المحتوى الرئيسى

محمد بلعيشة يكتب: الصراع في الشرق الأوسط: الفواعل والديناميكيات | ساسة بوست

04/29 19:29

منذ 11 دقيقة، 29 أبريل,2016

يعيش الشرق الأوسط حالة من السيولة والانسداد السياسي، ربما لم يعرفها في حقبات مضت، فأخذ يعرف موجة من التغيرات التي كان من أهم سماتها تمييع الحدود واتساع مسامها، وضمور الكيان الدولاتي الويستفالي، فضلًا عن العبث في معادلة الأدوار الإقليمية، وإضفاء طيف حضاري على المعاملات الإستراتيجية في الشرق الأوسط، إذ أخذ كل طيف ينصب نفسه حاملًا للواء حضاري كان ضاربًا في عمق تاريخ المنطقة سابقًا، فمن يتابع تشكل المنطقة في سياق كرونولوجيا منتظمة متراكمة سوف يجد مداركه حول المنطقة تقول بـ: عن أي شرق أوسط أصبحنا نتحدث؟

عرف الشرق الأوسط حزامًا أزماتيًا مقسمًا على عدة فترات زمنية، كان كفيلًا بالتغيير في ملامح المشهد السياسي للمنطقة، فبإنزال هذه التغيرات في قوالب نظرية يمكن للمتتبع أن يلمس جليًا أن المنطقة تسير من الطيف الأوسع للمفاعيل السياسية إلى مشهد سياسي أضيق، فكانت البدايات الأولى محكومة بمنظور الواقعية، إذ عرف الإقليم حروبًا عربية- إسرائيلية تلتها اتفاقات ومعاهدات كان للكيان الدولاتي الأثر الكبير فيها، كما وتخللتها الحرب العراقية الإيرانية وعاصفة الصحراء، وهكذا نقول بأن التحليل السياسي لواقع المنطقة في هذه الفترة كان يخضع للمنظور الواقعي.

سقط الاتحاد السوفياتي، وحدث تغير هيكلي في هرم النظام الدولي، اختفت متغيرات وبرزت أخرى في المنطقة، كالهوية وصدام الحضارات، وجدلية الإسلام والغرب، فأخذ المنظار الليبيرالي يكرس نفسه جوًا سائدًا على المنطقة، فانتقل الحيز الأزماتي من أزمات ما بين الدول إلى ما بين فواعل ما دون الدول، فأخذ الصراع في الشرق الأوسط أشبه ما يكون بصراع جيو-ثقافي أو حضاري، وتفرقت الأدوار الإقليمية ما بين دول وجماعات فكرية دينية أو سياسية، مثل حزب الله اللبناني، وحركة حماس في فلسطين، حتى طابع الصراع العربي- الإسرائيلي انتقل إلى صراع فلسطيني- إسرائيلي في ثناياه طابع إسلامي- يهودي.

أطل علينا 11 سبتمبر، فتغيرت كل مدارك البشر تجاه ما يحدث في العالم، وبخاصة تلك المدارك التي كانت ترى في الشرق الأوسط مرسلًا للطائرات المهاجمة، فسواء كانت الهجمات صناعة أمريكية أو إسرائيلية وغيرها كما ادعى الكثير، إلا أنها كانت كفيلة بالعصف بالواقع المفروض في المنطقة، فبعد غزو العراق وأفغانستان وتغييب العراق كقوة إقليمية في المنطقة بضربة عسكرية، وتعطيل الدور المصري بمجموعة من الاتفاقات السياسية، أصبحنا أمام حالة من الفراغ الإقليمي، إذ كرست الإقليمية الجديدة نفسها جوًّا سائدًا في الشرق الأوسط، إذ تعتمد هذه المقاربة مبدأ انتقال القوة وتوزيعها وإعادة انتشارها، فأصبحنا نتحدث من هذا المنطوق عن قوى إقليمية بديلة تتنافس وتتصارع لريادة الإقليم مجسدة في الثلاثي الإقليمي الإيراني- الإسرائيلي- التركي.*

وفي نفس السياق وغير بعيد عن هذه القوالب النظرية، اندلعت الأحداث العربية ساحبة معها الإقليم إلى حالة من المرونة والذوبان، تتداخل فيها الأطراف المشكلة للإقليم ببعضها البعض، فلم نعد نتحدث عن إيران في حدودها الوستفالية، بل أصبحنا نتحدث عن نفوذ إيراني في عديد الأقطار الشرق أوسطية، فعلى سبيل أصبحت أي دولة من الإقليم تنافس إيران إقليميًّا فعليها أن تنافسها في خطوطها الأمامية مثلًا في سورية أو العراق أو حتى الخليج، وكذلك نفس الأمر بالنسبة للعربية السعودية والتي تخلت عن المنابر السياسية العربية، وتوجهت لخلق مناطق نفوذ لها هي الأخرى ولو بالمقاربة الصلبة لإدارة الأزمات في الشرق الأوسط، هذه السيولة والأحداث عبثت حتى في ميزان القوى الدولي، فقد تطورت الأوضاع لدرجة تحول أمريكا إلى أسلوب القيادة من الخلف، بعد أن كانت ضابط الإيقاع فيها، وروسيا هي الأخرى تبنت عقيدة تدخل مباشر  في الشرق الأوسط.

كان صدام حسين وفواعل أخرى محاور تفاعلات سياسية في الشرق الأوسط لفترة غير بعيدة، لكن هؤلاء كانوا قادة لكيانات رسمية وتنظيمات قوية، أما اليوم فالبوعزيزي بائع الخضار في تونس قد عبث في النسق الدولي، لقد تبسطت الأمور في الإقليم إلى درجة الغرابة، فهل يعقل لأسخن منطقة على وجه المعمورة أن يغيرها فعل شاب ربما لم يفقه في السياسة، ولم يقرأ لبريجينسكي وبرنارد لويس وغيرهم، ولم يكن يحلم حتى بأن يحظى بمقابلة مع رئيس بلديته ليسمع انشغاله، هل تغيرت الأمور وكذلك معها المقاييس لهذه الدرجة؟ أم أن ذلك مرده إلى فشل شخصيات ومدركات كنا نعتقدها ذات وزن وصحة يومًا ما، فقد خالفت عدة دول أمريكا في الشرق الأوسط وعارضتها لكن لم تتجرأ على التأثير فيها بقدر ما أثر البوعزيزي، من كان يتصور أن البوعزيزي سيسلب أمريكا حلفاءها في المنطقة الشرق أوسطية؟ ومن كان يتوقع أنه سيكون سببًا في عاصفة الحزم؟ وهل سمع بوتين بهذا الشاب الذي كان سببًا في إدخال قواته لسوريا؟ وغيرها من الأحداث المفصلية التي عرفها الإقليم وما زال يتعرف إليها.

في حادثة هي الأخرى من نوعها، كاد يتسبب حكم إعدام رجل الدين السعودي الشيعي نمر في نشوب حرب إقليمية، إذ تسبب في قطع علاقات دبلوماسية لأكثر من بلد عربي مع إيران، فالمملكة العربية السعودية لم تحرك ساكنًا تجاه السجال العراقي الإيراني سابقًا رغم أنه بين دولتين وجيشين نظاميين، لكن حكم إعدام كان كفيلًا بذلك، لكن إن كان الإعدام ذا تأثير هكذا، فلماذا لم يلق إعدام صدام حسين فجر العيد هذا التصعيد؟ إذ يعتبر إعدامًا مستفزًا مكتمل الأركان أكثر من استفزاز إعدام نمر، لقد تغيرت الأمور بالفعل في الشرق الأوسط، فما عجز رواد السياسة عن تحقيقه، تحققه الآن جزئيات مجهرية في الإقليم.

لقد انتقل الصراع في الشرق الأوسط من أوسع معانيه وهي الدولة، إلى أضيق المعاني وهي الفرد مرورًا بجسم وسيط هو المنظمة، إذ حققت طاولة الخضار تغييرات في حوالي خمس سنوات أحسن أكثر من ما حققته طاولة الأمم المتحدة لعقود من الزمن، الأمر الذي يجعل المهتم بشؤون المنطقة أمام تحدٍ آخر ربما يعجز عن تشخيصه السياسيون والأكاديميون، وهو ماذا يجب أن تمتلك لتسود في الشرق الأوسط؟

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل