المحتوى الرئيسى

نعمان لطفي يكتب: لماذا ثار «البشموريون»؟ | ساسة بوست

04/09 11:22

منذ 22 دقيقة، 9 أبريل,2016

في هذا المقال أحاول مناقشة الأسباب التي تذكرها الروايات العربية، ورواية «ساويرس بن المقفع»، وأما رحلات «الأنبا ديونسيوس» فلم يُتَح لي الاطلاع عليها، وربما الاطلاع عليها سيثري البحث، ويكشف لي عن بعض النقاط الغائبة التي تفيد في كشف الحدث، لكني سأحاول كشف الغموض الذي يكتنف بعض الشخصيات والأحداث في هذه الروايات التي توفرت لدي، وأخيرا أحاول الكشف عن العوامل التي أراها وجيهة؛ لتفسير التمرد الذي قاده نصارى «البشمور».

إن النظرة السطحية في مصادر التاريخ العربي المتأخرة تجعلنا نخرج بنتيجتين:

الأولى: أن سبب تمرد الوجه البحري «عربه وقبطه» كان لسوء سيرة العمال فيهم، دون توضيح للعمال سيئي السيرة، وكيف كانت سيرتهم سيئة!

الثانية: أن المسئول عما حدث من اضطرابات هو الوالي «عيسى بن منصور»، وأن المأمون لما بلغه الأمر سخط عليه، وحل لواءه، ووبخه قائلًا: «لم يكن هذا الحدث، إلا عن فعلك وفعل عمالك .. حملتم الناس ما لا يطيقون، وكتمتموني الخبر حتى تفاقم الأمر واضطرب البلد».

وأما رواية ساويرس بن المقفع (تاريخ البطاركة 2/ 810، 811) فتجعلنا نخرج بتفاصيل أكثر، منها مثلا:

أنها تبين أن متوليَي الخراج: «إبراهيم بن تميم» و«أحمد بن أسباط» أرهقا الناس بكثرة الخراج، حتى اضطروا إلى بيع أبنائهم. كما تورد بعض الصور التي تبين – من وجهة نظر ابن المقفع – ما تعرض له البشموريون من ظلم، كربطهم في الطواحين، وضربهم ليطحنوا الحبوب، بدلًا من الدواب. كما تفيدنا باسم الشخص الذي يباشر عملية التعذيب، وتذكره باسم «غيث».

ولا ذكر في هذه الرواية لانتفاض عرب الأحواف من «القيسية» و«اليمنية»، وإنما تصب اهتمامها على تمرد نصارى «البشمور» فحسب.

يكفي في نقد رواية «ابن المقفع» وعدم الثقة فيها بشكل كلي، أن تقرأ السطر التالي مباشرة لما ذكره؛ لتحكم على تفاصيل التعذيب التي ذكرها بالتلفيق، وأنا سأذكره على ركاكته، ولن أزيد أكثر من ضبطه إملائيا، ولن أتدخل في تصويب النص، فهو يقول: «وتمادت عليهم الأيام وانتهوا إلى الموت، فلما نظروا أهل البشموريين أن ليس لهم موضع يخرجون منه، وموضعهم لا يقدر عسكر يسلكه؛ لكثرة الوحلات فيه، وما يعرف طرقه إلا هم، فبدو [فبدأوا] أن ينافقوا، ويمتنعوا أن يدفعوا خراجًا، واتفقوا وتآمروا على ذلك) (تاريخ البطاركة 2/ 811).

فإذا كان البشموريون انتهوا إلى الموت، فهل بُعثوا من بعد الموت وثاروا ضد الدولة مستغلين حصانة موقعهم، أم أن أشباحهم هي التي كانت تقاتل؟ وإذا كان موقعهم «لا يقدر العسكر يسلكه لكثرة الوحلات، وما يعرف طرقه إلا هم»، فكيف تمكن الوالي أو غيث أو متوليا الخراج من الولوج إليهم وتعذيبهم؟

والسؤال الأهم: هل كان البشموريون يعملون لدى الدولة، حتى يسوغ تقبل فكرة أن الوالي كان يربطهم ليطحنوا الحبوب بدلًا من الدواب؟ يعني: هل كانت الدولة تمتلك مطاحن، ولديها عمال من البشموريين يعملون لديها، فلما تعبت الدواب ربطوا البشموريين إلى المطاحن؛ ليطحنوا بدلًا منها؟ هذا إذا استطاعوا اجتياز الأوحال ليصلوا إلى أماكنهم!

هذا بخصوص رواية ابن المقفع، وأما الروايات العربية فهي تذكر أن المأمون (سخط على عيسى وحل لواءه، فأخذه بلباس البياض، ونسب الحدث إليه، وإلى عماله)، والمقصود من إلباسه البياض أنه نزع عنه السواد، وهو شعار العباسيين. وإنما وصفنا هذه الروايات بالمتأخرة؛ لأنها راجت في أواخر القرن الثامن الهجري إلى بداية القرن العاشر الهجري (أواخر القرن الرابع عشر الميلادي إلى أوائل القرن السادس عشر الميلادي)، على يد «المقريزي» و«ابن إياس» و«ابن تغري بردي»، وهؤلاء الثلاثة متعاصرون ومتعاقبون: فقد توفي المقريزي عام 845 هـ/ 1442م، وكان ابن تغري بردي يبلغ من العمر حينها 32 سنة، وتوفي ابن تغري بردي عام 874هـ/ 1470م، وكان ابن إياس يبلغ من العمر حوالي 23 سنة، مما يجعلنا مطمئنين إلى وحدة المصدر المأخوذة منه الرواية، ولو بحثنا عن هذا المصدر فسنجده كتاب ولاة مصر للكندي، وهو لا شك من المتقدمين، لكنه غير معاصر للحدث؛ فقد ولد في ذي الحجة من عام 283هـ، بعد الحدث بـ 68 سنة.

وأرى أن هؤلاء المؤرخين قد اتخذوا من واقعة عزل المأمون لعيسى بن منصور مستندًا لإلقاء اللائمة عليه، لكن شيئا من النقد التاريخي لهذه الروايات يؤدي بنا إلى نتيجة أخرى، لكن نشير إلى بعض النقاط:

تولى عيسى بن منصور إمرة مصر في مستهل عام 216هـ، وانتفض الوجه البحري، عربه وقبطه، وأعلنوا العصيان والخروج عن الطاعة في جمادى الآخرة، بعد 4 أشهر فقط من وجوده في الحكم، وهي فترة قصيرة جدا ليشعر الناس بظلم وعسف من قبل الوالي الجديد، فكيف يتم تحميله المسئولية؟ تحمل هذه الرواية المسئولية لعيسى بن منصور وعماله، بينما هؤلاء العمال، كمتوليَي الخراج وصاحب الشرطة، هم عمال المعتصم، وهو الذي عينهم، وليسوا عمال عيسى بن منصور (انظر: ولاة مصر، تاريخ دمشق 6/ 371، تاريخ البطاركة 2/ 829)، فكان أولى بهذا التوبيخ المعتصم، مما يجعلنا نشك في هذه الواقعة! بل الأدهى أن المأمون ضم العسكر الذين مع عيسى بن منصور إلى قائد الشرطة، الذي كان مسئولًا عن كثير مما حدث كما سنبين، ولم يعزل أيًا من العمال الآخرين الذين يحملون المسئولية مع عيسى في هذه الروايات. الأمر الذي تجدر الإشارة إليه أن عيسى بن منصور كان يتولى إمارة الصلاة من قبل المعتصم، ولم يجمع له المعتصم الخراج والشرطة، وكان يسكن في المعسكر على عادة الأمراء، كما يقول ابن تغري بردي (النجوم الزاهرة 2/ 215)، وربما يوحي ذلك بأنه كان يتولى ما يشبه قيادة الأركان في العصر الحديث، بينما جعل أمر الخراج إلى إبراهيم بن تميم (وكان يتولى خراج الصعيد)، وأحمد بن أسباط (وكان يتولى خراج أسفل الأرض/ الوجه البحري).

