المحتوى الرئيسى

«البنية الأسلوبية..» لمهى الخوري: معاجم وأساليب ورؤى

04/30 00:30

قد يكون من الصّعوبة بمكان وضْع تعريف محدّد لكلمة أسلوب، وذلك لأنّ هذه الكلمة لا تختصّ بالمجال اللساني فحسب، إنّما تستخدم في العديد من المجالات الحياتيّة اليوميّة، إذ يمكن الحديث عن الأسلوب في الفنّ والسّياسة والمجتمع. ويتمّ التّمييز بين الأسلوب الأدبي وبين الأسلوب غير الأدبي. ومع تطوّر الدّراسات صار بالإمكان الحديث عن أسلوبيّة الانزياح، والأسلوبيّة البنيويّة، والأسلوبيّة التوليديّة - التّحويليّة... ويبقى الأسلوب هو المعبّر عن شخصيّة الكاتب(ة) ومنطلقاته وخلفيّته الإيديولوجيّة.

يأتي كتاب «البنية الأسلوبيّة في شعر أنسي الحاج ويوسف الخال وعبد الوهاب البياتي» للدكتورة مهى الخوري (دار سائر المشرق) في مجال الدّراسات التي تُعنى باستخراج لعبة القوانين الداخليّة في النّصّ الشّعري، وتعمل على تشكيل النّصّ وإعادة إنشائه في محاولة فهمه، واكتشاف العناصر المكوّنة للهيكل النّاظم، ولا سيّما البنى الصّرفيّة والنّحويّة والتّركيبيّة.

انتهجت الباحثة المنهج الأسلوبي الذي يُتيح كشْف البنية العميقة للنّصّ من خلال المعالجة اللغويّة، ويتّسم بالمرونة في توظيف مستويات اللغة الموسيقيّة ّوالصّرفيّة والنّحويّة والدّلاليّة. واعتمدت في بعض المباحث الوصف المقترن بالإحصاء، حيث حدّدت الظّاهرة المدروسة ووصفتها، ومن ثمّ كشفت أبعادها الجماليّة معوّلة على السيّاق بوصفه سلسلة لغويّة مستمرّة في تقدير الإيحاءات الجماليّة والدّلاليّة. طبّقت الدكتورة خوري الخطوط الأساسيّة للأسلوبيّة على شعر أنسي الحاج ويوسف الخال وعبد الوهاب البيّاتي، فأظهرت قوانين الإبداع في بنية الخطاب الأدبي بوصفه نصًّا متعدّد المعاني.

اعتمدَت الكاتبة في دراستها على النّصّ الشّعري، وعلى طاقة الّلغة الشّعريّة، وإمكانيّاتها الفنيّة والجماليّة والإبداعيّة. وركّزَت دراسة خطاب دواوين الشّعراء على الأسلوبيّة الوظيفيّة والأسلوبيّة الوصفيّة التّعبيريّة والأسلوبيّة الذّاتيّة الفرديّة والأسلوبيّة الإحصائيّة.

جاء الكتاب في بابين؛ تمّ تخصيص الباب الأوّل لدراسة المستويات الإيقاعيّة والتّركيبيّة والمعجميّة والدّلالية في الدواوين موضوع البحث، فتناولت القصيدة الكلاسيكيّة عند الخال والبياتي والقصيدة الحرّة عند الشّعراء، في نماذج من شعرهم، عبر محورَي الإيقاع الخارجي والإيقاع الدّاخلي. وخصصت مبحثاً لدراسة القصيدة الخالية من الوزن، التي تستعيض عن البحور الكلاسيكية بإيقاع خاص، يخضع لتجربة الشاعر وحركة رؤياه. وتناولت المستوى التركيبي والتّشكيل البلاغي عند الشعراء الثلاثة.

بحثت في الباب الثاني أهميّة الصّورة في بناء الشّعر. وتوقّفت عند قضيّة التّناص على المستويين: الديني والأدبي. وتناولت البنية الدّلاليّة الكبرى، فظهر توافق ملامح البنية الأسلوبيّة مع خصائص البنية الكليّة في نماذج مختارة من شعر الحاج والخال والبياتي. ورصدت أبعاد التّحوّلات في نصّ الشّعراء الثّلاثة على الصّعيد التاريخي والثّقافي والسياسي والواقعي والاجتماعي.

وتكمن أهمّيّة هذا الكتاب في قدرته على إصابة مكامن الحساسيّة المتأثّرة لدى المتلقّي وعلى جعله يتتبّع بصمات الشحن في الخطاب الشعريّ لتبرز أمامه مفارقات عاطفيّة وجماليّة واجتماعيّة ونفسيّة عند شعراء ثلاثة تلاقوا من خلال قدرتهم على الإيحاء عبر معجم شعريّ مقطوع عن التراث اللغويّ المتداول يمثّله أنسي الحاج، ومعجم متّسق مع الصيرورة والحركة والتجدّد يمثّله يوسف الخال، ومعجم منسوج بالحيرة والقلق والصراع يمثّله عبد الوهّاب البيّاتي. وبذلك، يتلاقى الشعراء الثلاثة في معجمٍ يعكس البحث عن الذات في ظلّ زيف الوجود الواقعيّ وقصوره، ولكن تميّز كلّ منهم بفرادته لغةً وصورًا وتركيبًا وفكرًا، وعبّر كلٌّ منهم عن رؤيا شعريّة خاصّة به.

وقد استطاعت الكاتبة أن تؤكّد، عبر منهج علميّ صارم، أنّ عناصر عديدة ومقوّمات ومكوّنات من صور ورموز وأساطير واستدعاءات واقتباسات ارتكز الشعراء عليها في صوغ تجربتهم الشعريّة، وفي توليد دلالاتهم، وتاليًا في خلق عالمهم الشعريّ المميّز.

نرشح لك

Comments

عاجل