المحتوى الرئيسى

إعادة بناء المفاهيم.. الثابتُ والمعلومُ بالضرورة | المصري اليوم

04/20 01:21

ربما كان من المناسب، لأسباب كثيرة، أن يكون لقاؤنا الأسبوعى على هذه الصفحة جامعاً بين الاجتهادات الفكرية والنصوص الأدبية.. بين محاولة العبور فوق هوة الفقر فى الفكر واضطراب المفاهيم العامة من جهة، ومن الجهة الأخرى مقاومة ارتخاء الخيال وانطمار نصوع اللغة بنصوص قصصية. فهذا وذاك، كلاهما مُلحٌّ ومطلوبٌ بل هو على درجة عالية من الأهمية. واليوم نتوقف عند مفهومين يحوطهما فى الأذهان اضطرابٌ كبيرٌ يدعو لإعادة النظر فى كل واحد منهما على حدة، وهو ما سنعرضه على النحو التالى:

تستعمل هاتان المفردتان كثيراً فى كلامنا اليومى، من دون اتفاق على معناهما الواضح، وقد يتم استعمالهما والإشارة بهما وإليهما على اعتبار أن الثبات مفهوم إيجابى ومطلب إنسانى، أحياناً، وفى أحيان أخرى يدل «الثبات» و«الثابت» فى عقلنا الجمعى على معانٍ سلبية ونقيصة إنسانية. انظر مثلاً، كيف يتم تكريس ودعم فكرة الثبوت فى الأذهان، عبر الختام التقليدى للحكايات الشعبية التى عادة ما تحكى عن الحب والمغامرة، لتعويض افتقاد أفراد المجتمع للحب والمغامرة، ثم تنتهى النهاية السعيدة التى يتمناها بسطاء الناس، فيفوز المحب بمحبوبته ويُسدل الستار بالعبارة العامية الشهيرة: وعاشوا فى تَبَات ونبات وخلفوا صبيان وبنات.

وطبعاً، فالتَّبَات هنا هو «الثبات» منطوقاً بالعامية المصرية التى تكره النطق بحرف الثاء لأنه يقتضى إخراج جزء من اللسان!، وفى الوعى العام العامى ميل لاجتناب هذا الأمر، على اعتبار أن إخراج اللسان هو فعل الكلاب أو الأطفال حين يغيظ بعضهم بعضاً، أما الكبار فلا يجوز لهم ذلك أو لا يكترثون به. ولذلك يبدل المصريون التاء بالثاء، فينطقون «تلج، توم، تقيل... إلخ» أو يجعلون الثاء سيناً كما هو الحال فى النطق العامى لكلمات مثل: السواب والعقاب، السرى والسريا، الشواذ والمسليين... إلخ! وهو الأمر ذاته الذى تسير عليه العامية المصرية مع حرف الذال، الذى ينقلب على الألسنة إلى «زاى» لتلافى إخراج اللسان.

وبعيداً عن هذه المسألة الصوتية (الفوناتيك) فإن مفهوم الثبات فى الوعى العام، وبحسب ختام الحكايات بالتبات والنبات وإنجاب الصبيان والبنات، يبدو كأنه هدف الحياة وعنوان السعادة.. ولكن، وعلى العكس تماماً من ذلك المعنى، يتجلى اللفظ ذاته بمعناه السلبى، بوضوح، فى كلامنا العامى حين نصف الشخص السخيف ثقيل الحضور بأنه: تبت. وبهذا الوصف المشتق من المفهوم العامى للتباتة، المرتبطة بالثقل والسخف، تكون الإدانة والقدح باللفظ ذاته المستعمل لمدح الحالة المريحة والنهاية السعيدة للقصص والحكايات: التبات والنبات.

وعلى سبيل اللعب بالمفردات، جرى سياسياً استبدال اللفظ الدال على مفهوم «الثبات» المضطربة دلالته فى الأذهان، وتم استعمال لفظ آخر يختلف شكلاً ويتفق فى المضمون، هو: الاستقرار.. وقد رأينا فى تلك السنوات التى سبقت ثورة يناير 2011 كيف كان نظام مبارك يتغنى بمناخ الاستقرار ويمتدح الأحوال المستقرة باعتبارها نقيض الفوضى، وليس الحركة!، فوجود رئيس منتخب لمدة ثلاثين سنة، ليس استئثاراً بالسلطة وإنما هو استقرارٌ وثباتٌ لا بأس معه لو جرى توريث الحكم، لينعم الناس بمزيد من الاستقرار المضمون بدلاً من الفوضى العارمة. ولم تكن كلمة «الحرية» تعنى عند النظام الحاكم إلا تهديد الاستقرار العام، وكذلك كلمة ومفهوم «الحركة» التى ارتبط لفظُها بأسماء الجماعات المناهضة سياسياً للحكم الثابت «التبت» منذ قيام ثورة أو حركة الضباط الأحرار، جداً، باعتبارها الثورة المباركة وآخر الحركات والتحركات والحكومات التى يرأسها حكامٌ لا يتزحزحون أبداً عن الكرسى الرئاسى، إلا بالوفاة أو الاغتيال. فمن أراد غير ذلك فهو يحمل الصفة المذمومة سياسياً والمطاردة دوماً من جهة الأمن، أعنى صفة «حركة».. ولذلك كان يقال: حركة كفاية، حركة 6 إبريل، حركة تمرد!.

ولما بدا للناس أن الحركات نجحت فى بدايات العام2011 تعجلوا جمع الغنائم، وانتشرت تعبيرات: الحراك الثورى، الحراك السياسى، الحراك الاجتماعى.. ثم، فجأة، عاد معظم الناس إلى قواعدهم نادمين، واجتاحهم الحنين إلى زمن الاستقرار والثبات والتبات والنبات وبؤس الصبيان والبنات من الولادة حتى الممات.

لأن هذه المفاهيم كلها بحاجة إلى ضبط دلالى وإعادة بناء على أسس واضحة تحدِّد: ما هو الثابت، وما هو الموقف العام من الثبات، وكيف تكون النجاة من التلاعب اللفظى بالمفردات، وما خطورة التشويش والاضطراب فى المفاهيم العامة والتصورات الأساسية، التى منها تشتق المفاهيم والتصورات الفرعية، التى بموجبها يتحدد السلوك العام والفردى.

إن الأفكار، إن كانت واضحة فى الأذهان، صارت الأفعال رشيدة. وبالعكس، إن اضطربت المفاهيم والرؤى صارت أفعالنا خبط عشواء، أى متضاربة لا تسير على نسق واحد نحو غاية محددة.

ويرتبط بفوضى مفهوم «الثبات» فى أذهاننا عملياتُ تحايلٍ واحتيال ومراوغة، غالباً ما تنطلق من (وتأسّس على) عبارات فضفاضة غير محددة الدلالة، من مثل قولهم: ومن الثابت علمياً، وقد ثبت بالتجربة، والثابت من الدين، والثوابت الاجتماعية.. وغير ذلك من العبارات الافتتاحية التى تسبق إيراد فكرة أو رؤية يراد الترويج لها، بتمريرها بالبدء بهذه العبارات الافتتاحية، فيقال مثلاً إنه من الثوابت الاجتماعية ارتباط المصرى بوطنه، وبالأرض!.. مع أن معظم المصريين إما مهاجرون أو ساعون إلى الهجرة. أو يقال إنه من الثابت، أن المصريين أكثر شعوب العالم تديناً! كما لو كان التدين هو مساحة يمكن قياسها بالأمتار، أو درجة حرارة تقاس بالترمومتر.

وكذلك قولهم «ثبت بالتجربة» الذى يشتمل على مغالطة خطيرة، هى اعتبار أن (التجربة) أمرٌ نقوم بفعله مرة واحدة فقط. مع أن لفظ التجربة لغة واصطلاحاً هو مفرد يعنى الجمع، فعندما نقول إن العلماء يتخذون التجربة منهجاً، فإن ذلك لا يعنى قيامهم بها مرةً. وكذلك حين نقول إن التجرية «خير برهان» فإن ذلك يعنى الدعوة إلى التجريب المستمر للتأكد من الصدق، وليس معنى العبارة أن هذا الأمر أو ذاك صار مبرهناً عليه لأنه جرب مرة.

ومع هذا الاضطراب فى مفهوم التجربة، تجدنا خلال الزمن الناصرى نقول «التجربة الاشتراكية» ثم نثبت عندها سنين ونستمسك بالتباتة، كما لو كانت هذه التجربة مفردا لا يجوز جمعه، وفعلا لا يصح تكراره. مع أن التجريب منهج يقتضى التكرار للتأكد، فإذا قلنا «التجربة الاشتراكية» كان من المفترض أن يكون ذلك، متضمناً اختبار نظريات أخرى وتجربتها لاختيار الأصلح.

ويظهر الارتباط التخييلى أو الوهمى بين مفهوم «الثابت» ومفهوم «المعلوم بالضرورة» فى مجال العلم ومجال الدين، حيث يتم التلاعب بالاضطراب الكامن فى هذين المفهومين، كثيراً فى هذين المجالين.. فلنتوقف فيما يلى عند المفهوم الآخر المرتبط بمفهوم «الثبات» لنرى معاً مقدار اضطرابه.

الضرورة تعنى الحتمية وعدم قبول الاحتمالات، وهى فى الأصل مفهوم منطقى يعود إلى التصور الأرسطى للقضية الكلية الموجبة، فحين نقول «كل إنسانٍ فانٍ» فهذا يعنى منطقياً أن حياة الإنسان الفرد مؤقتة لا محالة، ومن (الضرورى) أنه سيموت يوماً مهما امتد به الأجل.. لكن المنطق الأرسطى، منطقٌ صورى. يعنى يهتم بصورة الفكر، وليس بمادته. أو بعبارةٍ أخرى، يستند إلى شكل القضية، وليس صدقها الواقعى. هو إذن، نسق «استنباطى» تصدق قضاياه فقط داخل إطاره، يعنى لا يبحث عن الصدق خارج النسق. وكذلك حال الرياضيات، فهى الأخرى نسقٌ استنباطىٌّ لا يمكن النظر إليه من خارجه، ففى نسق «هندسة أُقليدس» تكون البرهنة، وفق البديهيات والمصادرات التى يقوم عليها هذا النسق، مثل مصادرات: المتوازيان لا يلتقيان، المستقيم هو أقرب خط بين نقطة وأخرى، مجموع زوايا المثلث 180 درجة.. وهكذا، لكن الحال ليس كذلك فى الهندسيات الأخرى: هندسة ريمان، هندسة لوباتشفسكى، الهندسة الفراغية. فكل نسق فى هذه الأنساق لا يصدق إلا داخل إطاره المرسوم بالبديهيات والمصادرات التى يقوم عليها، وبالتالى فالضرورة فيه محكومة به ولا يصح أن نقول: معلوم من العلم الرياضى بالضرورة.

أما العلوم الطبيعية، فليس فيها ما هو تام اليقين أو نهائى أو معلوم بالضرورة، لأن قوانين الطبيعة (الفيزياء) وما يرتبط بها من علوم وفنون كالطب والفلك والزراعة، هى قضايا علمية بمعنى أنها تقبل الاختبار والدحض والتكذيب، وليس العكس.. فمثلاً، من أشهر القواعد والقوانين الفيزيائية: المعادن تتمدّد بالحرارة. هذه القضية العلمية ليست ضرورية، ولا تامة اليقين، وإنما هى قابلة للتكذيب والاختبار التجريبى. ولذلك تظل قائمة ومعترفا بها، حتى يظهر معدن لا يتمدد بالحرارة. وقد شُرحت هذه النقطة بالتفصيل فى دراسات ومؤلفات فيلسوف العلم المعاصر «كارل بوبر» خاصة فى كتابه: منطق الكشف العلمى. وكذلك عند فيلسوف العلم المعاصر «توماس كون» خاصة فى كتابه: بنية الثورات العلمية.. فمن أراد النظر فى التفاصيل، فليعد إلى هذين الكتابين، أو إلى أى بحث معاصر فى فلسفة العلوم. أما ما يعنينا الآن، هنا، هو أن مفهوم «المعلوم من العلم بالضرورة» هو هراء لا معنى له، إلا فى حالة وحيدة هى إعادة صياغة العبارة، وبالتالى المفهوم، فتكون مثلاً: ما استقر عليه الرأى العلمى حتى الآن، هو كذا وكذا..

ونأتى للجانب الآخر، وهو المعلوم من الدين بالضرورة (وندعو الله أن يكون كلامنا خفيفاً على القراء، ومحبطاً للمتربصين المترصدين!)، فنقول إن هذه المقولة التى اعتبرناها بمثابة القاعدة، ثم صارت قانوناً وتم ترويجها على نطاق واسع فدفع كثيرٌ من النجباء ثمناً باهظاً لانتشارها، حين خالفوا ما هو «معلوم من الدين بالضرورة».. مع أنها عبارة فضفاضة لا تدل على مفهوم محدد، وتحتاج مراجعة على مستوى الصياغة، وعلى مستوى الدلالة والمعنى.

على مستوى الصياغة واختيار المفردات، لم تحدَّد العبارة بدقة معنى كلمة «الدين» عند قولهم: المعلوم من الدين بالضرورة.. فهل هو مطلق الدين؟ وهذا بالطبع لا يصح، لأن المعلوم من ديانة الهندوس يختلف عما هو معلوم عند المسيحيين، ومعلوم من البوذية ما يخالف المعلوم من اليهودية.. وهكذا!، فهل المراد بالدين هنا هو الإسلام تحديداً؟، وهذا بالطبع لا يصح، لأن فى مجتمعنا ملايين لا يؤمنون بالإسلام كديانة، وإنما يدينون بغيره كالمسيحية أو البهائية، والمعلوم عند أصحاب هذه الديانة أو تلك، يخالف ما هو معلوم عند المؤمنين بغيرها!، فهل المراد تحديداً: المعلوم من الإسلام بحسب عقيدة أهل السنة والمذهب الأشعرى الذى يستمسك به الأزهر الشريف؟، هذا أيضاً لا يصح، لأن هناك معلوماً من الأشعرية يخالف المعلوم عند المعتزلة والإباضية والإثنى عشرية... إلخ!، فما هو مفهوم «الدين» هنا، على وجه الدقة؟!.. هذا سؤال استنكارى وليس استفهامياً.

Comments

عاجل