وعلى الرغم من أن رواية ساويرس بن المقفع تنسب إلى عاملي الخراج أنهما أرهقا الناس بالخراج، وذكرت أن الشخص الذي يباشر التعذيب كان يدعى «غَيْثًا»، فإن من يتناولون تلك الواقعة يحملونها لعيسى بن منصور لتشابه الاسمين رسمًا ونطقًا، لكن الأمر على خلاف ما ذكروا، والربط بين الرجلين لا يصح؛ إذ لو كانا شخصًا واحدًا، لكان الكلام بصيغة التعريف، ولقال مثلًا: «الوالي عيسى»، بينما الرواية تتحدث عن «رجل اسمه غيث»، مما يوحي بأنه لا يتمتع بشهرة الوالي.

وما أرجحه أن ساويرس بن المقفع يقصد «أبا مغيث موسى بن إبراهيم الرافقي»، قائد الشرطة، وهو ابن عم الوالي «عيسى بن منصور الرافقي»، وورد عند ابن تغري بردي باسم «يونس بن إبراهيم»، وكان المعتصم ولاه الشُّرطة (ولاة مصر، النجوم الزاهرة 2/ 215)، ويبدو أنه كان يتمتع بحزم يصل إلى حد القسوة، ولذلك أرسله المأمون على رأس حملة إلى الصعيد؛ لقمع المتمردين، ولما ولاه «المعتصم» أيام خلافته إمرة دمشق، ثار عليه رجال قيسفي سنة 227هـ؛ لأنه أخذ منهم خمسة نفر فضربهم بالسياط، ثم صلبهم، فاجتمعت «قيس» لذلك، وأغارت رجال من «بني نمير بن عامر» على خيل السلطان، فأخذوها ووغلوا بها في البرية (تاريخ دمشق 67/ 250)، وهذه الحوادث قد تعطي شيئًا من الواقعية لما حكاه ابن المقفع، من وقوع شيء من التعذيب على السكان الموجودين من العرب والقبط، إلا أن المبالغات التي ذكرها، والتي خص بها القبط، دون العرب، لا تعطيها المصداقية التامة.

سبب عزل عيسى بن منصور

أما السبب الحقيقي وراء عزل عيسى بن منصور وتولية «الأفشين» الذي يصفه ابن تغري بردي بقوله: «وكان شجاعًا بطلًا»، فلا يعدو عزل قائد، وتعيين من هو أكفأ منه لإدارة المعركة، خاصة أنه انهزم عدة مرات أمام المتمردين من العرب والقبط، ومما يؤيد هذا أن ثورة حدثت بمصر في عهد أمير يدعى «عيسى بن يزيد الجلودي»، وكان يقودها رجلان من العرب يسميان «عبد السلام» و«ابن الجليس»، أعلنا التمرد على المأمون، وبايعهما طائفة من عرب مصر من القيسية واليمنية، فعزل المأمون أميره على مصر «عيسى بن يزيد»، وولى أخاه المعتصم سنة 214هـ فحاربهم وقتل عبد السلام وابن الجليس، ثم رحل إلى الشام (بدائع الزهور 1/ 147).

أما عن الأسباب الحقيقية وراء تمرد البشموريين وعصيانهم، فقد كان لله تعالى الفضل في أن أصل فيها إلى رأي مختلف، وأنا أذكر هذه الأسباب في نقاط مركزة على النحو التالي:

ثار البشموريون في مصر وامتنعوا عن دفع الخراج في الوقت الذي كان فيه الروم مشتبكين مع المأمون في الشام، وقد ذكرنا في مقال سابق أن المأمون رجع من دمشق إلى مصر، لكن ما علاقة البشموريين بالروم؟ يجيب ابن البطريق (وهو مؤرخ كاثوليكي) عن هذا حين يذكر أن «البيما» (البشموريين) تعني (نسل الأربعين)، ويفسر ذلك بأن الإسلام حين دخل مصر غادرها الروم، وتخلف منهم أربعون رجلًا، وتناسلوا في أسفل أرض مصر (الوجه البحري)، فسموا البيما (تاريخ ابن البطريق 2/ 429)، وأرى أن هؤلاء البيما كانوا يصنعون الاضطرابات، ويمتنعون عن دفع أموال الخراج، التي يُدفع منها رواتب الجند المحاربين؛ من أجل إضعاف الدولة، وهو ما يعادل جريمة الخيانة العظمى المستوجبة للقتل في عصرنا الحاضر. هناك أمر آخر تستوجب عقوبته القتل بتهمة الخيانة العظمى، وهو تسهيل دخول أعداء الدولة إليها وفتح أبواب المدن لهم، وهو ما فعله أهل البشمور والإسكندرية، وهو ما شهد به ساويرس بن المقفع، فقال: «أنفذ إليهم عسكرًا مقدمه أمير اسمه الأفشين، فقتل الذين نافقوا [البشمور] والخوارج من شرقي مصر، إلى أن انتهى إلى المدينة العظمى إسكندرية، فأراد أن يقتل كل من فيها من أهلها؛ لأنهم مكنوا العدو من الدخول إلى مدينتهم» (تاريخ البطاركة 2/ 812). وهذا التعاون مع أعداء السلطة رآه المستشرقون صفة متأصلة في أقباط مصر، حيث يقول جاك تاجر: «وقد أظهروا دائما استعدادهم لمناصرة أعداء السلطة القائمة، لو أظهر هؤلاء الأعداء استعدادهم لتنفيذ رغباتهم» (أقباط ومسلمون منذ الفتح العربي إلى عام 1922م، ص 16). هذا الشعور بالانتماء إلى الروم جعل هؤلاء البيما (البشموريين) لا يدينون بالطاعة للكنيسة القبطية؛ لاختلافهم معها في المذهب، ولذلك لم يستجيبوا لرسائل «البطريرك يوساب»، وتعدوا على الرسل الذين أرسلهم إليهم، ويفسر لنا السبب الذي جعل ساويرس بن المقفع ينعتهم بالأشرار والمنافقين والمفسدين. أما رغباتهم التي أشار إليها «جاك تاجر» فتتمثل في خفض الضرائب، وحرية المعتقد الديني، ويرى أن الأقباط اعتنقوا مذهب الطبيعة الواحدة، وكسروا وحدة الإمبراطورية البيزنطية فقط؛ لينمازوا ويشعروا بالاستقلالية الصورية، وبالرغم من أن الأساقفة أدانوا بالإجماع رأي «أوتيشيوس» صاحب المذهب، واعترضوا على آرائه، فإنهم ناصروه بالإجماع؛ حين أصدر «فلافيان بطريرك القسطنطينية» قرارًا بحرمانه؛ حتى لا يكون هناك إعلاء لمقام بطريركية القسطنطينية على بطريركية الإسكندرية (أقباط ومسلمون ص 14).

ولذلك لم يبالوا بمن يحكم البلاد، طالما تركت لهم حرية اعتناق المذهب الديني، ولذلك حين غزا الفرس مصر سنة 619م ارتكبوا فيها من الفظائع ما تشمئز منه النفوس، لكنهم لم يعيروا المسائل الدينية التفاتا، فلم يتذمر القبط من وجودهم، بل أسفوا لخروجهم، بعد أن حكموا البلاد لمدة عشر سنوات (أقباط ومسلمون ص 17)، على الرغم من الاختلاف معهم في الدين، بينما المسلمون لهم عقيدة في المسيح يأباها النصارى ويرفضونها، ولا يتقبلونها، فتحينوا الفرص للإطاحة بالمسلمين من الحكم، أو على الأقل إثارة الاضطرابات والقلاقل؛ حتى لا يستقر لهم الحكم، سواء كان هؤلاء البيما من أصحاب الطبيعة الواحدة أو الطبيعتين، وهذه السياسة ما زالت متبعة حتى يومنا هذا، فعلى الرغم من المقتلة التي صنعها الجيش المصري للأقباط في محيط ماسبيرو 9 أكتوبر 2011م، فيما عرف بأحداث الأحد الدامي، فإنهم آزروا الحكم العسكري، وشاركوا في التآمر على الإطاحة بأول رئيس مدني؛ فقط لأنه ينتمي إلى تيار الإسلام السياسي الذي يظهر معتقده بشكل جريء، ولم يجدوا غضاضة في خلع صفة النبوة والخلاص على قائد الجيش وقتها، والبحث في بطون الأسفار المقدسة عن بعض الفقرات والجمل التي يخدعون بها البسطاء منهم لتأييده، وطوى النسيان أحداث ماسبيرو، لتكون أيقونة لأي حراك قادم إذا ما وصل أي تيار يهدد مصالحهم.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل