المحتوى الرئيسى

سرها عند والدها.. أفضل أب في الدنيا

04/11 17:53

لعل أكثر سؤال يطرحه الناس علي في تجوالي وترحالي في جميع أنحاء العالم هو: كيف تعلمتِ كل هذه اللغات؟

الإجابة دائماً تكون : السر عند والدي. فهو من شجعني منذ نعومة أظفاري على حب اللغة وعلى تعلم اللغات الأجنبية والغوص في أعماق اللغة العربية

كان سؤال والدي على مائدة الغداء، كل يوم، باللغة العربية الفصحى. وإياك ثم إياك ألا تجيب بالفصحى

كنت أنا أكثر من يتجرأ ضمن أفراد الأسرة على الإجابة، دون كثير من الخوف، بالفصحى

كان ممنوعاً علينا في المنزل أن نتحدث بالعامية ، على الأقل بوجود والدي. فإما اللغة العربية الفصحى وإما لغة أجنبية. وهنا ظهر أول رابط حميمي بيني وبينه، إذ كان هو الوحيد في المنزل الذي يتحدث الفرنسية وكنت أنا أتعلمها في المدرسة كلغة أجنبية. وكم كان الأصدقاء يخشون الاتصال تجنباً للإرباك الذي يقعون فيه عند سماع صوت أبي يقول بالفصحى : "من يطلبها؟ هل تود أن تترك لها أي رسالة"؟

الكتب في المنزل كانت أكثر حضوراً من أي شيء آخر. كان منزلنا يعج بها، وكنت أشعر بأنها، أي الكتب، تزحف شيئاً فشيئاً لتتسلل إلى كل زاوية وتأخذ كل شيء آخر. تعلمنا أن الكتاب كان مقدساً، وبفضله نكون أو لا نكون. عندما كان الأطفال الآخرون يتلهفون لشراء لعب ودمى جديدة - وكان عندي الوفير منها طبعاً - كنتُ أنا أتطلع إلى كتاب جديد سيعطيني إياه والدي، لكي" أكون"، مثله

في العطل الأسبوعية ولكن بشكل خاص في العطل الصيفية، كانت المطالعة تمريناً دائماً، وكان علي منذ الصغر أن ألخص الكتاب أو أكتب عنه ملاحظاتي. كنت لا أزال في المرحلة الابتدائية

قد تعرفون والدي ناقداً وأديباً ومدرساً وكاتباً. لكن هل تعرفونه شاعراً؟

تخيلوا أننا في كل رحلة من دمشق إلى اللاذقية على الساحل السوري كنا نقضي الطريق كاملاً في مبارزة شعرية. والدي كان يلقي الأبيات من ذاكرته، ونحن كلنا كنا فريقاً واحداً ضده. كنت أحضر دفاتر بأكملها أخط فيها الأبيات بالترتيب الأبجدي. إذ كان على كل فريق أن يجد بيتاً يبدأ بنفس الحرف الذي ينتهي به بيت الفريق الآخر. وكانت المبارزة الشعرية تنتهي دائماً بيني وبينه بعد إفلاس الآخرين في فريقي.. ثم كانت تنتهي بإفلاسي رغم كل دفاتري وتحضيري على مدى أشهر ، عاماً بعد عام. وكان والدي دائماً يفوز.. ولعله كان يؤلف بعض الأبيات إن لزم الأمر ، فهو كان قادراً على ذلك، ولم يكن يخالف قواعد اللعبة. لكن هو وحده كان شاعراً بين المتسابقين

والدي استطاع الجمع بين سوريته وفلسطينيته بشكل كان دائماً يبهرني. فكان دائماً مخلصاً للوطنين. علمنا أن نحب الوطن، الوطن الذي ولدنا فيه وترعرعنا فيه، والوطن الذي لم نعرفه ولم يعرفنا، لكننا نحبه ويحبنا. لن أنسى قط كيف كان يتألم والدي مع كل جرح تتعرض إليه فلسطين. حسه الوطني القومي كان حاضراً دائماً في كل موقف وكل تحليل. من خلاله عرفت تجربة النزوح من فلسطين وكأنني أنا عشتها معه

والدي رجل شرقي لكنه لم يشعرنا يوماً بأن البنت أقل أهمية من الولد، بل على العكس كان تشجيعه لي ولأختي ووالدتي منقطع النظير. وعندما وقف المجتمع في وجهي، كان هو يصطف إلى جانبي لمواجهة المجتمع. قال لي : اختاري أي جامعة تريدين في العالم وهناك ستدرسين. وحقق لي ذلك رغم التكلفة العالية ورغم كل التناقضات الاجتماعية المترتبة على إرسال فتاة وحدها للدراسة في الخارج في أوائل التسعينات. وكان دائماً المشجع الأول لي في مغامراتي حول العالم. فهو علمني حب الوطن وحب التجربة وحب المعرفة

وإن كنتُ قد حققت أي شيء في حياتي فهو بفضله (وبفضل والدتي طبعاً)، فهو الرجل الذي شاهدته يقضي أياماً وأسابيع في مكتبه لا يكل ولا يتعب، وهو الرجل العصامي الذي صنع نفسه انطلاقاً من لاجئ فلسطيني ، وهو من سعيت في كل ما قمت به في حياتي أن أحصل على رضاه عنه

إن قدسية الكتاب لدى والدي تعكس لديه قدسية المعرفة. المعرفة هي أفضل سلاح. هو ما علمنا إياه والدي وهو ما سعى لإعطائنا إياه أكثر من أي شيء آخر من خلال التعليم لأنه أفضل وسيلة للتقدم وأفضل سلاح للدفاع عن الوطن. والدي الآن هو نفسه مادة كتاب.. لا شك في أنه سيضيفنا معرفة.

كتبت هذا النص مساهمة مني في كتاب تكريمي لوالدي بمناسبة بلوغه الثمانين من العمر

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل