المحتوى الرئيسى

الفساد يبدأ بسجادة!.. هكذا تستدرج شركات غربية مسؤولين عرباً

04/09 19:33

قد يذكر معظم الناس أن الثورات العربية بدأت بشاب أحرق نفسه، لكن ما لا يتذكرونه هو أن ذاك الشاب فعل ذلك احتجاجاً على الفساد؛ فقد رأى محمد بوعزيزي بائع الفاكهة التونسي الجنسية، أن رجال الشرطة تعرضوا له أكثر من غيره من الباعة.

موت بوعزيزي أشعل فتيل أكبر حراك سياسي في القرن الـ21، فقد قال موظف الاستخبارات الفيدرالية الأميركية جورج مكيتشيرن، أحد كبار محققي الرشى والفساد العالميين، أن الربيع العربي كان "في معظمه رداً على الفساد، فالفساد يؤدي إلى فشل الدولة، ما يؤدي إلى الإرهاب".

ولهذا السبب بالذات، فإن فضيحة الفساد الجديدة التي كُشفت ملابساتها مؤخراً من سيل الرسائل الإلكترونية السرية الخاصة بشركة غامضة في موناكو تدعى Unaoil هي فضيحة مدوية.

فيوم الأربعاء 30 مارس/آذار 2016 نشرت كل من "هافيتغتون بوست" وشريكتها الأسترالية "فيرفاكس ميديا" نتائج بحث استغرق شهوراً طوالاً أجراه الصحفيان ريتشارد بيكر ونيك مكنزي، حول شركة Unaoil الغامضة هذه، والتي هي مكتب يساعد الشركات العالمية متعددة الجنسيات على إبرام عقود في دول ومناطق من العالم تطفح بالفساد المنتشر فيها.

مئات الشركات العالمية الكبرى من مثل هاليبرتون وفرعها السابق KBR وشركتا رولز رويس وسامسونغ، كلها أسماء تعاملت مع Unaoil من أجل إبرام عقود مربحة في دول كالعراق وكازاخستان وليبيا وسوريا وتونس ودول أخرى في أفريقيا والشرق الأوسط والاتحاد السوفييتي السابق، حسبما تكشفه عشرات آلاف الرسائل الإلكترونية والوثائق الداخلية.

من المعهود أن تتعامل الشركات العالمية الضخمة مع شركات ومكاتب أصغر تتمتع بخبرة محلية، وذلك بغية إتمام عقود في دولة ما. لكن في كثير من تلك الحالات اتضح أن شركة Unaoil لم تكن تحرز هذه العقود لا بخبرتها ولا بدرايتها، بل بدفعها ملايين الدولارات من الرشى للمسؤولين الفاسدين.

نفت معظم الشركات التي تعاملت مع Unaoil تورطها في أنشطة فاسدة غير شرعية، فقالت متحدثة باسم KBR "إن شركة KBR ملتزمة بإجراء تعاملاتها التجارية بكل نزاهة وشفافية تماشياً مع كل القوانين المرعية".

أما سامسونغ فقالت "لا نتسامح أبداً مع الممارسات غير الشرعية ولا الأخلاقية التي قد تصدر عن بعض موظفينا أو من يعملون بالنيابة عن شركتنا، فسامسونغ لطالما عملت ضمن الأنظمة وأطر القانون في كل تعاملاتها التجارية".

في حين أن شركة رولز رويس أرسلت عام 2013 رسالة إلى فرع من شركة Unaoil تقطع به العلاقة معها مستندة إلى تهم فساد، فقالت إنها "تتعاون مع السلطات المعنية ولا تدلي بأي تعليق حول التحقيقات الجارية. لقد أوضحنا أن رولز رويس لا تتهاون مع ممارسات العمل الخارجة عن الضوابط مهما كانت".

وهكذا بمماشاتها لفساد الأنظمة غير النزيهة أساساً وضخ سيل الأموال والموارد خارج الدول الفقيرة، فإن شركة Unaoil وشركاءها كانوا يغامرون بما هو أكبر من مجرد دفع غرامات ومبالغ جزائية؛ بل ساهمت الشركة بإشعال نار الفتنة السياسية وزعزعة الاستقرار، ما أوغر صدور المواطنين ضد حكوماتهم وأذكى نار الغضب التي أججت الثورات العربية، الأمر الذي جعل المشهد كله فريسة سهلة للجماعات الإرهابية كالقاعدة وداعش.

