المحتوى الرئيسى

محمد البحيري يكتب عن تجربته مع الكاتب الراحل: «سالم» قدَّم لي نفسه عبر الهاتف: «أنا اللي انت شاتمه».. طلب مقابلتي فوضعت شروطاً | المصري اليوم

04/11 18:52

فى أحد أيام الثلاثاء، فى النصف الأول من العقد الأول من القرن الحالى، جاءنى صوت الأستاذ الكبير صلاح عيسى عبر الهاتف، يخبرنى أن الأستاذ على سالم يريد محادثتى بسبب الخبر الذى كتبته عن سفره إلى إسرائيل، فقلت له بكل صلف الشباب آنذاك: «لن أتصل به، فليتصل هو بى إن أراد».

لم يكد يمر نصف ساعة حتى فوجئت بجرس الهاتف يرن، فإذا به الأستاذ على سالم، أسأل عن المتصل، فيجيبنى بصوت تظهر ابتسامته الساخرة من بين الحروف: «أنا اللى انت شاتمه فى الصفحة الأولى»، أدركت على الفور أنه على سالم، فأجيبه بلهجة المنتصر: «أنا لا أشتم أحداً، لقد كتبتُ ما حدث».

عندها فوجئت به يطلب بكل تواضع مقابلتى، وأنا بكل غرور الشباب آنذاك أضع شروطاً للموافقة على مقابلته: «أولاً سأحضر جهاز الكاسيت لأسجل اللقاء. ثانياً: عليك أن تحضر لى نسخة من كلمتك التى ألقيتها فى مؤتمر الإعلام الجديد بمنطقة الشرق الأوسط الذى حضرته فى إسرائيل. ثالثاً: عليك أن تحضر لى نسخة من الصحف الإسرائيلية التى كتبت عنك وعن رحلتك إلى إسرائيل هذه المرة». كان هدفى طبعاً هو الفوز بمادة حصرية للكتابة عنها.

وبكل تواضع المفكر الحقيقى وافق الأستاذ على شروطى ضاحكاً، وتقابلنا فى اليوم التالى، ظهراً، بأحد فنادق منطقة المهندسين. وسلمنى طلباتى، ثم فاجأنى بأنه يتابع ما أكتبه فى الشؤون الإسرائيلية، وبادرنى بالسؤال عن موعد آخر مرة سافرت فيها إلى إسرائيل.. فأجبته بأنى لم أسافر أبداً إلى هناك! فسأل مندهشاً: «كيف تكتب عن إسرائيل دون أن تزورها؟ كيف تكتب عن شىء لم تره؟!».. عندها قلت له: «يا أستاذ على، جميعنا يكتب عن الجنة والنار، دون أن نزور أياً منهما! والبركة فى الثورة التكنولوجية ومتابعة وسائل الإعلام الإسرائيلية».

سألته أنا بدورى عن عدد المرات التى سافر فيها إلى إسرائيل، فقال إنها أكثر من عشر مرات، كان يقوم خلالها بالمشاركة فى مؤتمرات أو ندوات تستغرق يوماً أو يومين فقط غالباً. ولفت إلى أنه سافر فى عام 1994 بسيارته إلى إسرائيل، كى يجيب عن سؤالين: من هم الإسرائيليون؟ وماذا يفعلون؟. وقال: «عرفت بعدها أن السلام بيننا وبينهم هو أمر حتمى، وبدونه سوف تتحول المنطقة بأسرها إلى خراب شامل!».

كان على سالم بحسه الفكاهى، وعقله الناشط الذى يجذبك إليه رغم أنفك، وثقافته المتنوعة، ومعلوماته الغزيرة، وشخصيته الساخرة وأدائه المسرحى - يجعلك تدرك أنك لست أمام صبى يبتغى الشهرة، أو أمام جاهل يدَّعى العلم، أو انتهازى يستهدف التسلق على شجرة التناقضات الواقعية. كان محور تحركاته وحديثه دائماً أن لديه رسالة، وأنه يؤدى «فرض كفاية» عن الشعب المصرى.

قال لى ذات مرة وهو يحاول إقناعى بضرورة السفر إلى إسرائيل: «مطلوب طمأنة الطرف الآخر بأن هناك من يرغب فى السلام، وأمثالك من المتنورين عليهم عبء ثقيل، حين ستسافر إلى هناك سيتأكدون من نوايا السلام، ويطمئنون إليك وأنت تحدثهم بلغتهم فى أدبهم وثقافتهم وصحفهم، فيقبلون عليك، ويزداد عدد المناهضين للحروب لديهم». عندها سألته: «ومن يطمئننا نحن؟ وهم ينقضون المعاهدات والمواثيق؟».

كان يرى نفسه مبعوثاً للسلام باسم مصر إلى إسرائيل، ولعل الموضوعية البحتة تشير إلى أنه كان ناجحاً فى ذلك إلى حد كبير جداً، فحين كان يزور إسرائيل كنت أتتبع خطاه عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية، فتلاحظ ببساطة أن موجة من الصورة الإيجابية عن مصر تجتاح الإعلام الإسرائيلى، وكانت لقاءاته مع كبار الكتاب والمثقفين الإسرائيليين مادة جذابة فى الصحف الإسرائيلية. وتجاوز الأمر حد ترجمة كتبه إلى العبرية، إلى قيام فرق مسرحية إسرائيلية بتمثيل مسرحيات على سالم فى إسرائيل.

وإذا كان من حق كل مناهضى التطبيع معارضة على سالم، فإن هذا لا ينفى أنه كان واجهة مصرية فكرية مشرفة فى مواجهة الإسرائيليين. وكان يفاخر بما أنجزه قائلاً: «اكتسبت احتراماً أكثر للمصريين والعرب، بدليل اهتمام كبريات الصحف الإسرائيلية بزيارتى لإسرائيل، حتى إن هناك منهم من سجل معى لقاءات وحوارات وأنا فى المطار، الإذاعات، فعندما أكون هناك أتحدث مع الجميع، دون أن أهتم بالجهة التى يتبعها.. وهذا الاهتمام بالتأكيد ليس اهتماماً بعلى سالم، وإنما اهتمام بمصر. وكل ما يصب فى صالح مصر والمصريين يصب آلياً فى الصالح الفلسطينى».

أما على سالم، الذى أبدى عدم ارتياحه لقناة «الجزيرة» منذ أكثر من 10 سنوات، فقال أمام هذا المؤتمر إن جمهور الدراما الاجتماعية يفوق كثيراً أعداد المهتمين بالسياسة، ومازالت مصر متربعة على عرشها، فالدراما أكثر تأثيراً بكثير من البرامج الحوارية التى تعرضها «الجزيرة»، التى قال إن بها «ناس مش مؤدبين» يفتقدون التهذيب. وأضاف: «رغم أن لديهم أيضاً برامج جيدة فإن المشاهدين مازالوا يلتفون أكثر حول الأعمال الدرامية الاجتماعية، والمصريون هم أسياد هذه اللعبة».

كان يرى أن مقاطعة المحافل والمناسبات الدولية التى تشارك فيها إسرائيل نوع من الغباء الممزوج بالجبن والخوف المرضى، فكان يقول: «كيف يدلك عقلك على أن المقاطعة هى الحل، فتترك الملعب كله لإسرائيل، فتقول للعالم ما تريد هى، وتروى للعالم حكايتها هى، دون أن يسمع العالم حكايتك؟ كيف تستسلم بهذه السهولة أمام إسرائيل وتدَّعى أنك أقوى منها؟ لماذا لا تثبت مكانك وتجبرها هى على الانسحاب من أمامك، فتروى أنت للعالم أصل الحكاية برؤيتك أنت؟!».

على سالم هو من علمنى تلك النكتة التى اتخذت منها منهجاً فى حياتى، والتى أوردها فى كلمته بأحد المؤتمرات التى شارك فيها بإسرائيل.

تقول النكتة إن قرية أصابها زلزال فدمَّر سداً بجوارها، يختزن خلفه ملايين الأطنان من الماء، واندفعت المياه تجاه القرية، واندفعت الناس تجرى فى جنون هاربين من القرية ومن اندفاع المياه المروع، استخدموا كل ما لديهم من وسائل المواصلات بما فيها بالطبع سيقانهم. شخص واحد كان يمشى بهدوء وثبات، كان كاهن القرية، أخذ الناس الذين يمرون به مسرعين يصيحون: أبتاه، أسرع أسرع، فكان يرد عليهم فى رقة: لا تقلقوا من أجلى.. اطمئنوا.. سينقذنى الرب.

لاحقته المياه، غطت قدميه وما زال يسير فى بطء وثبات، وفجأة جاء من خلفه موتوسيكل يزأر وصاح به راكبه: أبتاه، اركب خلفى.. هيا اركب.. اركب وأمسك بى جيداً أرجوك! فرد الكاهن فى لطف: امض فى طريقك يا بنى رعاك الله، اطمئن سينقذنى الرب.

ابتعد الموتوسيكل بينما صاحبه ينظر إلى الكاهن ساخطاً، ارتفعت المياه إلى أن وصلت ركبتيه، وفى هذه اللحظة جاء من خلفه فارس مغوار يمتطى فرساً قوياً، سار بجواره، وقال له بصرامة: أعطنى يدك يا أبتاه لأشدك فتركب خلفى! فيرد عليه بحزم: أنقذ نفسك يا بنى.. توكل على الله.. سينقذنى الرب.. شكراً.

ابتعد الفارس بسرعة بينما تلاحقه المياه التى وصل مستواها إلى صدر الكاهن، وهنا جاءت طائرة هليكوبتر، ألقى إليه قائدها حبلاً وصاح به: يا أبتاه، أمسك الحبل جيداً.. حتى أنقذك.. لم يعد هناك أحد بالقرية.. أنا آخر واحد.. أرجوك أمسك الحبل.. امنحنى شرف إنقاذك.. أتوسل إليك.. أبوس رجلك!

كما هو متوقع اعتذر له الكاهن فى أدب. وكما هو متوقع ارتفعت المياه فغطت أنفه، ثم رأسه، وكما هو متوقع مات الكاهن. وعندما وصل إلى السماء كان فى انتظاره جماعة من الملائكة، فقال لهم باستياء: أنا عاتب عليكم.. لماذا لم ترسلوا لى بمعجزة تنقذون بها حياتى؟!

نرشح لك

أهم أخبار صحافة

Comments

عاجل