المحتوى الرئيسى

وليد فكري يكتب: لكم دينكم ولي دين (15)

04/18 10:47

المدقق في التاريخ الإسلامي يدرك ببعض القراءة المتأنية أن “الآخر” ليس دائمًا بالضرورة ذلك الوغد المتآمر الحاقد الذي يقدمه لنا المتعصبون من خلال صورتهم النمطية لهذا الآخر.

فخلال التاريخ الإسلامي الباكر، برزت أسماء عدة لأناس لم ينضموا لمعسكر المسلمين، ومع ذلك فقد التزموا الحدود الأخلاقية للاختلاف العقائدي، بل وربما كان بعضهم عونًا للرسول -عليه الصلاة والسلام والصحابة في بعض أحداث الدعوة المحمدية.

فمقابل نماذج مثل أبولهب وأبوجهل والعاص بن وائل، برزت أسماء مثل أبي طالب الذي أعلى من قيمة صلة الرحم والدم، فلم يسلم ابن أخيه لأذى قومه رغم ما ناله -ونال آله- من عداء سادات قريش ومقاطعتهم وشديد لومهم.

لدينا كذلك نماذج مثل أبو البختري والمطعم بن عدي اللذان قاما مع بعض رجال قريش بنقض صحيفة المقاطعة التي أبرمتها القبيلة ضد بني هاشم لمناصرتهم الرسول، حتى إنه -صلى الله عليه وسلم- قد أمر بعدم قتلهما في معركة بدر وفاءً لما فعلا.

لاحظ أننا نتحدث عن قوم جاءهم بدعوة تناهض نظامهم المجتمعي وتسقطه، ومع ذلك فقد كانوا خير خصم له.

فما بال المتعصبون والمتزمتون يتجاهلون دلالات هذه الوقائع والنماذج ويصرون على تعميم الحكم على أي آخر غير مسلم أنه متآمر حاقد متربص يريد بالمسلمين سوءً؟                                                                           ********

وإن برر هؤلاء تلك المواقف الراقية سالفة الذكر بروابط القبيلة والنسب وشهامة العرب، فلدينا نموذج آخر، للآخر الراقي في فترة كانت من أحلك وأدق فترات التاريخ العربي الإسلامي -والعالمي عامة- ألا وهي فترة الحروب الصليبية.

ففي سنة 1220م وحتى العام 1250م، كان يحكم كلا من ألمانيا وصقلية الإمبراطور فريدريك الثاني المنحدر من آل هوهنشتاوفن..

كان جد فريدريك -الملك روجر- يحكم مجتمعًا صقليًا زال حكم العرب عنه وانتقل إلى النورمان، ومع ذلك لم يتعرض السكان المسلمون إلى أية اضطهادات أو انتهاكات مما يتعرض لها المهزومون من المنتصر، ولو كان على نفس دينهم (قارن ذلك بسلوك العباسيين ضد الأمويين بعد زوال دولتهم)، فقد كان روجر يحترم الثقافة العربية الإسلامية ويعترف بفضلها على أوروبا، فأمن المسلمون وقربهم وجعل من العرب -مسلمين ومسيحيين- رجال دولته وخاصته المقربة.. في هذا الوسط المتسامح نشأ فريدريك ليسير على سيرة جده بعد جلوسه على العرش.

كانت البابوية الكاثوليكية -آنذاك- تنظر لسلوك فريدريك السمح تجاه العرب والمسلمين نظرة سخط وإدانة، فإن كان روجر قد قرب المسلمين له باعًا، فقد قربهم فريدريك أميالًا وأظهر اعتزازه بالثقافة العربية والإسلامية.. حتى إن علاقة صداقة ومراسلات ربطته بالسلطان الكامل الأيوبي -سلطان مصر والشام- الأمر الذي استفز البابا ورجاله وأغضبهم.

حاول البابا وضع الإمبراطور الراقي في مأزق، فأمره بحمل شارة الصليب وقيادة حملة صليبية جديدة لاسترداد مملكة بيت المقدس.. حاول فريدريك الثاني التلكؤ والتنصل من تلك المهمة التي لا يؤمن بها، ولكن البابوية هددته بحرمانه كنسيًا، فلجأ للحيلة، فراسل السلطان الكامل وكاشفه بكل شيء، وحثه على التوصل لاتفاق يحقن دماء الطرفين، وقد كان، ففي اتفاقية بين الملكين -لسنا في محل لتقييمها تاريخيًا الآن- اتفقا على أن يعطي الكامل قرينه النورماني القدس -عدا المناطق المسلمة (أي أنه حصل فقط على المناطق المسيحية)- والبلدات المؤدية لها، مع هدم أسوارها كيلا يحاول البعض مستقبلا الاستقلال بها وإعادة حالة الحرب، فضلا عن بند نص على تقييد حمل الطرف المسيحي للسلاح في المناطق المسلمة وإطلاق يد الطرف المسلم في حمل سلاحه لتأمين نفسه.

وبالفعل أُبرِمَ الاتفاق وتوجه الإمبراطور للقدس حيث تسلمها من ممثلين عن الكامل، ودخلها سلمًا، ولكنه قوبل بغضب الصليبيين سواء في الشام أو أوروبا، وأعلن البابا لعنه وحرمانه كنسيًا بحجة أنه قد تفاوض مع “الكفار”، وألقى بعض الغاضبين القاذورات على موكبه، وهو يمر بشوارع القدس، فضلاً عن مقاطعة الرهبان الكاثوليك لاحتفال تتويجه ملكًا على المدينة في كنيسة القيامة.

وفي المدينة المقدسة وقع موقف متخاذل من الطرف المسلم، حيث أمر ممثل الكامل المؤذنون بالامتناع عن رفع الآذان مراعاة لمشاعر فريدريك، الذي ما إن علم بذلك حتى عاتب الرجل، وقال له إنه يسمح برفع الآذان في مملكته، بل ويحس براحة في الاستماع له.

وتمر أيام الكامل الأيوبي ويرث ابنه نجم الدين أيوب الحكم، وتمر كذلك أيام فريدريك الثاني وتقترب من نهايتها، حيث قضى السنوات التالية لتملكه القدس في حالة حرب مع البابا وحلفائه حتى نهاية حياته.. ويخرج الملك الفرنسي لويس التاسع على رأس حملة على مصر، فيسرع فريدريك بإرسال بعض رجاله برسالة تحذيرية إلى السلطان نجم الدين، الذي يقال إن الإمبراطور كان يخاطبه في مراسلاته بـ”يا ابن أخي”.. ويدفع فريدريك ثمن مواقفه المتسامحة مع المسلمين -بل والمحبة لهم- بأن تستمر الحرب البابوية ضد نسله بعد موته، حتى يصل الأمر بالقضاء عليهم وإعدام آخرهم مراهقًا في سن الرابعة عشر بأمر البابا.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل