المحتوى الرئيسى

فى إنتاج المعرفة والطاقة | المصري اليوم

04/15 22:55

الطريق إلى المنصورة كان شاقا. أخذت الرحلة المقلقة أربع ساعات، رغم أن المسافة لا تتعدى 150 كيلومترا. عكَس حال الطريق المشوه أوضاع البلد الاقتصادية، وعكَس بالذات الفوضى الفكرية المسيطرة، ولاسيما في أسلوب القيادة السائد، الذي دائما ما يرسخ اعتقادى بأن مبدأ السببية- الذي يحكم العلاقة بين القرارات التي يتخذها الشخص والنتائج المترتبة- مشوه تماما هو الآخر في أذهان الناس.

مبدأ السببية هذا كان في ذهنى. فكان علىَّ، في صباح اليوم التالى، أن ألقى كلمة عن «فلسفة الفيزياء»، في ملتقى علمى «عن الفيزياء والطاقة» نظمه الدكتور محمد صلاح، أستاذ الفيزياء بجامعة المنصورة. كان الهدف الأساسى من هذه المحاضرة الافتتاحية هو تعريف الحشد الحاضر من الطلاب بمبادئ الفكر العلمى، في مجتمع تنتشر فيه نظريات المؤامرات المشبعة بعمل الأيادى الخفية، ناهيك عن ظاهرة تحطيم أينشتاين وغيره من قبل مَن لم يستوعب أبسط مبادئ النظريات المعنية، أو كيفية تطور العلم.

مبدأ السببية هو المفهوم الأساسى الذي يتم من خلاله تنظيم العالم عقلانيا. لكن نفس المبدأ يمكن استخدامه في سرد الأساطير ونظريات المؤامرة.. كمثال بسيط، أشرت خلال المحاضرة إلى ظاهرة سقوط الأمطار. من منطلق علمى، يسقط المطر نتيجة تكثف بخار السحب. هكذا يتم الربط بين الظاهرة والسبب على أساس لا يتطلب تدخل «أيادٍ خفية». في المقابل، هناك «قبائل» تتبنى أساطير تشرح الظاهرة عن طريق تدخل آلهة أو أرواح أو قوى خفية لا يمكن فهم كيفية عملها. هذه الأساطير سببية هي الأخرى، لكن الأسباب التي تقترحها لا تتنبأ بالواقع، ولا يمكن إصلاحها كى تتماشى مع الواقع، لأن طبيعتها المنطقية صلبة لا تقبل التعديل، فمثلا، المطر في الإطار الأسطورى يُتوقع سقوطه عند قيام الجماعة أو القبيلة المتبنية للأسطورة بطقوس معينة. لكن إن لم يسقط، فسيتم شرح الفشل على أساس أن الطقوس لم تُقم بطريقة لائقة، أو أن القوى المعنية غاضبة. وإذا سقط المطر دون طقوس فهذه «بركة».. أما في حالة النظرية العلمية، فسقوط الأمطار دون تواجد سحب على الإطلاق سيدل ببساطة على أن النظرية خاطئة، وأنه يجب حتميا إصلاحها أو استبدالها.

مع إمكانية إصلاح الخطأ في أساس الفكر العلمى، الذي يتطور عن طريق تعديل التصور النظرى تدريجيا حتى يتماشى مع الواقع، تصبح النظرية أكثر نجاحا في شرح العالم الطبيعى، لأن منطقها يقترب من منطقه.. وتحتوى النظرية الأقوى، المطورة هكذا، على قيمة معلوماتية أكبر، لأنها تشرح عددا أكبر من الظواهر وتربط بينها: قوة نظرية نيوتن مثلا كامنة في ربطها بين حركة الأجسام على الأرض وحركة كواكب المجموعة الشمسية.. ومشروع توسيع مجال فهمنا للعالم مازال قائما. في الملتقى المذكور، تحدث مثلا زميلى في مركز الفيزياء النظرية بالجامعة البريطانية، الدكتور عادل عوض، عن المحاولات المعاصرة لتوحيد قوى الطبيعة، والدكتور شريف الجمال تحدث عن الاختبارات العملية لها.

أما من الناحية العملية، فالتجربة التاريخية تشير إلى أنه في كل مرة نفهم شيئا جديدا عن العالم، في كل مرة ينفتح مجال تصوراتنا عن طريق نظريات أشمل، تكون هناك تداعيات عملية، فنظريات ماكسويل مثلا، التي وحَّدت القوى الكهربية والمغناطيسية، نتج عنها فهم أعمق لظاهرة الضوء، ومعه تكنولوجيا جديدة، وأدلة معملية نتج عنها فهم نظرى أوسع، مجسد في ميكانيكا الكم.. وعنها نشأ العالم التكنولوجى الذي نعيشه، من أول التلفاز الحديث حتى الـ«آى باد» والـ«آى فون».

قد يبدو الحديث عن أساسيات الفكر العلمى خارج موضوع ملتقى بدا معنيا في الأساس بالتعريف بالتطورات في مجال إنتاج الطاقة، في دولة في أمَسّ حاجة «عملية» لتدعيمه. لكن، على العكس، ففى الدول الصناعية التي لديها ما يكفيها من طاقة، يستوعب كل مَن يهتم بالأمر العلاقة «السببية» بين الفكر النظرى والتطور التكنولوجى، بل إن هذا من ضمن أسباب تقدمها في رأيى.. في المقابل، هناك احتياج في هذا البلد الذي يجد نفسه دائما في «أمَسّ حاجة» للتذكير بأن التقدم في توليد الطاقة طالما صاحبه تطور في فكر الإنسان النظرى: بأن إنتاج الطاقة الشمسية يعتمد على فهم نظرى للظاهرة الكهروضوئية ابتكره أينشتاين، وأن نظرياته، بالإضافة إلى ميكانيكا الكم، كانت محورية في إنتاج الطاقة الذرية.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل