المحتوى الرئيسى

آلام الموت والاتفاق (1/3) | المصري اليوم

05/04 22:27

صديقى طبيب الأسنان المشهور الذى لم أذهب إلى عيادته فى أى يوم، ولم يعذبنى ويفتح فمى ليتطاير الرذاذ وأنا أسمع صوت «الشنيور» المرعب وهو يخترق أسنانى. هو صديقى لأنه ببساطة لم يكن يملى على أى شىء، ولكنى أنا من كان يبدى رأيى فيه، فهو كان مريضى، وأنا كنت أصفه بأنه صديقى؛ لأننى كنت أشعر بسعادة عندما أتبادل الحديث معه وليس لإصراره ومبالغته فى دفع أتعابى وإكرامية العاملين معى.

هو رجل قبطى مثقف وفى قمة الذكاء، يمنحك شعورا جميلا بالراحة والمودة وأنت تسمعه أو تتحدث إليه.

وفى أول معرفتنا بادرته قائلًا: «.. يا دكتور «سمير».. لماذا تكثر من زيارتى وأنت فعلا لا تعانى شيئا.. فالقلب سليم.. وضغط الدم مثالى.. والتحاليل ممتازة، وأنت مع كل مشاغلك تواظب على رياضة المشى.. أنت لست مريضًا.. وأنا فعلًا أقدرك كصديق وأخجل من أن تدفع أتعابى فى كل زيارة لعيادتى وإن كان سببها السؤال عن عارض بسيط».

فابتسم بطريقة متكلفة وهو ينظر إلىّ بعينين لا ترمشان: «.. والدى توفى فى سن الخامسة والأربعين بسكتة قلبية.. أخى الأكبر مات بعد بضعة أشهر من العملية الثانية لترقيع الشرايين التاجية وعمره واحد وخمسون.. أختى الصغرى «إيزيس» بدأت تعانى من القلب وترفض عمل قسطرة قلبية.. وحتى عمى الوحيد لم يكمل الستين من عمره.. نحن عائلة منكوبة بأمراض القلب يا عزيزى.. أرجو ألا تمل من زيارتى فالمثل يقول: من خاف سلم».

وأطرق للحظات وهو ينظر إلى مكتبى وأكمل وهو يصطنع الضحك: «.. أمس كان عيد ميلادى الخمسين.. متى ستأتى النهاية؟ نعم أنا أمامك كالحصان.. ولكن هناك شىء ما داخل أجسام أفراد عائلتنا؛ شىء مبرمج داخلنا ليقضى علينا فى هذه السن من خمسة وأربعين إلى أوائل الستينيات.. ولم أسمع أن أحدًا فى عائلة والدى قد بلغ السبعينيات».

وقاطعته قائلا: «.. ولكن أنت تعلم أن قوانين الوراثة ليست بهذه البساطة؛ فهناك عائلة والدتك، وقد ترث عنها «جينات» تسمح لك ببلوغ التسعينيات من عمر مديد بدون أى أمراض.. فالطبيعة أولا ثم الأديان بعد ذلك قد منعت ما نطلق عليه فى الدين الإسلامى زواج المحارم لهذا السبب.. لكى نرث ببساطة جينات سليمة من الطرف الآخر.. وأى إنسان مات وهو جنين فى رحم أمه أو فى سن صغيرة فهو بذلك لم ينقل جيناته العليلة التى تسببت فى وفاته للجيل التالى.. وأنت مستوى الكوليسترول أقل من الطبيعى، و... ويا عزيزى أنا أيضًا لا أرى أى شىء يدعو إلى هذه النظرة التشاؤمية».

فابتسم بهدوء:«.. يا دكتور، إذا رأيت صورة لأبى وهو فى الثلاثينيات من عمره فستظن أنها أخذت لى وأنا صغير.. بياض البشرة، لون العينين، تركيبة الجسم، والفارق الوحيد هو أنه كان بشارب صغير..».

وضحك وهو يشير إلى شفته العليا: «.. أنا كان عندى شارب وأزلته عند التحاقى بكلية طب الأسنان.. ستتعجب من درجة الشبه بيننا.. لدىّ لك سؤال بسيط وأرجو أن تجيب عنه: لماذا أحيانا أرى «أسنانا» عليلة لشباب فى كامل صحتهم وفائقى الاعتناء بأسنانهم وفى المقابل أسنانا سليمة لشيوخ فى أواخر عمرهم، وهم من البيئة نفسها» وضحك مستطردا: «.. لا تقُل لى بضاعة صينى أو ألمانى.. نحن مبرمجون، مثل كلمة «انتهاء الصلاحية فى تاريخ ما»،.. فهل نحن مبرمجون للموت فى حدود عمر معين؟».

فقلت بتأنٍّ: «يبدو أن جزءا كبيرا مما قلته صحيح، فأى خلية فى أى عضو بجسمنا كالكبد، الكلى، القلب.. تظهر عليها أعراض ما قبل الموت من تغير فى الشكل إلى تجمع لنقاط ملونة داكنة بجوار النواة، وتكون هذه علامات لقرب موتها وتلاشيها. وهذا ليس بعلامة لموتنا ككل، فهذه ظاهرة نراها مع التقدم فى السن.. هل رأيت صورة أشعة مقطعية لرأس رجل فى الثمانينيات من عمره.. حجم المخ قد ينقص بمعدل الربع..»، وأكملت ضاحكا: «وستجد أنه لا يعانى أى عته أو جنون، فذاكرته وذكاؤه قد ينقص بمعدل متوسط».

وتوقفت وأنا أضغط على الكلمات: «ولكن... ولكن الأبحاث العلمية الحديثة فاجأتنا بأن خلايا طبيعية وسليمة بأجسامنا تموت بدون المرور فى مراحل الموت المتعددة، وأثبت علميا أنها مبرمجة لتموت وهى فى أتمّ صحتها.. لقد أطلق على ذلك كلمة علمية.. Apoptosis.. ولا يوجد الآن تفسير علمى واضح لهذه الظاهرة.. ولكن والعياذ بالله.. «لكل أجل كتاب».. فالبرمجة من عند الله.. فهل علميا يمكننا أن نعيد برمجة أنفسنا؟».

فقال: «.. نعم،.. نعم.. سنطور العديد من برامج موت خلايانا، وقد نصل إلى تقنيات طبية جديدة تضاعف من عمر الإنسان.. ولكن هل هذا من «مشيئة الرب»؟ صدقنى فأنت وأنا وحتى أولادنا لن نرى ذلك فى المدى القريب».

وقلت: «نحن الآن بدأنا الاستنساخ.. هل تتصور أن العلماء تمكنوا من تخليق «نعجة» من خلايا نعجة أخرى مفردة بدون عملية التزاوج، وتكرر ذلك فى الفئران والكلاب والخيول والعديد من الحيوانات.. وهل تعلم أن ما تأكله فى وقتنا الحالى فى طبق «سلطة» قد يحتوى على «طماطم» مستنسخة ولم تمر بطرق الزراعة المألوفة.. وهى ما يطلق عليها بعض المزارعين «طماطم إسرائيلى».. ونعم.. لكننا سنجد فى القريب العاجل من يعلن عن استنساخ الإنسان.. ولو أن ذلك الآن محرم فى جميع دول العالم...».

وأكملت «.. لكن الأهم أن العلاج الحديث لمعظم الأمراض المستعصية يتجه إلى استبدال الخلايا الضعيفة والميتة فى أى عضو من أجسامنا بزرع خلايا جديدة سليمة عن طريق الحقن، والعديد من الأبحاث العلمية موجهة إلى إعادة برمجة خلايا أجسامنا بإعادة تشكيل الجينات، ولكن ما يجرى الآن هو علاج للجزء وليس الكل».

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل