المحتوى الرئيسى

مصطفى أمين لابنته: عندما كنت في سنك هويت كتابة «الشعر المنثور» وكتبت «مجلة المدرسة» | المصري اليوم

05/02 21:51

بنتان هما نصيب مصطفى أمين من هذه الدنيا..

كانتا كل شىء في حياة أهم صحفى صاحب مدرسة عرفته الصحافة العربية.. البنتان حملتا اسمى أهم سيدتين من حياته، الكبرى رتيبة وسميت على اسم والدته، والثانية صفية على اسم أم المصريين صفية زغلول.

الشقيقتان كانتا تتلقيان الرسائل من أحد جنود الأمن المسؤولين عن حراسة والدهما مصطفى أمين، كانت صفية «فوفى»، وشقيقتها الكبرى رتيبة «ريتا»، تقفان أمام محطة حلوان لانتظار الجندى القادم من ليمان طرة ومعه الرسائل المهربة.

بعض هذه الرسائل التي خطها مصطفى أمين بيده بين عامى 1965 و1974 كانت تحمل توقيع «الرقيب»، الذي كان يطلع عليها قبل تسليمها إلى العائلة، بينما كان يتم تهريب الغالبية بواسطة نفس الجندى.. ولكن بلا توقيع.. وبلا «رقيب»!.

وفى واحدة من رسائله التي خطها بيده في 22 فبراير 1969 وبعد مرور 4 سنوات على سجنه قال مصطفى أمين لابنته «صفية».

أقبلك وأضمك إلى صدرى، وأهنئك بالعيد السعيد راجياً من الله أن يجىء العام المقبل ونحتفل بالعيد معاً ويجتمع شمل أسرتنا الصغيرة الجميلة.

ولعل هوايتك للشعر المنثور لا تزال مستمرة، فإننى عندما كنت في سنك تقريباً هويت كتابة الشعر المنثور!، ففى سنة 1930 كنت طالباً في السنة الثانية بمدرسة الخديوية، وكان للمدرسة مجلة تصدر مرتين في السنة، وأردت أن أكتب فيها شعراً منثوراً فرفضت هيئة التحرير المؤلفة من طلبة السنة الرابعة أن ينشر تلميذ هلفوت شعراً منثوراً في مجلة لا يكتب فيها إلا طلبة السنة الرابعة!، وعندئذ كتبت شعراً منثوراً بعنوان التلميذ البليد، وقلت إنه مترجم عن شارلز ديكنز المؤلف الإنجليزى الكبير، ونشرت المجلة القصيدة!، وفى العدد التالى كتبت شعراً منثوراً بعنوان الطفلة البائسة وقلت إنه ترجم عن الشاعر الإنجليزى ستفنسون فنشرته المجلة أيضاً.. وقال الأستاذ المشرف على المجلة: إنه من غير المعقول نشر شعر لتلاميذ السنة الثانية الهلافيت، ولكن المعقول أن ينشر الشعر إذا كان مترجماً عن كتاب كبار وفلاسفة كبار!.

ومضت السنوات، وكنت طالباً في كلية الحقوق، وذات يوم قرأت في الصفحة الأولى من جريدة الأهرام مقالاً على ثلاثة أعمدة كتبه رئيس التحرير بعنوان «تقدم اللغة العربية في مدارس البنات»، وإذا بالمقال يبشر الشعب بأن اللغة العربية تقدمت جداً جداً جداً في مدارس البنات، حتى إن طالبة اسمها فلانة الفلانية بمدرسة الراعى الصلاح في شبرا، نشرت في مجلة المدرسة شعراً منثوراً مترجماً عن تشارلز ديكنز بعنوان التلميذ البليد، ثم نشرت الأهرام الشعر المنثور.. وفوجئت بأن هذا الشعر هو نفس الشعر المنثور الذي كتبته في مجلة الخديوية قبل ذلك بعدة سنوات بعنوان التلميذ البليد!، وكتبت إلى جريدة الأهرام كلمة قلت فيها إن قصيدة التلميذ البليد التي تستشهد فيها الأهرام على تقدم اللغة العربية في مدارس البنات منقولة نقل مسطرة عن القصيدة المنشورة في مجلة الخديوية قبل ذلك بعدة سنوات!، وأن اللغة العربية لم تتقدم والذى تقدم هو أنه أصبح عندنا «لصات للأدب» بعد أن كان لصوص الأدب وقفا على الرجال، واليوم التالى نشرت الأهرام كلمة بإمضاء مدير مدارس الراعى الصالح هاجم فيها وماج واتهمنى بالادعاء، وقال إننى ترجمت القصيدة عن الكاتب الكبير تشارلز ديكنز، وأن التلميذة ترجمت القصيدة نفسها.. فليس هناك سرقة.

وفى اليوم الرابع نشرت في الأهرام حقيقة قصة هذه القصيدة، وأنها ليست من تأليف تشارلز ديكنز ولا أي شاعر إنجليزى من أول شكسبير لغاية مستر سميث البقال في لندن، إننى أتحدى الناظر أن يأتى بالأصل الإنجليزى للقصيدة، وأننى أنا تشارلز ديكنز، وأسقط في يد مدير مدارس الراعى الصالح.. وقفل فمه ولم يفتحه حتى الآن!. ويمكنك في أي يوم من أيام فراغك أن تذهبى إلى دار الكتب وتطلبى أعداد مجلة المدرسة الخديوية الصادرة في سنة 1929 وسنة 1930 وتنقلى منها قصيدة التلميذ البليد وقصيدة الطفلة البائسة، وسوف تجدين في قصيدة الطفلة البائسة أننى دعوت للاشتراكية وعمرى 16 سنة!.

وهكذا ترين أنك ورثت عنى هواية الشعر المنثور!.

والآن أضمك إلى صدرى وأقبلك، وأهنئك بالعيد وأبعث لك بخالص حبى وشوقى.

والدك الذي يفكر فيك دائماً.

الرجل الذي ملأ الدنيا ضجيجاً من المقالات والانفرادات جلس في السجن وحيداً لا يجد ما يملأ «أيامه الفارغة» وهو التعبير الذي استخدمه في رسالته إلى «فوفى» في 26 إبريل عام 1969، يقول مصطفى أمين:

خطاباتك الكثيرة تسعدنى كثيراً، تملأ أيامى الفارغة، كأنها زيارات استثنائية لم تحسبها إدارة السجن!، أنا لا أقرأ كلامك، وإنما أسمعك تتحدثين، كلماتك المكتوبة لها صوت، ولها رنين!.

تعجبنى ملاحظاتك، والتفاتاتك، وقفشاتك، وأضحك معك، كما كنا نضحك كثيراً في بيتنا.

إننى مسرور أن أسمع منك أن الحالة في البيت أصبحت على ما يرام، وأن الحرب العالمية الثالثة بين مامى وريتا قد توقفت! وأنك وفقت فيما لم يوفق فيه يارنج في مشكلة الشرق الأوسط، وأننى سعيد أنك تمتعت بدبلوماسية لا يتمتع بها أوثانت ويارنج والجنرال أودوبول مجتمعين! وأحب أن ألفت نظرك أن الوسطاء في الحروب تتقطع هدومهم طبقاً للمثل الذي يقول «ما ينوب المخلص إلا تقطيع هدومه.. ولو فقدت الهدوم فهذه مسألة هينة»، وإنما بعض الوسطاء فقدوا حياتهم مثل الكونت برنادوت في فلسطين وهرشلد في الكونغو! وفى الواقع أنا أتمنى أن تكون علاقتكما دائماً طيبة بوالدتكما، ومن السهل جداً إرضاء أمهاتنا، إن كلمة حلوة من الابنة لأمها تساوى عندها مليون جنيه، وكلمة جافة تساوى عندها قنبلة من مليون رطل!

وأننى أشكرك لأنك تجمعين القصة المسلسلة لأقرأها عندما أخرج إن شاء الله، ولقد ضحكت كثيراً على الخناقات والضرب الذي وقع بين زميلاتك بشأن قصة الآنسة هيام، وآسف أننى لا أستطيع أن أفض هذه الخناقة بينكن وأوقف إطلاق النار والويل للرجل الذي يحاول أن يفض الخناقة بين بنات، إن النتيجة المحتمة أن تترك البنات خناقتهن ويشتبكن في خناقة كبرى مع الرجل، فأنا لم أقرأ القصة كلها ولهذا لا أستطيع أن أرد على أسئلتك، ولا أستطيع أن أعرف من هو الكاتب هل هو أنيس منصور أم إحسان عبدالقدوس أم التابعى أم توفيق الحكيم، ولو كنت قرأت القصة كلها فقد أعرف من هو كاتبها، وقد أعرف من هي بطلة القصة، وإن كنت أعتقد أن القصة واقعية، وأن كل ما فعله المؤلف أنه غير الأسماء وغير بعض الحوادث ليخفى الأسماء التي لاتزال على قيد الحياة.. وعلى كل فقد سررت أن الطالبات الصغيرات ينشغلن في مناقشة القصص ومناقشة أساليب الكتاب، وإن كنت لم أتوقع أن قصة من هذا النوع تعجب فتيات السابعة عشرة، ومن يسميهم بعض الناس ظلماً جيل الخنافس! والواقع أننا كنا «خنافس» بالنسبة لأفكار آبائنا، وسيكون فكر أولادك خنافس بالنسبة لك! ولكننى أؤمن بأن كل جيل يفوق الجيل الذي سبقه، والذين كانوا يركبون الحمير كانوا ينظرون إلى راكبى السيارات على أنهم مجانين! والذين كانوا يركبون السيارات كانوا يعتقدون أن من يركبون الطائرات يجب إدخالهم إلى مستشفى المجاذيب! تماماً كما ننظر الآن بدهشة إلى الذين يحاولون الوصول إلى القمر! فيجب أن تطمئن أن جيلك أحسن من الجيل الذي سبقه! في سنة 1938 زرت مستشفى المجاذيب، ووجدت سيدة أدخلت المستشفى قبل عشرين سنة لأن أهلها اعتبروها مجنونة لأنها قصت شعرها!! ولو ذهبنا إلى مستشفى المجاذيب الآن لوجدنا سيدة أخرى أدخلوها إلى المستشفى لأنها لم تقص شعرها!

أشكرك جداً لفكرة إرسال مجلة حواء، إننى مع شدة إعجابى بها وبأمينة السعيد رئيسة تحريرها إلا أن المجلات التي تصلنى في الوقت الحاضر تكفى، وخطاباتك ألذ من مجلة حواء!

أرجو أن تبلغى تحياتى القلبية إلى جيرانى؟؟؟؟ وسؤالى عن صحتها، راجياً من الله أن تكون دائماً في أتم صحة وعافية.

وتحياتى وسلامى إلى مامى وأنكل مسعد وأنكل محمد وتانت ميمى وقبلاتى إلى سميرة ولبيب وكوكا.

ولك منى ألف ألف قبلة وإلى اللقاء يوم الثلاثاء

والدك الذي يفكر فيك دائماً

في الوقت الذي كان يقضى مصطفى أمين سنوات السجن بمصر، كان توأمه على أمين في لندن يعانى من فراق توأمه، الذي عاصر معه النجاحات والهزائم.. في صيف 1969 سافرت «صفية» إلى عمها على أمين، وقضت معه شهورا.. وعادت إلى مصر لتتلقى رسالة جديدة من الأب يوم 15 أغسطس 1969 يقول فيها:

ولو أننى متأخر في تقديم التهنئة كل سنة وأنت طيبة.. وكم كنت أتمنى أن أكون معك في عيد ميلادك، ولكن يكفينى أن أخى كان معك في هذه اللحظات السعيدة، وكأنه أب!

ها أصبح عمرك 15 سنة! إنك تضعين قدمك الآن على أحلى فترة في العمر، ما أشبهك بأرمسترونج الذي وضع قدمه على القمر! فالعمر الذي يبدأ من هذا السن أشبه بكوكب جديد، بعالم جديد، بحياة جديدة، ومشاعر جديدة، وأحلام جديدة!

في هذا السن تتفتح الفناة كما تتفتح الزهرة، يزداد جمالها، وتتضاعف حلاوة رائحتها، فأنت الآن سيدة صغيرة.

ومنذ العام الماضى ودعت الطفولة، ومنذ هذا العام تستقبلين الشباب، بكل فتنته وروعته وحلاوته، والشباب لا يتكرر أبداً، إنه العيب الذي يتمناه كل من جاوز الشباب.

ولقد لاحظت دائماً أنك أكبر من سنك، المهم أن تكون دائماً عقولنا أكبر من عمرنا، وأن تكون روحنا أصغر من عمرنا!

وكل ما أتمناه أن تكون كل أيامك المقبلة سعادة، أن تستمرى كما أنت دائماً الفيلسوفة الساخرة! إن الحياة لا تساوى الدموع التي نسكبها فيها، إن دموعها أغلى منها! إننا يجب أن نكون لدينا دائماً القدرة أن نضحك.. أن نضحك من الصعاب التي في طريقنا، أن نهزأ بالأزمات التي نصادفها، أن نضحك من أنفسنا في بعض الأحيان!!

لا تحملى على رأسك هموم الدنيا، قديماً قالوا إن الدنيا فوق قرن طور! وتصور بعض الناس أن هذه حقيقة جغرافية فحملوا على رؤوسهم الدنيا كلها! وقد ثبت من اكتشاف القمر أن الطور هو الذي كان يظن هذا!

يجب أن نعمل على سعادة أكبر عدد من الناس، كلما زادت سعادة الناس تضاعفت سعادتنا، لا يمكن أن يكون في الدنيا سعيد بمفرده، السعادة مثل القبلة لابد لها من اثنين!

وأنا مسرور مما جاء في خطابك من أن أمنيتك أن تعملى، إن الذين لا يعملون لا يعيشون! العصر القادم لا مكان فيه للذين لا يعملون، ولعلك رأيت بنفسك في إنجلترا أن هذا الشعب يلهوا كثيراً، ولكنه يعمل كثيراً، والذى لا يعمل ليس من حقه أن يلهو!

إننى أتصور أنك استفدت كثيراً من البرنامج الذي وضعه أنكل على لهذه الرحلة، لقد وافقته، على طول الخط، على وجهة نظره، وسررت أنك وفوفى قد وافقتما على هذا البرنامج.

إن ترحيبك بهذه الفكرة يدل على أنك أصبحت فعلاً سيدة صغيرة، لها شخصية، وتريد أن تستفيد من كل دقيقة لتتعلم شيئاً جديداً، وترى شيئاً مختلفاً.

إنك وحشتينى جداً، ولكن لا تقدرى سعادتى بأن أقرأ في خطاباتك مقدار سعادتك بهذه الإجازة.

أرجو أن تبلغى سلامى إلى تانت حسيبة وأنكل سعيد وإلهام، وفى الختام أضمك إلى صدرى وأقبلك.

وإلى اللقاء القريب بإذن الله.

والدك الذي يفكر فيك دائماً.

قبل الإفراج عنه بأربع سنوات، تحدث الأب إلى ابنته، عن ألوان استغلال صحف «أخبار اليوم»، لكذبة إبريل في الحملات الصحفية..!

يروى الأب ساخراً لابنته في 6 إبريل عام 1970 أهم حكايات «كذبة إبريل»..

يقول مصطفى أمين في رسالته..

أنا أيضاً شعرت بسعادة كبرى وأنت بين ذراعى في الزيارة الأخيرة، إننى أعيش شهراً كاملاً على هذه الدقائق القليلة التي أمضيها معكم، والذى يسعدنى حقيقة أن هذا الفراق الطويل لم يستطع أن يضعف الرابطة القوية التي بيننا، بل على العكس زادها أضعافاً وأضعافاً، فالذى يصنعه الله لا يستطيع أن يحطمه أي إنسان.

نرشح لك

أهم أخبار صحافة

Comments

عاجل