المحتوى الرئيسى

هاني محمود يكتب: شكري وبرادة:- الإبداع يتنصر! | ساسة بوست

04/13 20:36

منذ 22 دقيقة، 13 أبريل,2016

لا يوجد في الإبداع منطقةٌ وسطى، إما نجاح وانتشار وإقبال على طبعات الكتب المتتالية، وإما الجنون والنسيان والغياب، إما الاستمرار في الإبداع والتنوع، وإما مجاورة المرض النفسي والعصبي في المستشفيات مثل حالة الشاعر والمسرحي والمخرج – الفذ الذي لم يحتويه زمانه «نجيب سرور»، أو حالة الأديب «عادل كامل» الذي ودَّع الأدب بعدما فقد الأمل فيما يفعله مفضلاً مهنة المحاماة على الكتابة، والإبداع لابد له من بعض الضرائب التي يدفعها المبدع راضيًاً، ومتحملاً في سبيل إنتاجه الأدبي كافة البلايا والأوجاع، وعلى الرغم من متعة الإبداع إلا أنه لا يأتي إلا مُصاحبًا الهمَّ والألم وعناء التفكير في جديدٍ غير مسبوق في لحظة خلقٍ يعانيها المبدع حتى لا يكون مكررًا وسخيفـًا.

إن معاناة الأديب المغربي «محمد شكري» وإهانته من والده وتشرده في شوراع المغرب واقترافه كُل الآثام والخطايا وهو طفل صغير كانت المُحفز لأن يبوح وأن يكتب سيرته الذاتية في راوية عنوانها «الخُبز الحافي» حيث يسرد فيها محمد شكري فِعل الفاحشة بالنساء والرجال وشرب الخمور واحتراف السرقة والتهريب عبر الحدود في لحظة اعتراف خالصٍ، وأبسط تعريف وتلخيص لقرار شكري أن يدون سيرته هو ما يقوله: «لقد علمتني الحياة أن أنتظر، أن أعي لعبة الزمن بدون أن أتنازل عن عمق ما استحصدته فيها: قل كلمتك قبل أن تموت فإنها ستعرف حتمًا طريقها لا يهم ما ستؤول إليه الأهم هو أن تشعل عاطفة أو حزنًا أو نزوة غافية، أن تشعل لهيبًا في المناطق اليباب الموات» وما كان محمد شكري سيفعل كل ما فعله لو وجد المحبة والألفة من والده لو وجد الأمان الأسري داخل أسرته لو وجد الرعاية الكافية ما حدث كل ذلك إلا أننا نحمد الله الذي دبر الأمور وقدَّرها ليبدع شكري أهم رواية في تاريخ الأدب العربي والتي لم يقدر أحد غيره على كتابتها.

يسأله ذات يوم أحدهم عن اسمه يخبره أنه «محمد..» يخبره أن اسم أبيه كذا فيجيبه محمد شكري «إنه لا يعرف سوى نفسه»، ويعود ليقول عن أبيه: «كثيرًا ما يباغتني أبي في منتصف الشارع من الخلف ويقبض عليَّ من ياقة قميصي أو يلوي ذراعي إلى ظهري بيد وباليد الأخرى ينهال عليَّ ضربًا حتى يسيل دمي، عندئذ أعرف أن حزامه العسكري السميك ينتظرني في المنزل، حين تتعب يداه أو قدماه من الضرب يعضني في كتفي أو في ذراعي قارصًا أذني، صافعًا وجهي، إذا ضربني في الشارع غالبًا ما يتدخل بعض الناس ويخلصوني منه….» في إحدى المرات حاول والده أن يضربه وهو بصحبة أصدقائه إلا أنه أفلت منه وقاموا بضرب والده أمامه – وهم لا يعرفون من هذا الرجل – يقول محمد شكري عن هذه الواقعة: «رأيته يغطي وجه بيده والدم يسيل من بين أصابعه بغزارة وقفت بعيدًا أنتظر نهاية المشهد تمنيتُ لو أني أشاركهما في ضربه، كان عزاءً لي أن أراه يضرب على مرأى مني حتى يسيل دمه كما أسال دمي كلما ضربني».

بعد كل ما سبق يتضح أن الكاتب محمد شكري ما هو إلا نموذج مصغر للشر في العالم، ذلك سيحدث فقط إن قرأت «الخبز الحافي» ولم تقرأ رسائله التي تناقلها مع الكاتب والناقد «محمد برادة» التي تم نشرها في دار «أخبار اليوم» بعنوان «ورد ورماد»، تلك الرسائل التي كانت أكثر إيضاحًا لحياة محمد شكري ومعاناته وآلامه، ولا يجوز لنا قراءة روايته بعيدًا عن رسائله وإلا ستصاب بالإحباط، تلك الرسائل التي كانت أكثر رحمةً ورفقـًا بحياته ودعمًا له على أن يكتب ويبوح وينقل خبراته التي عاينها من أيام تشرده في شوراع طنجة بكتابة أكثر واقعية وصراحة لا محاباة فيها أو نفاق.

وإذا كان محمد شكري وحيدًا بلا أنيس سوى حياة التشرد والضياع والأمراض فإن علاقته بمحمد برادة كانت له أنُسًا وتحريضًا على الإبداع وهو ما يزال به في كل رسائله يشجعه على الكتابة كأن يقول له «أنا أريدك صديقـًا جسورًا على مواجهة الحياة اليومية، على تغيير منهجك وأسلوبك في الحياة، على مواصلة السير لاكتشاف آفاق بِكر من التجارب والمغامرات وفي هذا التغيير تكون اللذة وتتجدد وتتعمق» وفي إحدى رسائل محمد شكري إلى محمد براده يقول له: «كم أتمنى أن أكون بعيدًا في بلد لا يعرفني أحد ليكون لي من جديد أول صديق، أول خصم، أول عمل لم أمارسه من قبل، إلى ما لا نهاية من الأوائل»، ويعود ليؤكد له بأن «في كل عصر يوجد أناس من كل العصور وأنا لا أريد أن أكون نسخة من التكرار الأبدي، أريد أن أكون وحيد نفسي وعصري وحياتي ولعنتي ورضائي وموتي وبعثي وتشبثي بما أنا وما لستُ أنا بعد إياه بالذي كان ولم يكن».

إذن يمكن اعتبار محمد برادة أهم الأحداث في حياة محمد شكري ولولاه ما ظهرت «الخبز الحافي» إلى النور حيث كان يتابع عملية كتابتها ودخولها للمطبعة، كما أنه كان يقوم بمراسلة محمد شكري بما يمكن تعديله من النص، ولكي تقترب أكثر صورة محمد شكري لدينا، يصفه برادة في مفتتح الرسائل بأنه «كان رزينًا في حواره، عقلانيًا في حججه، جريئًا في أطروحاته ونقده لما يقرأ، لم يكن مشدودًا إلى «أسطورة» ماضيه المقعد المتسارع في تحولاته، وأعجبني أنه لم يكن يلغي ذاته وهو يتحدث أو يختبئ وراء العبارات الأدبية التي يلجأ إليها كثير من المثقفين».

محمد شكري كان يكتب أشد اللحظات خصوصية دون مواراة أو خوف من أحد، كان يكتب الإنسان في لحظات الضعف حين يفقد الأمل ويصيرُ عدمًا، كما أنه يؤكد على أن الإبداع والنص العبقري ينتصر أخيرًا، ولا يمكننا اعتبار رواية شكري «أدبًا فضائحيًا) ولكن يمكننا اعتبارها «أدب الاعتراف الخالص»، ولعله قصد بذلك أن يرح نفسه من عذاب الأب وأيام التشرد ليحكي قصته للأجيال القادمة، كما أنه كان متسقـًا مع نفسه دون نفاق أو خوف من اللعنات التي ستصب على رأسه كحمم جهنم؛ لذلك يخبرنا جميعًا بأنه «من لم ينغمس في دم الحياة لا يحق له أن يتكلم عن الجرح»! ولعل السبب في قيام محمد شكري بكتابة سيرته الذاتية في رواية هو قوله بأن «ما لا يُحكي هو ما يُكتب».

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل