المحتوى الرئيسى

بعد 84 عاماً... أحبّكِ

04/10 23:41

مضت ساعتان وأنا على هذه الحال. أكتب وأمحو، فأكتب وأمحو، فأكتب وأمحو. في سَريرتي، أسعى إلى ما يطلقون عليه الاستثناء، ويصفونه بالفرادة. ما يبدأ بألّ التّعريف. بتلك المصطلحات ومرادفاتها. إلى استخدام تلك التّعابير الّتي تخصّ أحداً دون غيره.

كريمة نايت في الخلفيّة. تشدو شيئاً للأمّ. صوت الغيتار يُمزّق أشيائي. في داخلي أشعر بكلّ نقرة أنملة على وتر. شيءٌ يُشبه قرع طفلٍ وُعد بكيس حلوى على الجهة الأخرى من الباب. الأكورديون ليس أشفى حالاً. اللّحظة، أجده وقحًا. لا راحةَ بين الجملة والجملة. حتّى الموسيقى تحتاج إلى عمليّة شهيقٍ وزفير.. وصمت.

ماذا تقول المرأة في كلّ الأحوال؟ لستُ أدري، هي عبارةٌ واحدةٌ تمكّنتُ من التقاطها: يُمّا، كرهت اليوم اللي رحلتِ بعيد خلّتيني وحدي". لا افهم لهجات المغرب العربي، ولا اللّغة الفرنسيّة.

- من يُجبركِ على استماعها؟

- لا إجبار، فقط أجدها ملائمةً للحالة.

بعد تعبٍ شديد أقرّر الاستسلام. لا لشيء، سوى إلى تلك البداية الّتي لا يُفترض بها الخضوع لأيّ نوعٍ من المعايير. إلى البداية الحرّة. ما يحزّ في الدّاخل عصيٌّ على التّصوير المتعارف. وما اللّغة سوى أضعف ناقلٍ للإحساس.

ما أحوجني الآن إلى فكرةٍ واحدة، واحدة فقط، تكون متماسكة.

اللّحظة، تدور في مخيّلتي الآلاف والآلاف من التّفاصيل. ابتسامةٌ مُتعَبة، رائحة بزرٍ أبيضٍ مُعتّق، زحمة تجاعيدٍ حول منطقة الفم، شفتان شبه متباعدتين، تأوّهٌ من عمقٍ مهما غصتَ لن تجد، غرابة تمازج خطوطٍ زرقاء مع سترةٍ خضراء، ضوءٌ خافتٌ يدخل شقّ باب غرفتي، ضغطٌ خفيفٌ على إبرةٍ يحتلّها سائلٌ ما، صوتٌ يطلب جرعةَ ماء، جرعتين، ثلاث، أصابع تضغط بشدّة على الأشياء، نظرة غريبة تستجدي الدّاخل إلى الغرفة البقاء، عمشٌ مزعجٌ حول العينين، ركبة تأبى الانحناء، ظهرٌ اعتاد ذلك، دعوة بطول العمر، شتيمة بريئة ومُضحكة لدى ذكر الموت، شعيراتٌ تجتاح ذقناً، سنٌّ ذهبيّةٌ تلمع مع ضحكةٍ نابعةٍ من ذاك العمق الّذي لن تجد، بيت عتابا يحكي الأمجاد، زرّق يرفع القسم العلويّ من السّرير، آخر يُخفض القسم السّفليّ.. أمل.

يوم وقفتُ أمامكِ في غرفة العناية لم أستطِع البوح بالكثير. أمقتُ التعبير عن مكنوناتٍ ما بوجود الآخرين. في تلك اللّحظات الخاصّة، الآخرون مشكلة. لدواعٍ طبّيّة، لم أستطع لمس يديكِ. تصوّرتُ الكفّين كفنًا يلفّ أناملي، أظفاري، يخنق خطوط يديّ، يقوّض حركتها. رغبتُ بتمزيقه. رفع أصابعي نحو وجهك النّحيل. إعادة نحت تفاصيله كي تعود شابّة، معافاة، جميلة، نضرة، قويّة.

خلال سنوات الدّراسة، نهرتني إحدى المدرّسات قائلة: ليس كلّ ما نفعله نرغب به، ولا كلّ ما نرغب به نستطيع فعله. يومها، كرهتُ المدرّسة وفلسفتَها البالية. احتفظتُ لنفسي باستنتاج طفلة: "المُعلّمة غبيّة". قُلتُها ورفعتُ رأسي متباهية. لا شيء، إطلاقًا، لا شيء، يحدّ الإنسان.

هناك، بمجاورة الشّرائط الّتي كنتِ تسرقين منها رمقًا من حياة، هوى إيماني وانتصرت فلسفتها. ذلك العجز عن شفاء مرض، تسكين ألم، ترميم جرح، جعلني أرقدُ في حجرٍ أسود مخيفٍ، مقيتٍ، ناءٍ، بعيد. لم أستطِع الخروج. كانت الأشياء مطبقة عن آخرها. كلّما نقر صوتُ آلةٍ سخيفةٍ في خلفيّة الغرفة، وجدتُني أهوي في الحجر. كلّما حرّكتُ يديّ بحثاً عن ضوء، قليلٍ من ضوء، لقيتُ سواد الحِجر يُصبح حالكاً أكثر. كلّما فركتُ عينيّ علّ الرّؤيا تتّضح، تصيبني الصّدمة، والخوف. هل أصبحتُ ضريرةً؟

شيءٌ وقحُ ينمو في حلقي. مخاضه عسير. أحاول بلع ريقي عساه يشطُف ما يتمرّد في الأسفل، فلا أُفلح. أنفثُ الهواء من فمي، يخرج ناراً. أسحب، تتسلّل رائحة الموت من خلف الكمّامة، فأنسحب.

أُخبركِ شيئاً؟ لا أحد يعلمُ أنّنا الآن وحدنا. في الدّاخل زحمةٌ لا أستهويها. اللّحظة، كثرٌ يحاولون ثنيي عن الحزن الجماعيّ. أكره هذا النوّع من الأحزان. وُلد الحزن كي يُمارس في السّرّ لا العلن. في إشهاره نوعٌ من التّسخيف.

دائماً، هناك حكايةٌ تُروى عن الآخرين بعد رحيلهم. غريبٌ أمرنا، نتحاشى التّطرّق إلى ذلك وهم لا يزالون على قيد الحياة. لمَ لا نستطيع رؤية جميلهم وهم لا يزالون بيننا؟ ميلُنا إلى قبيح الأفعال شديد، وكأنّ في الأمر امتيازا لنا.

أُخبرك شيئاً آخر؟ أعلم أنّكِ تحبّين سرد القصص وسماعها. أكره الفراق. أخشاه. أتحاشاه. ولكن ماذا عساي أفعل في حالة الفراق الجبريّ؟ أكثر ما يؤلمني؟ لحظة تقابل وجهانا، لحظة لم تفصلني عن تفاصيل وجهك سوى سنتمتراتٍ قليلة. كان وجهكِ غريباً عنّي، قريباً منّي. لحظتها رغبتُ البوح بالكثير الكثير. لكنّي لم أستطِع.

تيتا. كتبتُ كثيراً عن الموت. جلستُ بين أباءٍ يصرخون ألماً، أمّهاتٍ يُهشّمن وجوههنّ، بناتٍ يضربن أنفسهنّ بأيّ شيء، حرفيّاً أيّ شيء، يحملنه بين أيديهنّ. اضطررتُ مرّاتٍ عديدة أن أنزع عنّي رداء المشاعر وأرتدي عباءة العمل. وفي كلّ مرّة، كنتُ أعود، أحملُ قلماً وورقة، وأكتب. وعندما أُنهي ما بين يديّ. أكبتُ ضعفاً شديداً بداخلي، أعكسه قوّة، وأدخل منزلي مُبتسمة.

في إحدى المرّات اتّخذتُ قراراً: لن أكتبَ عن فقيدٍ يخصّني مهما كلّف الأمر. أدرك جيّداً عجزي عن إيصال التّعبير الصّحيح. ليست المواجهة مع الورقة أمراً سهلاً. يظنّون أنّنا مجرّدون من المشاعر لأنّنا نجرؤ على نكز زاوية يتحاشاها الآخرون. ذاك عارٍ من الصّحّة. أكمل اعترافاتي؟ أنا أوهن من المواجهة، أضعف من البوح. أن أقول لأحدهم: أحتاجك، أجّل رحيلك، ولو قليلاً.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل