المحتوى الرئيسى

الميزان في مسألة صنافير وتيران (2-5) | المصري اليوم

05/03 00:40

استهل الأستاذ أحمد السيد النجار مقالته المعنونة «تيران وصنافير وقواعد تأسيس الأوطان والدول» بمدخل يؤطر المنهج الذي يستند إليه لتكوين وجهة نظره في مسألة الجزيرتين، وهو منهج علمي موضوعي لا يجوز أن يختلف عليه اثنان إلا إذا كانت آفة أحدهما العاطفة أو الهوى؛ يقول: «تعلو الحقائق على الآراء مهما كانت وجاهتها، وينبغي أن تكون الحقائق الجغرافية والسياسية والإنسانية والعسكرية هي المحدد للموقف من قضية جزر تيران وصنافير سواء في النقاش البرلماني أو النخبوي أو الشعبي حتى تتجاوز مصر قضية الجزيرتين بشكل آمن قائم على قواعد الحق والحقيقة».

وهو مدخل يجعلك كقارئ مهيأ لاستقبال معلومات اجتهد الكاتب في استخلاصها ودراستها لبناء رأيه على أساسها، ضاربًا بذلك مثالًا لما وصفه في الأسطر التاتلية بـ«النضج في معالجة القضايا»الذي يمثل في رايه «ضرورة قصوى لبلد تعرض لما فيه الكفاية من الاضطراب السياسي والأمني» كما أنه وسيلة لتجاوز «الألغام» التي خلفها «الاستعمار في تقسيم الحدود بين الدول»، ولم ينس أن يعلي من شأن «المصالح الوطنية والعلاقات بين الأشقاء في الإقليم العربي» مؤكدًا أنها «تتطلب معالجة هذه الأمور بحكمة وبصورة تحافظ على قوة ومتانة تلك العلاقات».

هذه مقدمة لا خلاف حولها، وما فعله الكاتب بعد ذلك هو أنه أورد –بالفعل- العديد من «الحقائق»، بمعنى أنها معلومات حقيقية وصحيحة إذا نظرنا إليها مجردة، إلا أنها لا تصلح لكي تكون معيارًا للحكم في القضية الرئيسية التي يريد التعبير عن رأيه فيها، وهي قضية الجزيرتين، وهو ما يجعل لنا نصف هذه الأسلوب بـ«الإيهام بالموضوعية» لأن القارئ العادي – غير المتخصص- لن يستطيع بسهولة التخلص من الربط بين هذه الحقائق وما أورده الكاتب في مقدمة مقالته. فتصبح هذه الحقائق كأنها أدلة تعزيز وجهة نظره التي سوف ترد متأخرة – قليلًا- في المقالة مستفيدة من حالة الإيهام التي سحب إليها القارئ وأثثها بهدوء.

أول «الحقائق» التي أراد الكاتب حشدها هي «حقائق التاريخ»، والتاريخ الذي استدعاه هنا هو تاريخ بدء الحضارة البشرية تقريبًا!... منذ أن كان «البحر الأحمر... أقرب لبحيرة مصرية... من عهد المصريين القدماء»، وقد استخلص من هذا قاعدة – لا أعرف مدى التوافق على صلاحيتها لتحديد حقوق ملكيات الدول للأراضي والممتلكات- وهي أنه «لم تكن هناك قوى أو دول أخرى على الضفة الشرقية للبحر حينما كانت السفن المصرية في حركة دائبة عبر ذلك البحر لتمرير التجارة مع شرق إفريقيا ومع بعض القبائل المتناثرة على الضفة الشرقية عندما ظهرت في عصور متأخرة بعد بدء الحضارة والدولة في مصر بآلاف السنين».

إذا صح هذا المعيار في ظني؛ فإن الكثير من قواعد الملكية ومعطيات الحدود بين دول العالم المعاصر سوف تتغير إلى غير رجعة.

ينتقل الكاتب بعد ذلك إلى تاريخ «العصور الوسطى» مستشهدًا بالرسوم –أي الضرائب- التي كانت «الدولة المملوكية» تحصّلها من «التجارة التي تمر عبر البحر والبر المصري»، مستشهدًا بـ«قتال الدولة المملوكية التي كانت تحكم مصر، دفاعًا عن ممرها التجاري ضد البرتغاليين في معركة»ديو«البحرية في البحر العربي بعد أن اجتازت البحر الأحمر لملاقاة البرتغاليين الذين كانوا يدشنون الممر الملاحي الدولي الجديد عبر رأس الرجاء الصالح». هذه معلومة تاريخية أخرى يمكن التيقن من صحتها بأي وسيلة بحث، ولكن ما يحتاج إلى التوثق ليس صحة المعلومة من عدمها، إنما مدى صلاحية هذه المعلومة كدليل على ما يريد الكاتب أن يُثبته؟ وهو سؤال يمتلك إجابته أصحاب التخصص.

أين حقوق مصر التاريخية في الشام؟

يترك الكاتب التاريخين القديم والوسيط وما استدعى من معلومات قدمها لنا كحقائق تعزز تصوره، لينتقل بخطاب يمزج العاطفة بالتاريخ إلى عصر محمد على وابنه إبراهيم باشا الذي وصفه مستدعيًا مشاعر الفخر بـ«باعث العسكرية المصرية»، و«الذي قاد الجيش المصري لأعظم الانتصارات» مستخلصًا من ذلك «مصرية البحر الأحمر وخليج العقبة والجزر الواقعة فيه».

وهو استشهاد يدعونا إلى طرح بعض التساؤلات -من باب الفضول- حول تعريف الدولة المصرية في عهد محمد على باشا، ومدى شرعية الانتصارات التي قام بها هو وإبراهيم باشا ووصلت إلى امتدادات جغرافية كبيرة، ولماذا لا نستشهد مثلًا بحملات رمسيس وتحتمس لسوريا للمطالبة بحقوق مصر التاريخية في الشام؟ وهي الأهم لأنه مصر وقتها كانت مصر، ولم تكن ولاية عثمانية. ولماذا لا نطالب بحقوق مصر التاريخية في هضبة الأناضول رغم أن محمد على باشا نفسه هو من قام بحملات مجيدة عليها؟ إنه باب لا ينبغي فتحه إلا بمعية خبراء في تخصصات عديدة، أما إيراد بعض الحقائق لصنع صورة بدافع من العاطفة والشعور الوطني، فهو أمر غير علمي. والأهم من الحقائق هو معرفة ما إذا كانت هذه الحقائق صالحة للبناء عليها من عدمه في القضية التي تساق من أجلها.

ما يصلح لطابا قد لا يصلح لغيرها!

ننتقل مع الكاتب إلى أول مرجع موثق في مقالته، وهو موسوعة «محيط الشرائع» لأنطون صفير بك، التي تضمنت ذكرًا لمعاهدة 1906 إذا يصفها بأنها «كانت ضمن أهم السندات المصرية في استعادة طابا من الكيان الصهيوني».

هذه معلومة أخرى صحيحة لا شك فيها، ولكنها تمثل – كما وردت هنا- جزءًا وحيدًا من قصة كبيرة تتضمن الكثير من التفاصيل، فنجاح معاهدة 1906م كدليل في مفاوضات استعادة طابا –التي كانت مستهدفة على وجه التحديد وقت الاتفاقية- لا يعني أنها صالحة لإثبات الأمر نفسه مع جزيرتي تيران وصنافير، لأن ثمة حقائق أخرى تحدّث عنها المختصون تجعل الأمر ليس على هذه الصورة القاطعة من الوضوح، وهو ما لم يُشر إليه الكاتب.

استمر الكاتب في الاستشهاد بمصادر معروفة، مقتبسًا من كتاب «قناة السويس ومشكلاتها المعاصرة» للدكتور مصطفى الحفناوي قوله عن جزيرتي تيران وصنافير: «أما عن الجزيرتين اللتين احتلتهما مصر في خليج العقبة فهما جزيرتان مصريتان سبق أن احتلتهما القوات المصرية عام 1906 أثناء وضع الحدود بين مصر والبلاد العثمانية، فلم يكن في ذلك الاحتلال مفاجأة. ومنذ أن انتهت العلاقة بين مصر والدولة العثمانية ظلت الجزيرتين مصريتين».

لو اكتفى الكاتب بهذا الاقتباس لقلنا أنه يطرحه من باب التفكير في الأمر، لأنه بحالته تلك عميل مزدوج يمكن استخدامه لصالح الرأيين المتناقضين، إلا أن الإضاءة التي تبدو من عنده -لأنها ليست بين قوسي الاقتباس- أظهرت رغبة الكاتب في تحويل المعلومة إلى مستند لتعزيز رؤيته، يقول: «ولم تكن المملكة العربية السعودية قد تأسست أصلا في ذلك الحين إذ أنها أصبحت دولة عام 1932».

هذه العبارة تجعلني شخصيًا أتساءل إن كانت في صالح موقف الكاتب أم ضده، فعدم وجود دولة في هذه المنطقة يوحي بأن الممارسة تمت من دون مقاومة من أصحاب الأرض لأنها كانت تحت قبضة احتلال لا يهتم كثيرًا أو قليلاً سوى بما يحقق مصالحه، ولن يعنيه أن يدافع عن أرض لصالح شعب يحتله، فهل قصد الكاتب هذا الأمر أم أنه قصد بعدم وجود دولة اسمها المملكة العربية السعودية أنها لا يحق لها أن تُراجع أمر ملكياتها بعد ذلك أبدًا؟ وهل يصلح هذا المنطق في تحديد أحقية الدول في ممتلكاتها؟

إلى أن نجد إجابة خبير على هذا التساؤل، فإن المعلومة التي استند إليها الكاتب تصلح لتعزيز رؤية ملكية مصر كما تصلح لتعزيز الرؤية المعاكسة، وعليه فإن ما تبع ذلك من إشارات إلى أن مصر «اكتفت بممارسة بعض الحقوق على الجزيرتين وتخلت عن حقوق أخرى»، يصلح كذلك مدخلًا لوجهتي النظر المتضاربتين، ولا يجوز لأحد الرؤيتين أن يحتكر دلالة تلك المعلومة لصالحه من دون معايير أخرى ذات وجاهة.

جزء كبير من المقالة بعد ذلك مبني على هذه النقطة الدقيقة، ومن الغريب مثلًا أن يستشهد الكاتب لتعزيز رؤيته بمخاطبات بريطانيا للسلطات الجمركية المصرية – بينما يصفها بـ «دولة الاحتلال لمصر المستقلة جزئيا آنذاك»تقر فيها –أي بريطانيا- بالسيادة المصرية على جزيرة تيران، وبسلطة التفتيش المصرية القائمة في الجزيرة ... كسلطة لتفتيش السفن العابرة في خليج العقبة«لأنها مبنية على افتراض قام بتأويله منطلقًا من يقين مسبق بمصرية الجزيرتين وليس من محاولة جادة لإثبات ذلك.

والكاتب في مقالته يحاول أن يصحح للآخرين ما قام به هو نفسه من أخطاء تأويل تحكمه العاطفة، إذا يرى أن النص المقتبس من كتاب «سنوات الغليان» للكاتب محمد حسنين هيكل «تم تفسيره بصورة غير دقيقة للإيحاء بأنه يؤيد تبعية الجزيرتين للملكة العربية السعودية»، ويقفز لتعزيز ذلك إلى موقف الزعيم جمال عبدالناصر مفترضًا أنه كان – أي عبدالناصر- مؤمنًا بأن الجزيرتين مصريتين، من دون أن يقدم أي دليل على ذلك سوى ما يمكن تأويله من خطابه المسجل بهذا الشأن، والذي يمكن ببساطة تأويله – وفقًا للمرجعية القومية العروبية للزعيم الراحل- حديثًا بلسان مصر والسعودية في موجهة الاستعمار، من دون إغفال حق الآخرين في تأويله بأنه حديث مصري صرف ضد كل الأعداء على افتراض أن عبدالناصر كان يرى في السعودية وقتها عدوًا! فمن يملك برهانًا آخر على صحة هذا التأويل أو ذاك؟!

تحتشد المقالة بعد ذلك بالكثير من التعميمات التي لا يمكن وصفها بالحقائق -كما أراد الكاتب أن يوحي- من قبيل «إن كل الخرائط سواء في التاريخ القديم أو الوسيط أو الحديث تثبت إن الجزيرتين والبحر الأحمر وخليج العقبة كانت تحت سيادة مصر أيا كانت الدولة التي تحكمها»، لو كان الأمر كذلك لما نشأت المشكلة من الأساس بالطبع.

ثم يصيغ العبارة التالية معجونة بعاطفة جياشة ويضعها في موقع يوحي بأنها معلومة تصب في صالح رأيه؛ يقول: «وعندما احتاجت الجزيرتين للدفاع عنهما وبذل الدماء من أجلهما في الصراع مع الكيان الصهيوني الذي تأسس بالاغتصاب ويستمر بالعدوان، لم يكن هناك سوى مصر وجنودها الذين دفعوا أرواحهم دفاعا عن الجزيرتين ووثقوا بالدم ملكية مصر لهما فالأرض لمن يستقر فيها ويرتبط تاريخيًا بها وبتفاصيلها ويدافع عنها عندما تتعرض للأخطار والأطماع».

صحيح أنه لم يكن هناك غير مصر عندما احتاجت الجزيرتان للدفاع، وربما يكون صحيحًا أن أبناء مصر دفعوا دمًا فيها (الروايات تتحدث عن أسرى وليس شهداء)، ولكن هنا أيضًا تضليل يجب تفكيكه وهو أن دفاع مصر لم يكن عن الجزيرتين باعتبارهما ملكية مصرية ولكن لمنع المرور في المضيق .

وبعيدًا عن ذلك، ليست هذه القاعدة التي أسس لها الكاتب لإثبات أحقية مصر التاريخية في الجزيريتين، ألا يمكن أن يكون ذلك قد تم باتفاق مصالح قومية بين الدولتين تحت لواء عبدالناصر الذي رأى المصلحة القومية والوطنية كذلك في هذه الصورة؟ وهو امتداد للمصالح نفسها التي دفعت الملك فاروق للقيام بأمر مشابه؟ وهو ما أغفل الكاتب ذكره.

فهل لدينا براهين أخرى تعزز أحد الاحتمالين؟

قفز الكاتب على التواريخ والحقائق التي يمكن أن تعزز الاحتمال الآخر وهو أن الدفاع لا يعني الملكية إنما تم باتفاق مصالح قومية بين الدولتين، ثمة حدث تاريخي مهم يذكره المؤرخ وائل إبراهيم الدسوقي في دراسته -التي سوف نستعرضها في مقال قادم- يقول «في عام 1949م بعد اندلاع الحرب العربية الإسرائيلية، احتلت إسرائيل قرية أم رشراش (إيلات حاليا) وحصلت بذلك على ميناء يطل على مياه خليج العقبة، رغم صدور قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار، فقررت مصر والسعودية السيطرة على مضيق تيران وجزيرتي تيران وصنافير، وقامت مصر بإخطار كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية في يناير/فبراير 1950 بأنها احتلت جزيرتي صنافير وتيران، بمذكرتين جاء فيهما أن هذا الاحتلال نتيجة الاتفاق التام مع حكومة المملكة العربية السعودية. فرأت الحكومة البريطانية أنه طالما أن المملكة العربية السعودية قد وافقت على هذه الاحتلال، فإنه لا يوجد أي مبرر للمطالبة بإخلاء الجزيرتين من القوات المصرية، وإنما عليها أن تقبل هذا الاحتلال. وقد ورد في الوثيقة البريطانية في هذا الصدد أن الحكومة البريطانية لم تكن تعلم أن إسرائيل تخطط للاستيلاء على الجزيرتين». ألا تضيف هذه الحقيقة لمحة هامة أغفلها المقال وهو منشغل بجمع ما يعزز رؤيته من الحقائق؟

لا نقلل من شأن الدم والموقف المصري المدافع عن الجزيرتين، وهو ما استشهد به الكاتب الأستاذ أحمد النجار ولكنه قفز على حقائق لا يجوز القفز عليها، كما أنه وعد في بداية مقالته بأن يعتمد على الحقائق، ولو كان استهلها بأنه سوف يستند على موقف الدفاع ومن بذل الدم كمبرر لتعزيز رأيه في ملكية الجزيرتين لكان لنا حديث آخر.

Comments

عاجل