المحتوى الرئيسى

"الابيغرام".. فن اللسع أو قصف الجبهة!

05/03 17:47

لو بدت كلمة "ابيغرام" غريبةً نوعاً ما على أسماع القراء، وأحياناً المثقفين، فيسعنا أن نعرض تعريف الكاتب لهذا الفن كما خلص إليه بعد قراءات متعددة له في الآداب العربية والإنكليزية والإغريقية المترجمة، فالابيغرام هو شكلٌ أدبي - شعر أو نثر - يتميز بالتركيز والتكثيف وواحدية الفكرة التي تطرحها المقطوعة الواحدة منه، وقد يعتمد على لغة المفارقة وبنية التضاد، سواءاً على مستوى الألفاظ أو المعاني، وغالباً ما ينتهي بنوعٍ من أنواع المفاجأة أو الإدهاش.

وتتنوع موضوعات هذا الشكل ومن أبرزها النقد الاجتماعي والسياسي. وقد تأتي الابيغرامة الواحدة في هيئة بنية مستقلة، أو في داخل بنية أكبر منها تمثل هي إحدى مكوناتها.

والنقاد العرب لم يهتموا بهذا الفن الاهتمام اللائق به، باستثناء طه حسين الذي يعد أول من أشار إلى هذا الفن في أدبنا العربي في كتابه "جنة الشوك"، ثم جاء بعده الناقد عز الدين إسماعيل في ديوانه "دمعة للأسى ... دمعة للفرح".

ويذكر أن كلمة ابيغرام “Epigram” مأخوذة من الكلمة اليونانية Epigramma، وجمعها ابغراماتا Epigrammata، وهي مقطوعة شعرية قصيرة، ومعناها في الإنكليزية الحديثة: الحكمة.

وهذا الفن من الفنون الإغريقية القديمة، ولم يعرف باسمه هذا في أدبنا العربي القديم، وإن كان هناك أنماط إبداعية عربية قديمة لا تقل شأناً عن هذا الفن، بل توجد بها أكثر سماته، ومن ذلك مثلاً ما عرف بالأجوبة المسكتة، وكذلك الهفوات النادرة، وهي تستحق دراسة مستقلة.

لأن الابيغرام من فنون القول التي تعتمد على التكثيف، سواءاً أكان شعراً أم نثراً، فإن تشكيله وبناءه يعتمد على أكبر قدر من استغلال كل ما هو متاح من أدوات وتقنيات فنية للوصول إلى القارئ ولتحقيق التأثير المرجو من الرسالة التي يرمي إليها المبدع.

واتضح ذلك في السمات التي ترتكز في ماهية هذا الفن، وبروزها على نحو لافت في أكثر الإبداعات التي يمكن إدراجها تحت مسمى هذا الفن، ومن هذه السمات: اعتماد لغة المفارقة والتضاد، والاتكاء على السخرية والتهكم والهجاء، واللجوء إلى الإدهاش والمفاجأة في الغالب، بالإضافة إلى التكثيف والتركيز حتى إن الابيغرام المحكم قد لا يتاح حذف كلمة من كلماته لأن المعنى المستهدف سيصاب بخلل قد ينزل به عما رمى إليه المبدع.

ومن سمات الابيغرام الظاهرة كذلك أنه غالباً ما يحتوي على حكمة أو مثل، وإذا لم تكن من إبداع الشاعر أو الناثر فقد يرد ذلك على سبيل التوظيف أو التناص.

الاتكاء على لغة المفارقة والتضاد

الوحدة الموضوعية الاتكاء على لغة المفارقة والتضاد

تعد المفارقة من أهم السمات التي تميز فن الابيغرام، حتى إنه يمكن القول إن فن الابيغرام ينبني بشكل أساسي على لغة المفارقة والتضاد، لما في هذه اللغة من إثارة وإمتاع وتشويق، ولما فيها من إظهار الأفكار والصور المتضادة على نحو يدعو إلى التأمل، ومحاولة الإقناع، فضلاً عن الاعتماد على الأثر الفني والنفسي الذي تؤديه الصور المتناقضة في نفس القارئ والسامع.

والمفارقة في بنيتها تعتمد على إبراز المتناقضات وقد تتكئ في سبيل ذلك على عناصر تراثية أو معاصرة، أحداثاً أو شخصياتٍ أو نصوصاً؛ ما يجعلها كثيراً ما تتآزر مع التناص في إنتاج النص الإبداعي عموماً ونص الابيغرام خصوصاً.

وفي ابيغرامة بعنوان “قصف”، يبرع الشاعر عبد العزيز المقالح في إقامة مفارقة بين صورتين متقابلتين، وينتصر للصورة التي يشيع أنها سلبية، فالمفارقة بين صورة العلم وصورة الأمية تنتصر لصورة الأمية في تشكيلها الذي أورده المبدع.

العلم أو المعرفة كما يتم عرضها والترويج لها في الابيغرامة أصبحت مثلبةً لا تشرف من يدعيها؛ حيث أصبحت الصحف المسماة بالصفراء هي مصدرها، ما ينتج ثقافةً صفراء تصطاد الأكثر طيشاً وغباءاً لا صاحب التمييز والقدرة على الاختيار.

تلك الصورة المظلمة تناقضها صورةٌ أخرى مضيئة هي صورة أولئك الفلاحين المحروسين بشجر الحب؛ حيث لم تلوثهم آفات المدينة بصحفها الصفراء، والأميين الفقراء الذين لم يتأثروا بالمنتج الزائف؛ حيث أصبحت الأمية والفقر درعاً من قصف الجهل المغلف بقشور التعالم:

تعد السخرية من الخصائص المهمة التي ينماز بها فن الابيغرام؛ وقد يكون ذلك نابعاً من موضوعه ووظيفته؛ حيث إن موضوعه يركز أكثر ما يركز على نقد الأوضاع المتعددة التي ترتبط بحياة الإنسان: اجتماعية، سياسية، اقتصادية، حتى الشأن الذاتي لم ينج من النقد والسخرية الابيغرامية، وتتمثل وظيفته في إضاءة مناطق العتمة في حياة الإنسان، وقد يقدم لها حلا وقد لا يقدم شيئاً، غير أنه في كل الحالات بمثابة وخزة ألم تنبه المريض إلى أنه ثمة ما يجب عليه الإسراع في علاجه.

وفي ابيغرامة ساخرة أخرى، قال الشاعر السعودي الراحل غازي القصيبي:

إنه يسخر من عرب العصر الحاضر فيستدعي نصّاً أطلقه الكاتب السعودي عبد الله القصيمي عليهم نتيجة مواقفهم الباهتة تجاه قضاياهم الجادة، والمقصود أنهم “ظاهرة صوتية”، ويضيف المبدع إلى هذا الوصف الساخر المعبر إضافة أخرى تثري الدلالة فتوحي بمعاني العشوائية والغوغائية وتضارب المواقف، وكأن العرب بمثابة قصيدة شعرية تفتقد إلى السمات الموروثة للقصيدة التي تنسبها إلى الأصالة - والمقصود الوزن والقافية -، وكأنهم بذلك قصيدة جاهلية مثلاً غير أنها تفتقد إلى أهم سماتها الشكلية - وربما الجوهرية - من وزن وقافية.

يمثل كل من الإدهاش والمفاجأة خصيصةً من خصائص فن الابيغرام مهمة، وهي تتآزر مع باقي الخصائص والسمات لتضفي عليه تمايزاً، ولعل الإدهاش من السمات التي تعطي انطباعاً بجدة العمل الإبداعي وطرافته وكذلك فإن الخطاب الإبداعي الذي يلجأ إلى المفاجأة والإدهاش يكون “باعثاً على أثر دلالي جديد”(). ويتحقق هذا الإدهاش عن طريق مفاجأة المتلقي بغير ما يتوقع.

ومن النماذج الإبداعية التي تحققت فيها خاصية الإدهاش والمفاجأة ما يلي:

في ابيغرامة للشاعر أحمد مطر يقول:

إن أعلن الذكي عن ذكائه

ويتمثل الإدهاش في كسر التوقع والانحراف بالتسلسل الذي ظهر في السطر الأخير، حيث إن إعلان الإنسان عن ذكائه لابد أن يكون محموداً لما لميزة الذكاء من تقدير ولما لها من مكانة، غير أن خصوصية البيئة التي يحيا فيها هذا الذكي تفرض عليه ألا يعلن عن هذا الذكاء وإلا لأصبح غبيا لأنها بيئة تقتل الأذكياء ولا تقدرهم.

كلمة “Epigram” تعني في اللغة الإنكليزية “الحكمة”، ولعل في ذلك ما يوضح جانباً مهما من جوانب الابيغرام والسمات التي تعبر عنه، والمقصود هو حكمية الإبداعات الابيغرامية - على الأغلب - وهذه الحكمة مرتبطة على نحو ما بسمة القصر والتكثيف، حيث يسهل تداول الابيغرامة، إذا قدر لها الذيوع؛ ما يجعل للقصر والتركيز والطرافة دوراً مهماً يسهم في مثل هذا الذيوع والانتشار، وقد تكون الحكمة المبثوثة في أثناء الابيغرامة خالصة للكاتب أو من ابتكاره إما اعتماداً على التأمل والمرور بالعديد من الخبرات، أو التناص مع أقوال حكيمة أو ذائعة في بيئة من البيئات، أو موظفة من تراث المتلقين الموجهة إليهم، أو أن يتم الاستشهاد بها بوصفها مكوناً من مكونات الابيغرامه - كما نلحظ عند طه حسين في العديد من ابيغراماته.

وتُعرّف الحكمة أنها: “كلمة جامعة تلخص نظرية أو مجموعة ملاحظات وتجارب، والمفروض فيها أن يسلم بها الجميع.”وهناك أيضاً ما يسمى بالحكمة الساخرة، وهي “العبارة الموجزة البليغة الساخرة.”

ومن نماذج الابيغرام التي تحققت فيها سمات الحكمة ما يلي:

“كن شريفاً أميناً؛ لا لأن الناس يستحقون الشرف والأمانة بل لأنك أنت لا تستحق الضعة والخيانة!”

بالإضافة إلى شرط القصر، فقد تحققت في الابيغرامة السابقة حكمة تمثلت في إقناع المتلقي بقيمتي الشرف والأمانة من منطلق أنه هو لا يجب أن يكون وضيعاً أو خائنا؛ حتى لو لم يستحق الناس أن نعاملهم بالشرف والأمانة.

إنه جعل الدافع إلى الفعل الإيجابي نابعاً من داخل المتلقي لا من قوى خارجة عنه سواء أكانت مجتمعية أم قيمية مطلقة.

“ما الليث إلا عدة خراف مهضومة” مقولة أطلقها الشاعر الفرنسي “بول فاليري”، وأصبحت بمثابة قول مأثور يتم استحضاره عند الحديث عن التناص، ومضمونها أن النص غالباً ما يحتوي في أثنائه على تأثيرات من نصوص أخرى، وتتعدد طرق هذه التأثيرات، وتتنوع وسائل توظيفها فنيّاً.

والتناص “يعرف بأنه تأطير اصطلاحي لظاهرة اضطراد وتواتر الإشارات الأدبية. أو أنه ملفوظات مأخوذة من نصوص أخرى تتداخل وتتشابك ويعادل بعضها البعض”.

وبعبارة أخرى "هو علاقة تجمع بين نصين فأكثر، وهي تؤثر في طريقة قراءة النص الذي تقع فيه آثار النصوص الأخرى".

ويمكننا تقسيم التناص حسب النص المصدر، سواء أكان مقدسا أم أدبيا أم قولا مأثورا إلى:

تناص مع نص أدبي. التناص مع نص مقدس:

يقول عز الدين إسماعيل في ابيغرامة شعرية بعنوان “حذر”:

ـ ألفت أن أصنع خبزي بيدي

فذا طعامي إن أجع وذا شرابي

ـ تأنف أن تأكل زاد الآخرين؟

ـ لا، بل أخاف خنجر اليد الخئون()

يقول غازي القصيبي في ابيغرامة نثرية وظف فيها شطر بيت شعري تراثي لسلم الخاسر:

“من راقب الناس مات همّاً”

ومن لم يراقبهم ... مات ضجراً

والنص الرافد أورده المبدع المعاصر بتمامه بين علامتي تنصيص، وحور في الشطر الثاني الذي يتراءى للمتلقي نتيجة إيراد الشطر الأول من البيت المشهور، والشطر الأصلي الغائب الحاضر بالتبعية هو باقي بيت سلم الخاسر: “وفاز باللذة الجسور”، وقد خرج المبدع من المعنى الحاضر في الشطر الثاني من البيت التراثي إلى معنى آخر يدل على الفضول وقتل الملل بالاطلاع على أخبار الناس وحكاياتهم.

ونلمح في ابيغرامة القصيبي نوعاً من أنواع السخرية والنقد الاجتماعي لعادات شائعة، ومنها حب الفضول.

يعد تكثيف الدلالة من أخص خصائص الابيغرام، ويفهم من تكثيف الدلالة أن يتم التعبير بالكلمات القليلة عن المعاني الكثيرة، حيث تمتد ظلال الكلمات المفردة والعبارات القصيرة، فتصبح المعاني الغائبة التي يمكن استحضارها بالتأمل أكثر مما تعبر عنه الكلمات لو تم فهمها حسب دلالاتها المباشرة، والملاحظ أن التكثيف في فن الابيغرام اعتمد على العديد من الآليات، كالحذف، والإضمار، والتلميح، واللجوء إلى الحوار المركز، واستعارة بعض أساليب المونتاج، والاختزال؛ حيث يتم تكثيف حكاية ما أو حدث ما في كلمات قصيرة ذات دلالة على الحدث أو الحكاية المعنية؛ فالحكاية إذن “تقتصر عادةً على الإشارة السريعة واللّمحات الخاطفة والموحية، مستخدمة الرمز والأسطورة والتاريخ عبر دلالات فكرية، اجتماعية، أو فلسفية، أو غير ذلك من موضوعات”.

يحتضن الناس / الأرض / النهر / الجدران

فإذا ما جال خلال السوق / الطرقات / الميدان عاد وحيداً

والصور التي عبر بها عن الوحدة تمثلت في:

الناس / الأرض / النهر / الجدران

والصور التي عبر بها عن الاختلاط بالحياة تمثلت في:

السوق / الطرقات / الميدان

وكل الصور مفصولة بالشرطة المائلة، وكأن كلاً منها يعبر بمفرده عن وحدة كامنة في ذاته بحيث لا تلتقي صورة بأختها، فكان أسلوب القطع بين كل صورة وأخرى، والخيط الذي يجمع كل ذلك هو نفس المبدع التي تحس وتشعر وتعكس داخلها على ما حولها فترى الوحدة اجتماعا والاجتماع وحدة.

وأكثر الصور لا تزيد الواحدة منها عن الكلمة أو الكلمتين مما يخلق نصوصاً قصيرة مركزة تعبر بأقل الكلمات عن كثير من المعاني.

يتمثل مفهوم الوحدة الموضوعية في أن يدور الكلام حول موضوع واحد معين أيا كان نوعه إنسانا أم غيره.

وهي تعد من أهم خصائص الابيغرام؛ فالقصر والتكثيف والتركيز الذي يتميز به هذا الفن يفرض على مبدعه أن يقتصر على موضوع واحد أو بالأحرى فكرة واحدة لا يتعداها، وتكون هي محور الابيغرامة، وهذه الوحدة تتضح أكثر ما تتضح في الابيغرامات المستقلة أما تلك التي ترد ضمن عمل شعري أو نثري آخر فإنها تكون بمثابة جزء مستقل ذي ملامح تخصه ويرد ضمن منظومة العمل الشعري أو النثري مما يجعله أشبه بقالب له استقلاليته وكيانه الخاص على الرغم من وجوده في بناء أعم وأشمل.

وكثيراً ما يكون عنوان الابيغرامة دالا على نحو كبير على فكرتها أو موضوعها الذي تتناوله.

ومن النماذج المعبرة عن ذلك ما يلي:

يقول طه حسين في ابيغرامة بعنوان : “أفول”:

أهم أخبار منوعات

Comments

عاجل