حسب تقديرات دانييل كاوفمان خبير الإدارة في معهد البنك العالمي، فإن الشركات والأفراد يدفعون سنوياً ما لا يقل عن تريليون دولار على صيغة رشى لمسؤولي القطاع العام.

إن رسائل البريد الإلكتروني الخاصة بشركة Unaoil لا تُظهر لنا كيف يهز فساد دول العالم الثالث المستفحل أسس الشركات الغربية المظلومة والمغلوبة على أمرها، بل العكس تماماً: فهي تُظهر لنا كيف أن شركة Unaoil في تمثيلها للشركات الغربية تعمل ببطء تدريجي على إفساد المسؤولين الأجانب في دول العالم الثالث واستجرارهم إلى مستنقع الفساد، وذلك بدءاً بهدايا صغيرة ومبالغ نقدية للتسوق الشره، ومن ثم الإيقاع بهم في شرك الرشى الكبرى.

يقول عملاق شركات صناديق التحوط الملياردير جورج سوروس "هنالك دوماً من يدفع، والشركات العالمية عموماً هي مصدر الفساد." وهذا جزء من الرواية التي لطالما حدَّث الإرهابيون بها السكان المحليين لتسويغ وتبرير حربهم الجهادية في زعمهم. وهو أمر على صواب في كثير من الحالات التي لا يتسع المجال لذكرها هنا.

تقول شركة Unaoil التي مقرها موناكو لكن تأسست في جزر فيرجن البريطانية إنها توفر "حلولاً صناعية لقطاع إنتاج الطاقة في الشرق الأوسط ووسط آسيا وأفريقيا." تأسست الشركة عام 1991 على يد المليونير عطا أحسني المولود في إيران والذي غادرها بعد ثورة 1979.

يقول أحسني عن عمل شركته متحدثاً إلى "هافينغتون بوست" ووكيلتها في أستراليا "فيرفاكس ميديا" إنه "بسيط جداً، ما نقوم به هو دمج التقنية الغربية بالمقدرات المحلية." اثنان من أبناء عطا أحسني، سيروس وسامان، يتوليان مهام الشركة وإدارة عملياتها اليومية بشكل رئيسي.

إليكم الطريقة التي عملت بها مخططات الشركة في أغلب الأحيان. فضمن الإطار الزمني للوثائق التي درسها فريق صحفيينا، والتي يندرج معظمها بين نهاية عام 2003 وحتى أواسط 2011، درجت Unaoil على طلب نسبة من عائدات شركائها من أي عقد تنجح بإبرامه باسمهم. متى ضمنت حصتها من أرباح الشركة التي أوكلتها، تعمد أحياناً إلى استغلال جزء من تلك الحصة لرشوة مسؤولين حكوميين، أما الباقي فتبقيه لنفسها.

في إحدى رسائله الإلكترونية التي بعث بها إلى زملائه عام 2005، وصف باسل الجراح –أحد الرؤساء التنفيذيين في شركة Unaoil- لقاء في شهر سبتمبر/أيلول مع لوران بواديفان الذي كان حينها نائب رئيس قسم المبيعات والتسويق في شركة أميركية للأجهزة والمعدات التقنية اسمها FMC Technologies.

في رسالته تفاخر الجراح أنه أقنع شركة FMC بتوكيل شركته Unaoil للحصول على عقود لتركيب 4-6 أذرع تحميل جديدة في مرفأ هام بالكويت. وهذه مقتطفات من الرسالة:

"ضمنت اليوم التزام الشركة بتقديم حصة 10% مكتوبة وموثقة خطًّا مع نهاية يوم العمل. وطلبت من FMC أن تكتب لنا كذلك 3 رسائل تنص على:

حصة 1% لشركة أخرى من أجل المقدمة.

حصة 7% لصالح Unaoil والتي سنقدمها للرأس الأكبر المسؤول في الكويت.

حصة 2% لصالح Unaoil على أن تقسم داخليًّا".

ولم يمانع السيد لوران أيًّا من هذا شريطة عدم ذكر الأسماء الشخصية. وسيطلع مديره التنفيذي على هذا الاتفاق عندما يعود إلى مقر مكتبه وسيرسل رسالة إلكترونية بنص الالتزام، يليها عقد استشارة مزمع أن يوقع عليه كلا الطرفين.

وهناك وسيط آخر سيتعامل مع المسؤول الكبير في الكويت، ويقرر أي حصة من تلك الـ7% ستذهب إلى جيب ذلك الرجل".

بواديفان حالياً يشغل منصب رئيس ومدير عام شركة FMC حسب ما هو مذكور في حسابه الشخصي على موقع Linked In. وقالت متحدثة باسم شركة FMC في رسالة إلكترونية أن "لدى شركة FMC Technologies ثقافة من المسؤولية واحترام القانون، وهي تتنافس بقوة تقنيتها وخدماتها وتميزها التنفيذي. موظفونا مثال على قيمنا الجوهرية المتمثلة في النزاهة والاستقامة، كما أنهم مدربون على الإبلاغ عن أية مخاوف مقلقة. إننا نحقق في كل القضايا المطروحة بشكل دقيق مفصل ونتخذ إجراءات مناسبة؛ وهذا التزام أخذته FMC Technologies على عاتقها منذ زمن طويل تطبقه في كل مكان تمارس نشاطها وأعمالها فيه".

هل رشت Unaoil مسؤولين حكوميين؟ الإجابة التي أجابنا بها عطا أحسني "قطعاً لا".

إن صح أنها فعلت -مثلما هو ظاهر في رسائل البريد الإلكتروني الخاصة بموظفيها- فإن الشركات التي تعاقدت مع Unaoil وأوكلتها قد تواجه عقوبات جزائية أو غرامات ضخمة. ففي الولايات المتحدة يوجد قانون فيدرالي اسمه FCPA ويعني قانون الممارسات الأجنبية الفاسدة، يمنع الشركات الأميركية من العمل مع أي كيان يعرفون أو يكتشفون أنه يرشي المسؤولين الحكوميين؛ بل حتى أن مجرد عرض دفع رشوة بحد ذاته ممنوع، ولدى معظم الدول الغنية مثل أستراليا وكندا وبريطانيا قوانين مماثلة. كما أن النيابة العامة الأميركية (الادعاء العام) من حقها تطبيق القانون الأميركي (وتقوم فعلاً بتطبيقه) على الشركات الأجنبية، خاصة تلك التي تمارس نشاطها في أميركا أو تطرح أسهماً في بورصات التداول الأميركية. تاريخياً 8 من أكبر 10 غرامات جزائية حكم بها قانون الـ FCPA هذا كانت بحق شركات مقرها خارج الولايات المتحدة، وجميع هذه الغرامات الـ10 الكبرى كانت قيمتها من فوق الـ100 مليون دولار.

لم تكن جميع الشركات المتعاملة مع Unaoil قطعاً على علم بممارسات تلك الشركة. لكن هذا قد لا يهم، فقانون الـFCPA ينص أيضاً على بنود غرامات وعقوبات جزائية بحق الشركات التي تفشل بتقصي ممارسات وكلائها وشركائها بشكل دقيق للوقوف على أية رشى في نشاطها؛ يسمى هذا في نص ذلك القانون "الجهل العمد" أو "التعامي عن قصد" كما شرح لنا آندي سبولدينغ، أستاذ القانون في جامعة ريتشموند والذي لديه مدونة على الإنترنت بهذا الخصوص.

يقول سبولدينغ "تاريخيًّا دأبت معظم هذه الشركات على استئجار الشركات الوسيطة. تظن الشركة الأولى أن القانون يحميها لأنها لا تدري ما تفعله الشركة الوسيطة؛ لكن إن كانت هناك محاذير وشبهات ولم تقم الشركة الأولى بتقصيها والبحث فيها، فهذا يشكل لها تبعة ومصدراً للمساءلة القانونية".

حامت الشبهات حول نشاط Unaoil وأحاطتها من كل جانب. فمجرد معرفة أن مقرها جنّة الضرائب الصغيرة "موناكو" كان حريًّا أن يثير ريبة شركائها حسب ما قاله ريتشارد بيسترونغ المدير التنفيذي لمؤسسة Frontline Anti-Bribery الاستشارية في مكافحة الرشى.

وأضاف "فور أن تعلم أن لدى الشركة وكيلاً في موناكو، كفيلٌ بتحذيرك".

وبيسترونغ سبق أن تعاون مع جهاز استخبارات الإف بي آي الأميركي وخدم 14 شهراً في سجن فيدرالي على خلفية قضية خرق لقانون الـFCPA، وهو الآن يقدم استشارات للشركات حول تفادي الوقوع فيما وقع هو فيه.

ويقول إن مجال أعمال Unaoil –الذي هو مجال صناعة إنتاج الطاقة- هو مجال "محفوف بالمخاطرة وكفيل بإثارة الريبة والحذر على مستوى الدولة"، كما أضاف أن تأسيس تلك الشركة في جزر فيرجن البريطانية هو في حد ذاته "شبهة كبرى" على حد قوله.

لكن بعض شركاء Unaoil لم يحفلوا كثيراً. مثال صارخ على هذا رئيس شركة Completions Canuck الكندية المتخصصة بتكسير الصخور لاستخراج النفط ويدعى كيسلي كالينسكي؛ فقد بعث برسالة إلكترونية إلى زملائه وإلى موظف في Unaoil اسمه فوروهار فارزادنيا مستفسراً عن صفقة في ليبيا.

كتب كالينسكي "السؤال الذي يشغلنا هو: ما نوع البقشيش المطلوب تقديمه لهؤلاء الرجال لكي نبدأ الصفقة. فالبقشيش متعارف عليه في ليبيا، لكننا لسنا متأكدين من طريقة التعامل.

هل ينبغي فعلها بعد ساعات العمل الرسمية وجهاً لوجه؟ أم نضيف قيمة البقشيش إلى نصيب بطاقتهم، أم نجعلها قيمة مدفوعة كل شهر؟ لا ندري. ما مقترحاتكم بهذا الصدد؟" (كالينسكي يعمل الآن في شركة TMK Completions التي استبدلت ودمجت شركةCompletions Canuck قبل عدة سنوات. وقد رفضت هذه الشركة التعليق على الموضوع أو إتاحة كالينسكي للاستفسار).

ثم بعد عدة رسائل إلكترونية كتب سامان أحسني بنفسه رسالة إلكترونية إلى فرزادنيا وآخرين، يقول فيها "لا أعرف ما يقصده كيفن بـ"بقشيش". أود تذكير الجميع بسلوكيات مجموعتنا وأننا لا نتهاون ولا نتسامح مع أي تساهلات. ينبغي التحدث إليه".

الرشى ممنوعة لأسباب عديدة، لكن أحد هذه الأسباب هو الذي ارتكزت عليه مساعي الولايات المتحدة في مكافحة الرشى لعدة عقود: إنه حقيقة أن الفساد يزعزع استقرار الدولة السياسي ويقوي أعداء الأنظمة الديمقراطية ذات السوق المفتوحة. فعندما سنت الولايات المتحدة قانون الـ FCPA عام 1977 كما أخبرنا سبولدينغ أستاذ القانون في ريتشموند "كان الخوف من أن الشركات الأميركية التي تدفع رشىً خارج البلاد قد تضعف من موقف الغرب أثناء الحرب الباردة. "فقد أدرك المشرعون والمقننون الأميركيون أن الفساد يوهن الحكومات الصديقة للغرب ويجعلها فريسة سهلة لحركات التمرد والعصيان السياسي فيها.

وكما كان حال أسلافهم الشيوعيين، أدرك الجهاديون كذلك قوة روايات الفساد ومكافحته بغية إحراز شعبية بين الناس والفوز بدعمهم وتعاطفهم. يقول روجر كوك خبير الفساد في جهاز شرطة مدينة لندن "إن الفساد أداة بيد الإرهاب، وسبب يؤدي إلى الإرهاب".

فالجهاديون يرون أن الورع ليس غاية بحد ذاته، بل وسيلة لتحقيق حكومة صالحة رشيدة. ففي 2004 سجل أسامة بن لادن مقطع فيديو دعائي أرسله إلى قناة الجزيرة يحذر فيه الشرق الأوسط من أن إدارة بوش احتلت العراق "بأداة جديدة تساعدهم على سرقة نفط العراق." فقد كان بن لادن مغرماً بشجب "غرور وكبر وجشع وتكديس أموال" دول الخليج.

وفي عام 2008 كتبت كيم باركر في صحيفة Chicago Tribune عن ظاهرة الفساد في أفغانسان قائلة في تقرير لها من كابول "إن الفساد يحوّل الكثيرين للاتجاه نحو طالبان المتطرفة التي هي أنظف بالمقارنة. قد يتذكر الجميع قسوة حكم طالبان، لكن الجميع يذكر أنهم كانوا يطبقونه بإحكام ولم يرتشِ أيٌّ منهم".

كذلك يشجب أيمن الظواهري الذي يترأس القاعدة الآن، الفساد في كل مناسبة، فقال في 2009 "إن هذه الأنظمة الفاسدة والعفنة هي السبب وراء الظلم الاقتصادي والفساد والقمع السياسي والتفكك الاجتماعي".

كذلك ركز الجهاديون في أفعانستان والعراق وسوريا وليبيا معظم حملتهم الدعائية على الفساد المستفحل في حامد كرزاي ونوري المالكي وبشار الأسد ومعمر القذافي.

فبعدما نصَّب أبو بكر البغدادي نفسه خليفة لـ"داعش" عام 2014 كان أول قراراته وأوامره التعهد بإعادة الأملاك التي كان نوري المالكي –رئيس الوزراء العراقي آنذاك- قد استولى عليها بطرق غير مشروعة.

قال لنا مسؤول عراقي كبير غير مخول بالتحدث وإصدار التصريحات المسجلة "إن جزءاً من روايتهم يقوم على أن الدولة فاسدة وأن الديموقراطية صنو الفساد".

ولكي تثبت أنها جادة بمكافحة الفساد تعمدت داعش أن تعاقب عدة مقاتلين من صفوفها بالصلب بعد مزاعم بأنهم تقبلوا رِشىً.

عندما تقع الدول الموالية للغرب في فخ الفساد ويصيبها الضعف والخلل، يصب ذلك في مصلحة المتمردين الذين تتهلل أساريرهم لهذا الخبر، ولهذا السبب يفرحون عندما تسمح الشركات الأميركية والغربية بتقويض نظام الإدارة والتهاون مع الفساد.

وكما قال الملياردير سوروس: هنالك دوماً من يدفع الرشى. فمثلاً الفساد في أفغانستان والعراق لم تسؤ حالته وتستفحل إلا بمجيء الاحتلال الأميركي، حين جلبت أميركا معها الشركات الغربية ورؤوس الأموال. وبين عامي 2003 و2015 تردّت العراق على سلم الشفافية العالمي ومؤشر الفساد من المركز 113 إلى 161.

وقال كيث هندرسون الذي قام في وزارة الخارجية الأميركية عام 2008 بتقييم مساعي العراق في مكافحة الفساد ويعمل الآن مدرّساً في كلية الحقوق بجامعة أميركية "لقد تلقَّنا درساً صعباً. إن لم تفعل شيئاً حيال مسألة الفساد في مؤسسات الدولة، فإن إحدى النتائج المحتملة جدًّا تزعزع الاستقرار المدني وربما العصيان والتمرد".

العام الماضي كتب آرون أوكونيل المؤرخ العسكري في الأكاديمية البحرية الأميركية، أنه في أفغانستان "مجرد كم وحجم المساعدات الدولية الداخلة إلى البلاد منذ عام 2002 خلق حوافز كبيرة للارتشاء". فبين عامي 2005 و2015 تراجعت أفغانستان على مؤشر الفساد العالمي من المركز 117 إلى 166 تماماً فوق كوريا الشمالية والصومال.

وقد شهدت سارة تشايس على حجم الضرر الذي تسبب به تدفق الأموال الغربية –وما رافقها من فساد- على أفغانستان. فقد كانت تعمل مراسلة صحفية للراديو الوطني العام الأميركي NPR في كابول لتغطية دخول القوات الأميركية إلى هناك لدحر طالبان. لكنها بانتهاء مهمتها لم تغادر البلاد، بل قررت البقاء والمساعدة في إعادة الإعمار، فافتتحت شركة تعاونية لإنتاج الصابون وزيوت الجسم. كانت بذلك أحد الأمريكيين القلائل الذين عاشوا في أفغانستان وعملوا فيها على مدار الـ15 عاماً الماضية وسط الشعب الأفغاني لا من وراء الأسلاك الشائكة.

وبعد بضعة أشهر فقط لاحظت تشايس أن أناساً كانت تعدهم عاديين طبيعيين من الوسط بدأوا يعبرون عن تعاطفهم مع طالبان. من بعدها أدركت ما الذي يجري، وأن الفساد الذي تفشى على كل الأصعدة منذ دخول الاحتلال الأميركي قد بدأ يوغر الصدور ويؤلب الناس ويزعزع استقرارهم غضباً.

بعد ذلك بدأت تشايس بالعمل لصالح الجيش الأميركي في أفغانستان، وشن حملة داخلية لإقناع صناع السياسة بالتركيز على الفساد ومكافحته. في نهاية المطاف وصلت القضية مكتبَ وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون التي ما كان منها إلا أن رفضت القضية وردّتها في مذكرة صادرة عام 2010 ما زالت تصنف ضمن الأوراق السرية.

تقول تشايس إن الناس في الغرب يعتقدون أن مجمل حركات التمرد الثورية في الدول ذات الأغلبية المسلمة، إن هي إلا رد فعل على دور الإسلام في المجتمع، لكن الواقع أن سببها استغلال المتمردين لانتشار السخط بين الناس إزاء طريقة إدارة وحكم بلدانهم. فالناس الذين ملُّوا وطفح بهم الكيل من الفساد يميلون للبحث عن قادة نزيهين بعيدين كل البعد عن الفساد.

كتبت تشايس في كتابها "لصوص الدولة Thieves of State" الذي تناقش فيه تهديد الفساد للأمن العالمي "لم يذكر المساجين على رأس قائمة أسباب انضمامهم إلى طالبان لا الانحياز العنصري ولا ازدراء الإسلام ولا القلق من بقاء القوات الأميركية في بلدهم؛ بل ذكروا على رأس قائمتهم نظرتهم للحكومة الأفغانية، على أنها ممعنة بالفساد بشكل ميؤوس منه". وأضافت بأن الأفغانيين "يرون واشنطن هي المسؤولة عن تصرفات حكومة كرزاي".

لطالما طُمِس دور الشركات الغربية في دفع عجلة الفساد الأجنبي وتغذيته، لكن الرسائل الإلكترونية الخاصة بشركة Unaoil برهان ساطع على تواطؤ بعض الشركات مع الفساد الأجنبي وكم أن شركات أخرى مستعدة للتغاضي وغض الطرف عن هذا الفساد.

خذ مثلاً قضية ضياء جعفر الموسوي الملقب بـ Lighthouse أو "المنارة" في الرسائل الإلكترونية تلك. عندما بدأت Unaoil بالتعامل مع ضياء جعفر –الذي يشغل حالياً منصب نائب وزير النفط العراقي- لم يكن حينها سوى مسؤول في "شركة نفط الجنوب" التي هي أهم شركة حكومية لإنتاج الطاقة.

كتب الجراح عن ضياء جعفر عام 2008 "عندما يزور رؤساء الوزراء مدينة البصرة يرافقهم هو أولاً ثم يجتمع بهم في جلسات خاصة." في ذلك الوقت كان الجراح وشركته Unaoil يركزان على استدراجه بالرشى الصغيرة.

وتحوي الرسائل الإلكترونية والوثائق عشرات الأمثلة على مدفوعات لمسؤولين حكوميين من قبل عدة موظفين في شركة Unaoil، لكن الجراح كان دوماً أقلّ موظفي الشركة تكتماً في مراسلاته وأكثرهم مجاهرة بنشاطه، فقد وصف مساعيه للإيقاع بضياء جعفر في رسالة إلكترونية قائلاً:

" لم نقدم الكثير لضياء جعفر حقيقةً، لكن إليكم قائمة:

1. اصطحبته مرتين في جولات تسوق كلفت في كل مرة مابين 1000$ و 2000$.

2. دفعنا لأحد عملائه الذين تحته مبلغ 30 ألف $ لقاء مساعدته لنا في طلبية القاسم.

3. منحنا ابنه دورة لغة إنجليزية لمدة أسبوعين في دبي ورتبنا لابنه مقابلاتٍ لتوظيفه في شركة عدنان، لكن الابن وجد لنفسه عملاً آخر بديلاً.

4. عملنا طيلة الـ8 أشهر الماضية للحصول له على إقامة في الإمارات العربية المتحدة لكن دون جدوى.

دفع "المنارة" لـUnaoil ما أرادته من معلومات داخلية ومن ترجيح كفة زبائن معينين لدى شركته النفطية. وقد كتب الجراح في أغسطس/آب 2009 رسالة إلكترونية إلى عطا أحسني وابنه سيروس قال فيها: "من خلال حديثي العام مع السيد "منارة" هذا المساء تبيّن أن شركة TPIC العالمية التركية للنفط، قاربت على الفوز بطلبية قيمتها 325 مليون دولار لقاء حفر 45 بئراً نفطيًّا جنوب العراق.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل