المحتوى الرئيسى

جبل الشيخ: تاريخ من القدسية والعبادة

04/20 01:10

إذا كان جبل الشيخ يتميّز بموقعه الفريد، كنقطة تلاقٍ تُمسِك بأذيال لبنان وفلسطين وسوريا والأردن، فإنَّ واقعه الجغرافي يتعالى شكله الهرمي بتصاعد مطّرد، من الأودية السحيقة حتى رأسه الأشيب.

وإذا كان وادي التيم يؤلّف جيباً من البقاع العزيزي (تسمية تاريخيّة)، ويشكّل الرابط المُحكَم بين السهل المغلال والجبل المقدّس، فإنَّ الجبل محطّ مشاهدة من قبرص، حيث تتوهّج أردافه، وتتألّق ألوانه، وتتغيّر على اختلاف ساعات النهار والليل.

تدلّ حجارته البركانيّة المنتشرة على سطحه، والتي تبرز جلياً من بين الصخور الكلسيّة في ثنايا قِممه، على أنَّه كان في الماضي بركاناً مشتعلاً، وتبدو فيه الآن جميع التكوينات الطبيعيّة من الصخر الناري إلى المتحوّل الرسوبي.

ارتبط اسم جبل حرمون بلبنان في أقدم مخطوطتين تاريخيّتين، وفق ما ورد في كتاب تاريخ «وادي التيم» للباحث يحيى عمار. الأولى في نشيد الإنشاد «هلمي معي من لبنان أيّتها العروس، معي من لبنان انظري من رأس أمانة، من رأس سنير وحرمون من مرابض الأسود جبال النمور». أمَّا المخطوطة الثانية، فيعود عهدها إلى حدود القرن التاسع قبل الميلاد، دوّنها الملك شلمنصر الآشوري، ويصف فيها إنجازاته وأعماله الحربية، بقوله: «في السنة الثالثة من مُلكي، عبرت الفرات للمرة السادسة عشرة، وكان الملك حزائيل الآرامي الواثق من قوته قد حشد جيشاً عظيماً وتمركز عند جبل سنيرو عند مداخل لبنان حصنه القوي»، (سنيرو اسم قديم لحرمون).

تعود قداسة الجبل إلى أيّام الكنعانيين، بعدما أُخذوا بروعته وتأثّروا بهيمنته المطلقة، فاتّخذوه إلهاً يعبدونه باسم «بعل حرمون». وبنوا على سطحه هياكل ومعابد ما زالت ظاهرة للعيان. وكانت الجماعات السوريّة، آنذاك، تحجّ إلى قمّته في أواخر الصيف من كل سنة، حاملةً إليه قرابين هي عبارة عن جرار ملأى بالماء، لكن المشقّة الكبيرة التي كان يتكبّدها الحجيج، تتمثّل بتسلّق الجبل.

يتميّز جبل الشيخ بمعالمه الأثريّة المنتشرة على سطحه، حيث بقايا لهيكل موغل في القدم، تمّ بناؤه على الطريقة الكلاسيكيّة، التي اعتمدها الوثنيّون القُدامى ببناء هياكلهم ومعابدهم. يتألّف هذا المعلم الأثري من الهيكل وقدس الأقداس، بحيث تدلّ قياساته على أنّه عبارة عن استدارة قطرها حوالي 60 قدماً، يحيط بها سورٌ بيضاويّ الشكل، لم تزَل حجارته المنحوتة متماسكة في بعض أقسامها، وفي البعض الآخر مهدّمة.

ويقول خبراء في فنّ العمارة الحجريّة، إن هذه الحجارة «مدقوقة دقة البوشارد»، (مجلة «الأخبار» البيروتية، من مقال للمحامي ماير سعد)، حيث لا يزال البنّاؤون في لبنان وسوريا يمارسون هذه المهنة، ويستخدمون هذه النقوش لدى استخدام الحجارة في تشييد الأبنية والبيوت.

أمَّا قدس الأقداس في الهيكل، فهو عبارة عن صخر يبلغ ارتفاعه نحو 15 قدماً، ينتصب داخل المستديرة، وفي وسطه حفرة عمقها ثمانية أقدام.

تنتشر هذه المعالم الأثريّة في القمة الجنوبيّة ـ الشرقيّة عند النقطة 2814 ـ أعلى قمم الجبل ـ ويطلق عليها تارة تسمية «قصر شبيب» والمقصود بالاسم هو مقيّل يمني تقول الأسطورة إنّه قتل في إحدى حجرات قصره على أيدي أبو زيد الهلالي، وطوراً بقصر عنتر. ولكن يذكر الباحث عمّار في كتابه أن لا قيمة تاريخيّة لأيّ من هاتين التسميتين، لأنَّ الآثار تعود إلى أزمنة موغلة في القدم، وأحدث ما نعرفه من بناء أقيم على إحدى القِمم في الجبل، هو قصر أشاده الأمير نجم الشهابي العام 1195 لغرض الراحة والاستجمام في فصل الصيف، وقد استدلّ على ذلك من شِعرٍ قاله في هذا الخصوص.

وإذا كان الجبل اكتسب القداسة قديماً، وتحوّل إلى ملجأ للعبادة والنسك والزهد ومحجّة للمؤمنين، يقدّمون إليه القرابين ويخضعون لمهابته وعظمته، فإنَّ التاريخ يعيد نفسه، حيث يحجّ إليه سنوياً الآلاف من المشايخ والمؤمنين من أبناء طائفة الموحدين الدروز، للتبرك والزهد وتقديم النذور وإقامة الصلوات، والتضرّع للتقاة من النسّاك والعبّاد، الذين كانت لهم محطّات دينيّة روحيّة في المغاور التي لجأوا إليها إمّا هرباً من مظالم، خصوصاً في عهد العثمانيين أو اختياراً للتنسك.

كما أنَّ تاريخ الخامس من آب من كل عام، تحوّل إلى مناسبة جليلة، عند أبناء الطوائف المسيحيّة، الذين يحجّون من مختلف أقطار العالم، للتبرّك ولتأدية الصلاة وإقامة القداديس على تلة الراهب، حيث تجلّى السيد المسيح.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل