المحتوى الرئيسى

فداء حمدون يكتب: نبي الله موسى ورحلته نحو التغيير | ساسة بوست

04/06 10:45

منذ 1 دقيقة، 6 أبريل,2016

في طريق عودته إلى بلاده التي خرج منها خائفًا يترقب وبعد أن منّ الله عليه بالأمان والاستقرار في أرض مدين أصبح موسى جاهزًا لتحمل القضية الكبرى التي سينتدبه الله لها، قضية التغير والإصلاح وإعادة الناس من أهل بلدته سواء قومه المستَعبدين أو الطبقة المخملية في ذلك المجتمع من زعيمهم فرعون إلى ملئه وكبار القوم إلى عبادة الله الواحد القهار ورفع المظالم وإعادة الحقوق.

وقف موسى بعد رحلة طويلة يبحث عن استراحة فوجد نورًا بعيدًا فترك أهله للراحة وسعى خلف مصدر النور عله يجد بلدة يتزود منها بالطعام والشراب ويأخذ قسطًا من الراحة في مكان آمن، لكنه عندما وصل تلك البقعة المقدسة كان على موعد مع لقاء سيغير مجرى التاريخ، إنه لقاؤه برب العزة والملكوت عز وجل وتكليفه بالمهمة الكبرى «اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَىٰ أَنْ تَزَكَّى *وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ» (1).

كان لهذه المهمة شقين، الأول هو مواجهة الطاغية وظلمه ودعوته للعودة إلى جادة الصواب قبل أن تحل به وبالناس من حوله القارعة الكبرى، فالظلم منذر بخراب العمران كما قال ابن خلدون.

والشق الثاني هو تحرير قومه المستَعبدين، فرسالة كل الأنبياء هي تحرير البشر ليعبدوا الله وحده لا شريك له وينعكس هذا التوحيد على سلوكهم وحياتهم فلا يكون قولًا بالألسن يخالفه العمل والأنماط الاجتماعية السائدة «فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ» (2)، ليقوم بعد ذلك بنو إسرائيل بدخول الأرض المقدسة في مهمة كبرى كلفوا بها ويدعون أنهم يحلمون بها منذ زمن بعيد كما ندعي نحن نفس الادعاء تجاه نفس الأرض.

مضى موسى في مهمته مستعينا بأخيه هارون وبدأت المواجهات والصراع الفكري مع فرعون الذي ظن للوهلة الأولى أن موسى فردٌ لا يقوى على قلب الموازين ولم يعرف أن للحق صوت أعلى وإن قل الواقفون في صفه .

قدم موسى براهين حسية متوافقة مع آليات ذلك العصر، فأراد فرعون التدليس على موسى والتشويش عليه فاتهمه بالسحر وبأنه – أي فرعون – قادر على صنع عمل مماثل فلديه فريق إعلامي قوي متمرس بالدعاية والإعلام وقلب الحقائق وتزييف الأفكار استطاع من خلالهم السيطرة على عقول البشر بقلب المفاهيم وإثبات الباطل وفرض مقدسات مزيفة يجر الناس خلفها كالأنعام فهو رب يطاع ولا يخالف، بل لا رب غيره أصلًا فما يشرعه للناس هو ما يجب أن يكون، والطاعة له مطلقة.

أما من يرفض ذلك فيكون كمن يأتي بدين جديد ويدمر الوطن ويتآمر عليه ويفسد ولا يصلح «وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ» (3).

هكذا حال الطغاة في كل زمان ومكان فالناظر إليهم في زماننا يجد أنهم يستخدمون نفس المبادئ مع تعقيد أكبر بالأدوات حتى علا الزيف وغُطيت الحقيقة عن أغلب البشر فصرنا ننادي بما ينادون لا لشيء سوى أن أدوات الإعلام هي ما صاغت أفكارنا وزينت الأعمال لنا، فصرنا نرى التوافه إنجازات وفوز فريق كرة قدم نصرًا للأمة ونتنافس في دعم مغنية صاعدة كباب من إثبات حبنا للوطن وكل هذا لأننا لم نبذل الجهد في البحث والقراءة لنحرر العقول من براثن تلك السيطرة «فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * وَقَالَ مُوسَىٰ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَىٰ مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ» (4).

أما وقد فشل فرعون أمام المصلح موسى فقد لجأ إلى العنف الشديد لكتم صوت الإصلاح في مهده، فدمر وقتل وأهان، غير آبه بمآل تلك المغامرة الغريبة المكررة في التاريخ «وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُون». (5)

لم يدرك فرعون خطورة رعونته وآثارها المدمرة، فهي ستؤدي لدمار ملكه ولو بعد حين خاصة وأنه لم يستجب لإرهاصات ذلك الدمار من أمراض أصابت مجتمعه وأزمات اقتصادية ومشاكل اجتماعية واستنزاف لجيشه في صراع داخلي.

والملفت للنظر في فرعون وكل الطغاة أنهم لا يتوجهون لحل الأزمة من جذورها فذلك يعني أنهم سيتنازلون تنازلات مؤلمة أمام الحق، بل يلجأون لحلول تدور حول المشكلة وتعطي جرعات مسكنة للآلام لا أكثر ولا أقل فنجده يلجأ لموسى ليدعو ربه لرفع المصائب عنه وعن قومه مع وعد بتحقيق مطالبه المحقة، ثم إذا ما مرت الأزمة الملحة تراجع عن وعوده.

كم سمعنا بوعود إسرائيلية بالإفراج عن معتقلين وكم سرت وعود عن إصلاحات منتظرة يتم تفريغها من مضمونها بعد تجاوز الموجة وكم تحدث أوباما عن إغلاق غوانتناموا وكم وكم وكم سمعنا كلام من هذا القبيل في ثورات الربيع العربي.

إنه نفس النهج الفرعوني المذكور في القرآن «وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ *فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَٰذِهِ ۖ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَىٰ وَمَنْ مَعَهُ ۗ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ ۖ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ» (6).

أمام هذا العنف بدأت دعوة موسى تبحث عن مخرج لها ولقومه الذين طالبهم موسى بالصبر والطلب من الله وحده واللجوء إليه وذكرهم بعاقبة هذا الصبر وبأن للظلم جولة لكن مآله للهلاك «َقالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» (7) ليخرج موسى بالقرار المصيري بعد أن تبين أن لا قدرة لدعوته على الحياة في تلك الأرض ولا مصلحة في استخدام القوة في ظل اختلال ميزانها لصالح العدو فخرج من تلك الأرض مرة أخرى عسى الله يفتح له بابًا وينصره على الظالمين، وهنا يأتي الموقف الكبير الذي ظل يحيرني ومايزال.

لقد تبعهم فرعون وجنوده حتى وصل موسى لنقطة النهاية عند البحر، لقد أيقن كل من معه أنا قد هزمنا، إلا موسى الذي امتلك إيمانًا عميقًا فهو على درب الحق الصحيح، ربما سيقتل لكن ذلك لن يعني النهاية فدعوة الحق باقية، فكان كرم الله كبيرًا مع ذلك النبي الواثق فشق له البحر ليكمل مسيره، وقد يظن البعض أني أعجب من شجاعة موسى، لا يا إخوتي شجاعة موسى وثقته بالله عجيبة، لكن العجب كل العجب من حمق فرعون فكيف لكن لك يا فرعون بعد أن رأيت المعجزات على يد هذا الشخص الذي شُق البحر يبسًا لأجله أن تتابع علوك وتظن بنفسك القدرة على الظفر به؟ أي حمق مهلك هذا؟ يبدو أن الظلم يطمس على الأعين فلا ترى أبسط البديهيات «فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ» (8).

سقط فرعون في البحرم صريعًا ليبدأ قوم موسى مرحلة جديدة.

هؤلاء الذين ثاروا مع موسى لم يكونوا قد غيروا ذاتهم تغيرًا حقيقيًا ويبدو أن أنفسهم مازالت تحمل أمراضها التي توارثوها جيلًا عن جيل فطبعت فيها وأصبحت بحاجة للكثير من العمل حتى يتم تقويمها، فهم بعد أن رأوا المعجزات كانوا أكثر حمقًا من فرعون نفسه.

هؤلاء هم من عبدوا العجل «وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُون» (9) وهم من نكث عهد موسى، وهم من طالبوا برؤية الله جهرة «وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» (10) وهم من تنكبوا للمهمة الكبرى المناطة بهم والحلم الكبير الذي ظلوا يدعونه حينما فقالوا اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون «قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ» (11) فحكم الله عليهم بتيه طويل تربية لهم على إساءاتهم المتككرة وجحودهم.

وإني لأخشى أن نكون اليوم في عالمنا العربي والإسلامي أمام تيه مشابه لا يبقي ولا يذر، لأننا بمقارنة بسيطة نجد أن ثورات الربيع العربي تواجه اليوم نفس مأزق بني إسرائيل من نكوص وتراجع وإعادة تأهيل لما تم الثورة عليه سابقًا، لا لشيء إلا لأننا وبعد أعوام طويلة من التزييف أصبح الزيف جزءًا من طبيعتنا وشخصيتنا فالظلم استشرى بشكل أكبر من المراحل السابقة وبدل الطاغية أصبح لدينا طغاة صغار كثر وضاعت البلاد وتفاقمت المشاكل وسادت الفوضى وأصبح التدمير عامًا محزننًا.

قصة نبي الله موسى والتي التقطنا هذه الأوراق منها تمثل قصة المصلح وما يواجهه من عقبات فالقوى المسيطرة على المجتمع أولى هذه العقبات، لكن أصعبها هي تغير ما زرع في المجتمع من عقد وأنماط اجتماعية خاطئة فلا يكفي المصلح أن يسعى لهدم القوى المسيطرة دون أن يملك مشروعًا للبناء واضح المعالم والخطى يتجاوز ذلك العفن وينظفه.

فموسى الذي واجه فرعون وملئه بدون خوف وجد نفسه بعد أن خلصه الله من فرعون أمام مرحلة جديدة صعبة تتلخص بمواجهة مجتمعه الذي تعفنت فيه أفكار مظلمة لم يمح أثرها بمجرد نيل تلك النفوس للحرية بل إن تخلصها من فرعون أظهر ذلك العفن وفتح أمامه الطريق للظهور.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل