم.

- كان يريد أن ألتحق بكلية الآداب، حتى أصبح مدرسًا، وكان يقسو علىّ حتى أحقق له هذا الهدف، لكن سحر الصحافة جذبنى، وأنا أذكر مرة عاد أبى إلى البيت ووجدنى أستمع إلى صوت أم كلثوم، فرفض ذلك، لأننى المذاكرة أهم.. ولذلك كنت أستمع لها خلسة.

- كنت أفتح الراديو وأعيش مع عالم أم كلثوم، وأول ما أسمع صوت دبيب قدميه على سلم المنزل أجرى على الفور وأغير مؤشر الراديو، ليأتى صوت العرب بصوت «محمد عروق» يتحدث من الجزائر، وبذلك أهرب من عقاب أبى.

- نعم.. كنت سهران لدى صديقى فى البيت المجاور لنا، وكانت تغنى أم كلثوم، وأنا أردد معها «الله.. الله»، ويبدو أن صوتى جلجل لدرجة جعلت أبى يسمع صوتى وعندما عدت للمنزل، عاقبنى بعدم النزول من البيت لعدة أيام.

- هذا صحيح، ولذلك كنت دائمًا حريصاً على إسعاده، والحصول على رضاه بأى شكل، فهو كان دائمًا فى حالة «تكشيرة» حتى عندما أنجح فى المدرسة.

- لا.. لم يفعلها، ولم يقلها، وكثيرًا ما كنت أنتظرها منه، لكنه كان يقول: كويس وبس. بالمقابل كانت أمى تأخذنى إلى حضنها الدافئ، وتقول لى: «شاطر يا مفيد، برافو، إنت ولد شاطر»، فكانت هذه الكلمات الحانية، الرقيقة، الدافئة بالمشاعر هى وقودى نحو تحقيق هدفى.

- «وهو كان فيه غيره» منذ دخولى مدرسة بنى سويف الثانوية، حيث كنا نعيش هناك، وفيها قضيت سنوات الطفولة والدراسة الأولى، منذ اللحظة الأولى من دخول المدرسة، وأنا يتجه بصرى نحو الصحافة كانت أمى تدفعنى لما أحب، أما أبى فكان يدفعنى لما لا أحب، وأذكر حبى للقراءة ولهفتى وسعادتى وأنا فى طريقى لمكتبة البلدية، فكان يسأل أبى الوالد راح فين؟

ترد أمى: راح مكتبة البلدية.

يرد أبى: كتب إيه اللى مضيع وقته عليها، يذاكر كلمتين ينفعوه أحسن، لكننى كنت مُصراً على القراءة، فتنت مبكرًا بكتابات «فرج جبران، وسلامة موسى» وبعد ذلك «بمحمد حسنين هيكل» وكتابه «إيران فوق البركان». ولا أنسى أول جملة كتبها فى الكتاب، حيث قال سائق التاكسى الذى استقله الراحل «هيكل».. ما حد عارف البلد رايحة على فين؟ وكذلك تابعت بشغف كتابات نجيب محفوظ، و«فوميل لبيب» -وكان كاتبا وباحثًا فى النفس البشرية- ولم أسترح لأسلوب عميد الأدب العربى «طه حسين». وفتنت بكتابات «توفيق الحكيم»، ووقعت فى غرام «يوسف إدريس».

- كانت علاقة مختلفة إلى حد ما، فهو رجل واقعى، قاس بعض الشىء، الحياة عنده عمل واجتهاد، ولا مكان فيها للعواطف، لدرجة إنه لم يشتر لى لعبة، وأنا طفل صغير، ليس لأنه بخيلاً، ولكن ربما كان يرى أن لعب العيال من الممكن ألا يجعلنى إنساناً ناجحاً فى حياته.

- إطلاقًا.. لذلك كان دور أمى فى حياتى هو المصباح الذى أضاء الطريق. وليس هذا عنواناً براقاً، ولكنها الحقيقة، وفى الوقت نفسه دعنى أيضاً أقول لك إن قسوة أبى على فى التربية، جعلت قسوة الحياة معى فيما بعد سهلة، ولا أنكر أن هذه القسوة بقدر ما كانت تؤلمنى وأنا طفل صغير، بقدر ما كانت سنداً لى فى الحياة بعد ذلك.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل