المحتوى الرئيسى

الأساس الحضارى للآثار الفرعونية (2)

05/01 22:19

وإذ نواصل قراءتنا الفكرية والأخلاقية والثقافية للحضارة الفرعونية نجد أن «ديورانت» فى موسوعته «قصة الحضارة.. الشرق الأدنى» حاول أن يلفت نظرنا ليس إلى ما بقى من منشآت الفراعنة إنما إلى ما ضاع منا من قيمهم التى تحدث عنها طويلاً سواء فى نظام حكومى متسق يكفل الأمن ويواجه الفساد ويعتمد على العلم والتعليم، ويقول «لقد ارتقوا بالكتابة ونهضوا بالآداب والعلوم والطب والهندسة والجغرافيا، وقد أقاموا حضارتهم على دستور واضح للضمير الفردى والضمير العام للمجتمع، واهتموا بالعدالة الاجتماعية، وهم أول من عرف نظاماً يرفض تعدد الزوجات‏.‏ لقد كتبوا فى الفلسفة والهندسة وبرعوا فى فن العمارة، وتعلموا مبدأ الإتقان فى كل ما يفعلون»، ثم يقول «لعله من الخير لنا أن نحاول الارتقاء كى نصل إلى مستواهم‏».

ويقول «سارتون» فى كتابه «تاريخ العلم»: «لقد بلغ علماء الرياضة والهندسة والطب عندهم درجات مهمة فى السلم الذى ما زلنا نحن نحاول الصعود فيه». وتقف عالمة المصريات مرجريت مرى فى كتابها «مصر ومجدها» فى صف الفكرة التى نحاول نحن تأكيدها إذ تقول: «إن جوهر تقدم المصريين هو عناصر متكاملة فى الفكر والمثل العليا والتربية الروحية».. أما أحمد باشا كمال، وهو أول عالم مصرى للمصريات، فيقول فى كتابه «بغية الطالبين فى علوم وعوائد وصنائع قدماء المصريين»: «إن أجدادكم قد رفعوا للعلم أعلى منار وكانوا بين الأمم كعلم فى رأسه نار، حتى انقلبت حكمتهم فى أزمتنا الحالية جهلاً». ‏

أما الدكتور محمود سلام زناتى، وهو أحد أكثر من كتبوا فى هذا المجال عمقاً، فقد ركز فى كتابه الرائع «حقوق الإنسان فى مصر الفرعونية» على أن احترام حرية الأفراد وضمان العدالة الاجتماعية والانعدام التام للفوارق الاجتماعية أمام القانون واحترام الحقوق الإنسانية والاجتماعية، كانت الأساس للتقدم العلمى الذى وضع قواعد النهضة الفرعونية».‏

وينقل لنا نصيحة الملك «تيتى» لابنه: «إن من يحوز ما يكفيه لا تسهل رشوته، أما المحتاج فلا ينطق بالحق». ويمضى الدكتور زناتى لينقل لنا قواعد السلوك التى كان يتلقنها القضاة: «أيها القاضى.. إنك تحاسب الناس فى الدنيا والإله يحاسبك فى الآخرة، فلا تنطق بغير الحق، ولتزن نطقك بعقلك وليس بقلبك، ضع ميزان العدل أمامك والظلم خلف ظهرك، إياك أن تصدر أحكامك وفق رأيك، بل ارجع إلى الشرائع المرسومة التى تأمر بالعدل والإنصاف التى وضعها الإله، الإله يأمر بالعدل ولا يرضى بالظلم، ولتبنِ رأيك على الأدلة والبراهين التى يبتهج بها ضميرك، وإذا جلست أمام الميزان فالتزم بالحق المطلق بين الناس جميعاً، لا فرق بين غنى وفقير أو مالك ومملوك، ولا تمالئ الأغنياء على حساب الفقراء، ولا الأقوياء على حساب الضعفاء، فالناس إذا ما اختصموا سواسية، أيها القاضى.. اجعل همسات المظلومين تطغى على صراخ الظالمين، فالحق يغلب القوة والإيمان يحطم الأغلال.. وأخيراً أيها القاضى لا تحكم على الناس بأفعالهم حتى تعرف دوافعها‏».‏ ويبقى أن قانون «حور محب» قد نص على معاقبة القاضى المرتشى بالإعدام‏.

وهكذا يلخص الدارسون للعصر الفرعونى «الماعت»، التى نسميها وعن حق «مفتاح الحياة»، بأنها الضمير الملتزم بالحق والعدل والحكمة والمساواة.‏

لكن أستاذنا د‏.‏ محمود سلام زناتى يمنحنا المزيد من المعرفة بهذا الالتزام الذى يمتد لاحترام حقوق العمال، ثم يمتد لحقهم فى الإضراب وفى التعامل مع المضربين حتى هؤلاء الذين يضربون فى المزارع المملوكة لفرعون والمملوكة لمعابد الآلهة، بصورة حضارية وديمقراطية، ويقدم لنا نماذج عديدة، منها وثيقة وردت فى برديات متحف تورين، ونقرأ: «فى العام ‏29‏ الشهر الثانى من الفصل الثانى، اليوم العاشر اقتحم فريق العمال فى الجبانة الأسوار الخمسة صائحين (لن نعمل ونحن جياع) وجلسوا خلف معبد تحتمس الثالث، وجاء إليهم الرؤساء قائلين لا بد أن تعودوا فمعنا أمر الملك بذلك، لكنهم لم يتراجعوا، وفى اليوم الثالث هجموا على معبد رمسيس الثانى، وهو مكان مقدس ووعدهم كبير الشرطة برفع الأمر إلى عمدة طيبة، وصاح العمال (لقد جئنا إلى هنا بسبب الجوع، نحن بدون ثياب وبدون زيت وبدون سمك، اكتب إلى فرعون سيدنا الطيب وأخبره بذلك، واكتب إلى الوزير، افعل ذلك كى نعيش)، وتراجع رئيس الشرطة وأمر بفتح الخزانة الملكية وصرفوا لهم مخصصات الشهر السابق، لكن العمال صمموا على مواصلة الإضراب مطالبين بمخصصات الشهر الحالى، وهنا حضر لهم «منفو موسى» رئيس الشرطة وقال لهم (اذهبوا إلى منازلكم واجمعوا أمتعتكم وخذوا زوجاتكم وأطفالكم وسأتقدمكم جميعا إلى معبد تحتمس الثالث)، وفى اليوم الثامن من الإضراب صرفت لهم كل مخصصاتهم‏».

ثم يورد لنا واقعة أخرى: «فى العام الثالث من حكم رمسيس العاشر توقفت فرق العمال عن العمل وعبروا النهر واحتلوا مقر رئيس الكهنة وقضوا الليل فيه، وفى الصباح أصدر كبير الكهنة أوامره (اذهبوا إلى مخازن غلال الوزير واعطوا رجال الجبانة مؤونتهم منها)».. ويعلق الدكتور «زناتى» على هذه التصرفات قائلاً: «لقد تم التعامل مع العمال المضربين بصورة مهذبة وحضارية ومُنحوا مستحقاتهم واعترف لهم الجميع بحقوقهم، وبأن هناك ما يبرر إضرابهم ولو كان الفرعون طاغية لأمر رجاله بهدم القرية على رءوس‏ أصحابها، وألقوا بهم وراء الشمس».

وما نريد أن نقول هو تأكيد حالة حضارية تستند إلى معطيات محددة، هى‏: الحق والعدل ونزاهة القضاء، واحترام حقوق الجميع بما فى ذلك حق العمال فى الإضراب وتأكيد العدل الاجتماعى، ويضاف إلى ذلك ويسبقه معطيات ولدت كل ذلك، هى‏: العقل والعلم والحكمة‏.‏

هذا هو السؤال الذى يتلوه سؤال آخر‏: ومتى وكيف نستعيد بعضاً من القدرة الفرعونية على العطاء والتقدم والبناء‏؟‏

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل