المحتوى الرئيسى

حسام محمد يكتب: سقوط مملكة ما وراء البحار … نهاية المشروع الاستيطاني الأول | ساسة بوست

04/08 10:40

منذ 1 دقيقة، 8 أبريل,2016

في حقبة من حقب التاريخ كان العالم الإسلامي يتميز بخصوصية عظيمة، لكن تم تحطيم ذلك عن طريق أعدائه ومنافسيه، فقد قامت أوروبا المسيحية بالدخول في مغامرة استمرت مائتي عام، حيث تمكن الصليبيون من تأسيس ثلاثة إمارات صليبية ومملكة في الشرق الأدنى الإسلامي، وجاء المغول في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي قافزين من أبعد أصقاع آسيا الوسطى وأكثرها عزلة مدمرين ومحطمين كل ما صادفهم.

كان الغزو الصليبي هو الأكثر خطورة من الغزو المغولي الذي كان أعلى ضجيجًا؛ فلم يكن لدى المغول مشروع استيطاني كالصليبيين بل إن المغول تحولوا للإسلام وأضافوا له، بينما كان المشروع الصليبي يهدف إلى الاستيلاء على الأراضي المقدسة في فلسطين، ولم يكن هذا ليتم سوى بالقضاء على الوجود الحضاري الإسلامي في المنطقة، لذلك كان الصراع صراع وجود بين المسلمين والصليبيين الذين كانوا يتحركون بدافع من لإيديولوجية دينية متعصبة تحمل الكره والعداء للمسلمين، هذه الإيديولوجية التي كانت تنكر أي حق للمسلمين في الحياة وتجعل من الأعمال القاسية التي قام بها فرسانهم هي أعمال الرب في سبيل الانتصار.

كانت الحركة الصليبية حلقة صاخبة من حلقات الصراع المستمر بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي، وتحولت الحركة الصليبية إلى حركة عالمية وذلك بمحاولة قادة الصليبيين والكرسي البابوي في روما استقطاب المغول إلى دائرة صراعهم ضد المسلمين، لكن ظهور المماليك على مسرح الأحداث وتحالفهم مع مغول القبيلة الذهبية منع تشكيل أي تحالف جدي ضدهم من قبل مغول الأليخانات والصليبيين.

لقد كان الصليبيون يشكلون كيانًا استيطانيًا غريبًا وسط أكثرية إسلامية معادية لهم، ومن ثم كان لا بد لهم من التمركز في مجموعة من المدن والقلاع الحصينة، كما كان من الضروري أن يهتموا بتدعيم قوتهم العسكرية لتأمين وجودهم غير المشروع.

إن خروج المستوطنين من المدن والمناطق التي احتلوها كان يعني النهاية بالنسبة لهم، وهو ما حدث فعلاً عندما نجح المماليك في استرداد عكا، آخر المعاقل الصليبية عام 1291م/690 هـ وإنهاء الوجود الصليبي تمامًا.

ونلاحظ اهتمام الدوائر الصهيونية بدراسة الحروب الصليبية لأسباب سياسية وأمنية وذلك لتشابه التجربة الصهيونية مع التجربة الصليبية، حيث تتشابه كلا التجربتين في أنهما ترتكزان على إيديولوجية دينية متعصبة، كما يتشابهان في الطبيعية الاستيطانية العدوانية التي تعتمد على تهجير أعداد كبيرة من البشر من موطنهم الأصلي لكي يستوطنوا أرض شعب آخر، واستخدام الوسائل العنيفة والإرهاب والمذابح الجماعية لبث الرعب في قلوب أصحاب الأرض، ويتشابهان أيضًا في وجود سند وظهير عسكري واقتصادي وبشري لهم من خارج المنطقة.

فتح عكا ونهاية مملكة بيت المقدس

الحمدُ لله زالت دولةُ الصُّلْبِ * وعَزّ بالتُّرْك دينُ المصطفى العربي

ما بعد عكّا وقد هُدَّت قواعِدُها * فِي البحر للشِّرْك عند البرَّ من أَرَبِ

القصيدة البائية في مدح فتح عكا للقاضي شهاب الدين محمود.

العام 1290م/689 هـ، كان عامًا يبدو ظاهريًا بأنه يسود فيه السلام، فقد كانت حركة التجارة بين المسلمين والصليبيين في عكا رائجة ومربحة، لكن حدث ما كدر صفو هذا السلام.

قام بعض الرعاع الإيطاليين الذين وصلوا المدينة للتو والذين تملؤهم الروح الصليبية بقتل عدد من التجار المسلمين في المدينة، وتمكنت سلطات المدينة من استعادة الانضباط لكن كان هذا متأخرًا جدًا، فقد وجد السلطان المنصور قلاوون أخيرًا الذريعة التي كان يبحث عنها، وعبثًا حاول قادة الصليبيين التبرير والاعتذار للسلطان لكنه رفض كل تبريراتهم، كما كان الجيش المملوكي على أهبة الاستعداد للمعركة الضخمة التي ينتظرها، كان الجيش المملوكي قد استطاع في العام الماضي استرداد مدينة طرابلس من أيدي الصليبيين.

دفع السلطان المنصور قلاوون عجلة الجهاد، وخرجت أعداد كبيرة من المتطوعة من عامة الناس والقضاة والعلماء من كل ربوع مصر ونودي بالجهاد في مساجد الشام ليصبح عدد المتطوعة أكثر من عدد الجند النظامي، لكن على بعد خمسة أميال من القاهرة مات السلطان المنصور قلاوون، لكن لم يكن موت السلطان يمثل أية مشكلة للمسلمين، فقد ترك وريثـًا لا يقل عنه عزمًا وجلدًا.

أرسل الصليبيون في طلب الصلح والهدنة من السلطان الجديد الأشرف خليل بن قلاوون لكنه رفض، ووصل الجيش الإسلامي إلى محيط مدينة عكا بعد مشقة وعناء وضرب الجيش المملوكي حصارًا محكمًا حول المدينة، واستقرت المنجنيقات العملاقة في أماكنها لضرب تحصينات وأسوار المدينة المشهورة بحصانتها ومناعتها، قفزت أعداد المنجنيقات التي استخدمها المماليك في حصارهم لأية مدينة أعداد أية منجنيقات استخدمتها أية جيوش في العصور الوسطى؛ ففي حصار عكا  تم ضرب أسوار المدينة بأكثر من تسعين منجنيق في وقت واحد.

وصل إلى عكا أعداد كبيرة من المقاتلين من أوروبا ووصل إلى المدينة ملك قبرص نفسه ليقود الدفاع عن المدينة، جرت معارك طاحنة خارج المدينة وعلى أسوارها وحتى في داخلها، وقاتل الصليبيون قتالاً عظيمًا شهد لهم به مؤرخو المسلمين، لكن في نهاية الأمر وبعد حصار دام 44 يومًا دخل المسلمون المدينة لتدور معركة رهيبة أباد فيه المماليك جميع من كان بالمدينة من الصليبيين.

من عجائب الاتفاق في التاريخ أنَّ الصليبيين كانوا قد استولوا على عكا وأخذوها من السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي ظهر يوم الجمعة 17 من جمادى الآخرة 587هـ، وفتحها المسلمون على يد السلطان الأشرف خليل ظهر يوم الجمعة 17 من جمادى الآخرة 690هـ.

أراد السلطان الأشرف خليل أن يطابق الحاضر بالماضي ففعل بهم كما فعل أسلافهم بمن طلبوا الأمان من جنود المسلمين عند اقتحام الصليبيين لها، فترك خلفه على مشارف المدينة المستردة تلاً من آلاف الجثث التي تفوح منها رائحة العفن والموت وتتكالب عليها الجوارح وآكلات الجيف.

بعد سقوط عكا استسلمت باقي المدن التي في يد الصليبيين كصيدا وصور وبيروت وباقي الحصون، وقام الجيش المملوكي بدخول هذه المدن والحصون وقام بتدمير استحكامات هذه المناطق وأسوارها، وكان هذا الإجراء طبقـًا للاستراتيجية المملوكية المتبعة منذ عهد السلطان الظاهر بيبرس إزاء مدن الساحل الشامي «راجع مقالنا السابق عن استراتيجية المماليك تجاه التفوق البحري الغربي وآثارها».

وعلى حد تعبير المؤرخ الإنجليزي إدوارد جيبون الذي وصف سقوط عكا ونهاية الصليبيين بقوله: «ساد سكون محزن الساحل الذي ظل زمناً طويلاً ميدانًا تسمع فيه قعقعة السلاح».

انتهى الحلم الصليبي الاستيطاني الأول على يد المماليك، وإذا كان خروج الصليبيين من المملكة التي أقاموها باسم الدين قد تم في عام 1291م/690 هـ، فإن الذي انتهى في هذا العام لم يكن سوى المصالح المادية المستترة وراء الدين، والتي دفعت بكل طوائف الغرب الأوروبي إلى الهجوم على الشرق الإسلامي، ولم تمت مملكة بيت المقدس الصليبية في هذا العام، لأنها كانت قد ماتت بالفعل في عام 1187م/583هـ بضربة قاسمة على يد السلطان صلاح الدين.

انتهى الوجود الصليبي في بلاد الشام بعد أن مهدت لسقوطه الخلافات بين قادة الصليبيين أنفسهم وجاليات المدن الإيطالية وبعد ظهور الوحدة الإسلامية التي فقدت منذ موت صلاح الدين على يد المماليك، لتعود كل بلاد الشام إلى السيادة الإسلامية.

ولم تستطيع البابوية أن تجد حلفاء لها للقيام بحملة صليبية من أجل استعادة الأراضي المقدسة مرة أخرى، فلم يكن هناك من يقتنع بدعاوى بطرس الناسك القديمة التي قبلها بسذاجة مفرطة المجتمع الأوروبي الغربي وقتها، ولم يكن في مقدور أي من ملوك أوروبا والأسياد الإقطاعيين منفردين أو مجتمعين أن يواجهوا سلطنة المماليك التي كانت تمتلك جيشًا قويًا وشديد الانضباط، كما أن المدن الإيطالية البحرية أبعدتها الأرباح التجارية ومصالحها مع سلطنة المماليك عن المشاركة في أي من هذه المشاريع التي كانت توضع من أجل استعادة الأراضي المقدسة مرة أخرى.

ولم يعد للحملات الصليبية أية قواعد في بلاد الشام بعد سقوط عكا، ولم يكن أمام الصليبيين الذين طردوا من الأراضي المقدسة سوى جزيرة قبرص.

ولم يكن قد تبقى من الروح الصليبية سوى عدة محاولات انطلقت من قبرص التي اتخذها الصليبيون قاعدة لتهديد الشرق الإسلامي؛ حيث استهوت ملوك قبرص فكرة استرداد الأراضي المقدسة من خلال احتلال أجزاء من مصر لإجبار السلطان المملوكي على التنازل عن القدس لهم، وحمل قادة الكشف الجغرافي الأوروبيون هذه الروح الصليبية، حيث إن هذه الكشوفات كان هدفها هو حصار العالم الإسلامي وخنقه من خلال تركيعه اقتصاديًا عن طريق اكتشاف طرق بديلة للتجارة التي كانت تمر بسواحل مصر والشام.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل