المحتوى الرئيسى

«صناعة الطوب ».. انهيار بأمر «الدولار» (تحقيق) | المصري اليوم

04/22 21:29

للوهلة الأولى، تبدو منطقة عرب أبوساعد، مركز الصف جنوب الجيزة، وكأنها منطقة أشباح، تستقبلك قبل الوصول إليها بمئات الأمتار بمداخن مصانع الطوب، إلا أن المداخن هذه المرة، كانت متوقفة عن العمل، فلم يعد يلوح دخان في الأفق، بعد توقف أكثر من 600 مصنع طوب، في المنطقة، يعمل بها آلاف العمال، أتوا من كل مكان في مصر، خاصة صعيدها. في الشوارع غير الممهدة للمنطقة الصناعية، التي كان من المفترض أن تكون صديقة للبيئة، توقفت المعدات في كل مكان، فيما لم يعد للبشر وجود تقريبًا، إلا في بعض مصانع، لحماية المعدات الموجودة بداخلها، تلال من الطين الجاف والطوب الأحمر والأخضر المكسور على جانبى الطريق، أما على أبواب المصانع فوضع أصحابها تلالا صغيرة من التراب و«الطفلة» (الطين الذي يصنع منه الطوب) لمنع دخول أي معدات غريبة للمكان أثناء توقف العمل.

تحذيرات كثيرة سبقت الوصول إلى هذه النقطة، التي توقفت عندها المصانع، وعاد آلاف العمال إلى مدنهم وقراهم وهم يحلمون باستئناف العمل من جديد، فالجنيهات القليلة، المتبقية من المرتب، شارفت على النفاد، ويقول أصحاب المصانع المتوقفة إنهم محملون بتكاليف إضافية ومبالغ هائلة، دون أي دعم، فيما لا يستطيعون تحميل المستهلك بكل هذه الزيادة، التي كان من أبرزها، والمتسببة في التوقف، زيادة أسعار الغاز والإيجار السنوى للأرض.

يبلغ متوسط مساحة مصنع الطوب 10 فدادين، (الفدان 4200 متر) من بينها 1000 متر تستخدم كفرن، والباقى يستخدم كـ«مناشر» يوضع فيها الطوب قبل إدخاله للفرن، ويكلف خط الإنتاج، الذي يحول «الطفلة» (سعر المتر منها 20 جنيهًا) إلى طوب أخضر حوالى 600 ألف جنيه، حيث يوضع عليه التراب، قبل أن يدخل كسارة، ثم طاحونة فخلاط، وبعدها مكبس، وتسمى هذه المرحلة، الكوم والخط، وبعد ذلك يخرج قالب الطوب الأخضر لينقله العمال إلى عربة حديدية يجرها حمار أو بغل ليتم فرشه في المفارش لمدة 4 أيام في الصيف أو 10 في الشتاء، في مرحلة جديدة تسمى مرحلة الخضراء، (نسبة إلى لون الطوب في هذه المرحلة) بعد ذلك يتم نقله إلى الفرن، وحرقه ثم نقله بعد ذلك تمهيدًا لبيعه.

في مكتب بسيط، داخل مصنعه المتوقف عن العمل بشكل كامل، جلس سيد عمر سرور (29 عامًا)، صاحب مصنع، يناقش زيادات أسعار الغاز والأراضى مع صاحبى مصنعين آخرين، ووجه حديثه إلينا قائلًا: «المصنع مقام على 8 فدادين، مرحلة الكوم والخط تستوعب وحدها 30 عاملًا في مصنعى، ومثلهم في مرحلة الخضرة، و6 في مرحلة السكينة، و10 في الحريق، و40 عامل عصفور، الذي ينقل الطوب من الفرن للخارج»، وأضاف: «خط الغاز كان منحة كندية، لكنهم باعوه لنا بواقع مليون جنيه لكل فرن بالمصنع، عندى فرنين غاز واقفين دافع لكل فرن مليون جنيه».

وبدأت الشركة القابضة مؤخرًا بزيادة أسعار الغاز تدريجيًا، حتى بلغ ثمن المليون وحدة حرارية 5 دولارات، في الوقت الذي انهار فيه الجنيه المصرى أمام الدولار، الذي يعد عملة المحاسبة على الغاز في هذه المصانع.

وتابع «سرور»: «المشكلة أنه لا يوجد ضغط غاز، مما يضطرنا إلى شراء مازوت وجاز لحرق الطوب، وهذا هو السبب الرئيسى للأزمات في محطات البنزين، فأصحاب المحطات يفضلون بيع البنزين للمصانع لأنهم يبيعونه بـ 2.5 جنيه، بدلًا من 195 قرشا في المحطة، في البداية ضغط الغاز كان يتراوح بين 500 و600 أمبير، أما اليوم فالضغط لا يتجاوز 80 أمبير، نصفه هواء، والنصف الآخر غاز، وعدم وجود غاز بالضغط الكافى يتسبب في إنتاج طوب بمواصفات سيئة، ومن المفترض أن تكون هذه المصانع صديقة للبيئة، لكن للأسف بسبب عدم وجود ضغط غاز، نلجأ للمازوت والسولار وهى مواد ملوثة للبيئة».

وإضافة إلى «انعدام» ضغط الغاز تقريبًا، كما يقول «سرور»، فإن الأسعار المتزايدة للغاز تعد هي الأخرى واحدة من أهم المشاكل التي تواجه مصانع الطوب، مضيفا: «كنا ندفع حتى عام 2008، بينما كان ضغط الغاز من 500: 800 أمبير، من 15: 20 ألف جنيه كل 15 يوما، أما اليوم، ورغم عدم وجود ضغط تقريبًا تتراوح فاتورة الغاز بين 135: 150 ألف جنيه كل 15 يومًا، أي حوالى 300 ألف جنيه شهريًا، بالإضافة إلى أنهم يحتسبون الغاز لنا بالدولار الأمريكى وليس الجنيه المصرى».

أثناء حديثه عن زيادة أسعار الغاز، حضر موظف الشركة، بادره قائلًا: «مش هتشوفوا لنا حل في الأسعار دى»، ليرد عليه الموظف: «ده قرار رئيس وزراء»، في إشارة إلى قرار رئيس الوزراء السابق، إبراهيم محلب، برفع الدعم عن أسعار الطاقة، ثم يضيف: «الغاز سعره لم يزد، ما زاد هو سعر الدولار، المشكلة ليست في الغاز، المشكلة في الاقتصاد كله، نحن نبيع الغاز بالأسعار العالمية، ولا أحد يدفع بالدولار وإنما مقابل الدولار، المشكلة أنه عندما يزداد سعر الدولار في السوق، يزداد سعر الغاز».

قال محمود بدوى، صاحب مصنع: «صرفت على توصيل الغاز للمصنع أكثر من مليون جنيه، وحاليًا أعمل بالمازوت، ولأننى ليس لى حصة مازوت، أضطر لشرائه من السوق السوداء بضعف الثمن، وآخر مرة اشتريته بثلاثة أضعاف ثمنه».

وأسعار الكهرباء واحدة من الأزمات التي تواجه أصحاب مصانع الطوب أيضاً، حيث أوضح بدوى: «الأسعار زادت بشكل كبير أيضًا، قبل الثورة، فكنا ندفع فاتورة الكهرباء بـ12 ألف جنيه شهريًا، لكنها زادت بشكل كبير بعد ذلك لتصل إلى 40 ألفا، والآن المصنع، رغم توقفه جزئيًا عن العمل، إلا أن آخر فاتورة كهرباء دفعناها كانت 27 ألف جنيه».

حتى من استبدلوا الغاز بالمازوت، يواجهون مشاكل عدم توافره، خاصة في الفترة الأخيرة، وحول هذه الجزئية قال عادل جنيدى، صاحب مصنع طوب بمنطقة عرب أبوساعد: «أثناء وجود العاهل السعودى، الملك سلمان بن عبدالعزيز، للقاهرة، لم يكن هناك مازوت، المستودعات لم تخرج لنا أي كميات، وقيل لنا إن الأمر لدواع أمنية، ومنعونا من شراء المازوت من السويس، وتم تحويلنا لأسيوط، وحتى هناك لم تكن تتوافر أي كميات».

وأضاف جنيدى: «تم إنشاء هذه المنطقة، عرب أبوساعد، بقرار جمهورى، لتكون منطقة صناعية صديقة للبيئة، واشترينا الأرض من واضعى اليد، لكن لم يتم تسجيلها، والدولة كانت تحصل منا جنيها وربع عن كل متر، عن كل سنة، والآن يريدون تحصيل 12 جنيها لكل متر، مصنعى مقام على مساحة 10 فدادين، وكنت أدفع لهم 52.500 جنيه، الآن يريدون تحصيل مبلغ 504 آلاف جنيه سنويًا منا، مقابل استغلال الأرض التي اشتريتها، بالإضافة إلى الضرائب التي نسددها، ومن بينها الضريبة العقارية، رغم عدم وجود أي خدمات».

واستقلنا السيارة بين المصانع، فأوقفنا أحد الأشخاص وطلب من مرافقنا عدم الدخول إلى مناطق أكثر عمقًا في الجبل، مشيرًا إلى أن في الأمر خطورة على من يصطحبهم، وقال مرافقنا بعد أن طمأنه أنه لن يتركنا: «المنطقة الآن يحدث فيها سطو مسلح، من قبل مجهولين، والمصانع نفسها مهددة وتتعرض لسرقات كبيرة، مما يضطرنا إلى اللجوء لمن اشترينا الأرض منهم، الذين كانوا يضعون أيديهم عليها، ومازالوا يسيطرون على المنطقة، لحماية المصانع مقابل مبلغ 5000 جنيه عن كل شهر، وحاليًا نشترى المياه منهم إجباريًا، ووصل الفنطاس الواحد إلى 150 جنيها، وهذا يتم فرضه علينا بشكل إجبارى، بمعنى أننى لو كان لدى فنطاس مياه أرغب في استعماله فهذا ممنوع، وهذا أيضًا بعلم الحكومة».

وحذر أحمد إبراهيم، صاحب مصنع طوب، من الزيادات في أسعار الطاقة والأرض والضرائب، قائلًا: «تحميل هذه الزيادات على المنتج النهائى سيؤدى إلى ركود كبير في الأسعار، وبالتالى تراكم الإنتاج وضعف التسويق، والأمر لن يتوقف على الطوب فقط، وإنما قطاع البناء والتشييد سيتضرر بالكامل، وهو ما سينعكس بالسلب على قطاعات أخرى تتبعه»، وأضاف: «حاولنا التواصل مع المسؤولين في وزارة الصناعة والبترول والبيئة، ثم مجلس الوزراء، على مدار شهر قبل توقف المصانع، وكنا نخشى من الوصول إلى هذه النقطة، لكن أحدًا لم يتحرك، ولم تحل أي مشكلة من مشاكلنا».

■ 70 % من إنتاج مصر

كشف محمد أبوعامر، رئيس شعبة الطوب باتحاد الصناعات، أن مصانع طوب في مناطق أخرى توقفت إلى جانب مصانع عرب أبوساعد، مثل مصانع منطقة الرحمانية، مشيرا إلى أن «سبب التوقف الأخير هو تحريك سعر الدولار، وزيادته أمام الجنيه المصرى، لأن شركة الغاز تحاسب المصانع بالدولار بدلًا من الجنيه، وبالتالى فإن الزيادة الأخيرة في سعر الدولار، أصبحت تحمل المصانع زيادة يومية تصل إلى 2000 جنيه، في الوقت الذي تعانى فيه السوق من الركود، كما تعمل مصانع أخرى بطاقة بديلة غير الغاز مثل المازوت، وهو ما يخلق حالة من عدم المساواة بين المصانع، خاصة أن أصحاب المصانع لا يستطيعون زيادة سعر المنتج، لأن السوق لن تتحمل ذلك، وهو ما يجبرهم على الإغلاق، لأن المنتج الذي يتم إنتاجه يجب تسويقه في أسرع وقت كى لا يتعرض للكسر».

وتابع: «الدولة الآن تدخل في مرحلة تعمير، والطوب هو أساس التعمير، فلا يمكن تصور أي عملية من عمليات البناء بدون الطوب، فالخرسانة على سبيل المثال لن تبنى مبنى وحدها، وإنما لابد من الطوب، والآن مصانع الطوب متوقفة، ومنطقة عرب أبوساعد وحدها تنتج حوالى 70% من إنتاج الطوب في مصر، إضافة إلى مصانع أخرى توقفت في مناطق أخرى مصر الرحمانية، وتوقف هذه المصانع سيؤثر على كل أسعار مواد البناء، لأن الصناعة كلها مرتبطة ببعضها البعض».

واستطرد: «تدخلنا كاتحاد صناعات في الأزمة، وتواصلنا مع رئيس الوزراء، شريف إسماعيل، ووافق على حل المشكلة، ووعدنا بالوقوف إلى جانب الصناع، ومازلنا ننتظر القرار.. الحكومة ما قصرتش».

أمام مبنى صغير من دور واحد داخل أحد المصانع، كان رضا سعيد مشغولا في إعداد الطعام لمن هم داخل المبنى، ووجه حديثه إلينا قائلًا: «إذا استمر الوضع كما هو عليه إما سيموتون أو سيموت أبنائى من الجوع»، ولم يكن الرجل يتحدث سوى عن 10 من البغال والحمير، هي رأسماله في هذه الدنيا، يرعاها كى يؤجرها للمصنع لتجر عربات الطوب، وقال: «يقفون هكذا، ويأكلون بلا عمل ولا فائدة منهم كلما كانت المصانع متوقفة، يأكلون في اليوم بحوالى 250 جنيها، لا أعرف هل أنفق على إطعامهم أم على إطعام أبنائى، كلما توقفت المصانع أخسر أكثر».

وفوق أحد أفران الطوب، وتحت الشمس الحارقة، كان جمال حمد، العامل بأحد مصانع الطوب، يتابع برادًا من الشاى، وضعه على سقف الفرن، الذي يتحرك عليه طوال الوقت، مستغلًا الحرارة المنبعثة من نيران الفرن، في طهى الشاى، وقال: «أطهو طعامى أيضًا بهذه الطريقة، أعمل حرِيقا في المصنع، وهى أخطر مهنة على مستوى المصنع، أرص الطوب داخل الفرن، وأترك فتحات كى نشعل فيها النار المستخدمة في حرق الطوب».

عندما حاولنا السير معه فوق سطح الفرن، طلب منا المشى من خلفه على نفس الطريق الذي يسلكه، فأضاف: «هذا السقف مصنوع من الطين بعد رص الطوب من تحته، وهناك فراغات تحته بها نيران الفرن، إذا وقع فيها الفرد سيكون ترابًا في دقائق».

و«حمد» من بنى سويف، وجاء ليعمل في المهنة التي ورثها عن أبيه، من فوق سقف الفرن الذي يقف عليه، تستطيع أن تشاهد جميع المصانع المحيطة وقد توقفت تماما عن العمل، وقال: «كل مصنع يعمل به على الأقل 130 عاملًا، أتوا من جميع المحافظات، وخاصة من الصعيد، لا عمل لنا سوى مصانع الطوب، ومرتباتنا بالكاد تكفى إطعام أسرنا، التي لا نراها سوى كل شهر مرة، أنا أسافر لأسرتى المكونة من 6 أفراد، مرة واحدة كل 30 يومًا، وأسكن في شقة بالإيجار».

نرشح لك

أهم أخبار صحافة

Comments

عاجل