المحتوى الرئيسى

البعوضة الفريدة من نوعها التي تسكن أنفاق لندن - BBC Arabic

04/05 07:03

عندما بدأت أعمال إنشاء مترو أنفاق لندن في القرن التاسع عشر، أفضت إلى نتيجة لم تكن في الحسبان: ألا وهي عملية تطور بعض الأحياء في تلك الأنفاق.

ربما يتذّمر الركاب الذين اعتادوا استخدام شبكة مترو أنفاق لندن من الفئران التي اشتهرت بها قطارات تلك الشبكة، والتي تتسم بالشراسة في بعض الأحيان. ولكن يعيش بين جنبات الأنفاق حيوان آخر أصغر حجمًا، لعلّه يشعر أنه في موطنه في شبكة الأنفاق أكثر من غيرها، لأنه تطور بالفعل في ظل الظروف البيئية الفريدة التي تسود شبكة مترو الأنفاق.

وتعدّ بعوضة أنفاق لندن أحد النويعات المميزة وراثيًا. وقد ظهرت للمرة الأولى أثناء القصف الجوي الألماني لبريطانيا الذي سُمي بـ "البليتز" (أو الحرب الخاطفة)، إبان الحرب العالمية الثانية، واستُخدمت حينذاك شبكة مترو الأنفاق كملاجئ للحماية من القنابل طوال الليل.

وقد احتمى قرابة 180 ألف شخص بالأنفاق، في خضم الحرب، وكل هؤلاء لم يسلموا من أذى الحشرات بكافة أنواعها.

يقول ستيفن جود، رئيس البيئة بأنفاق لندن: "كانت شبكة مترو الأنفاق حينذاك تختلف تمام الاختلاف عمّا هي عليه اليوم"، حيث المياه الراكدة وتدابير مكافحة الآفات بمختلف أنواعها، كما كان الذباب والقُرادات، والقمل والبراغيث أكثر انتشارًا بكثير ممّا هي عليه الآن.

ومنذ أن وضعت الحرب أوزارها، قلما التفت أحد إلى البعوض، بخلاف شكوى عمال الصيانة الغريبة من اللدغ. ولكن بعد قرابة 50 عامًا من الحرب، قررت طالبة دكتوراة في لندن أن تدرس هذه الحشرات اللادغة التي تعيش تحت الأرض.

فقد جمعت كاثرين بيرن بعوضا من سبعة مواقع عبر خطوط الأنفاق الممتدة لمسافة 180 كيلومترًا، ما يعادل 110 ميلًا. ووجدت أنه يختلف اختلافًا جذريًا عن غيره من البعوض الذي يعيش على سطح الأرض.

فبينما لا يلدغ البعوض من نوع "كيوليكس بيبينز" الذي يعيش فوق الأرض سوى الطيور، فإن البعوض من نوع "كيولكس بيبينز موليستوس"، الذي اشتُق اسمه من كلمه "مولست" في إشارة إلى استعداده للهجوم والإيذاء، يُقبل على دم البشر.

يقول عالم الأحياء برونو جومز، من كلية ليفربول للطب المداري: "يسمى البعوض المعتاد باسم كيولكس. وتوجد مئات أو آلاف الأنواع من هذا البعوض ولا يسبب ضررًا بالغًا".

وعلى الرغم من أن بعوض موليستوس، يبدو شكلًا مثل كيولكس بيبنز، إلا أنه يتصرف بطريقة مختلفة. فإن الحشرات ذات الجناحين الشبيهة بالهاموش التي تعيش فوق الأرض، بالإضافة إلى أنها تلدغ الطيور، فإنها تدخل في بيات شتوي، وتحتاج إلى الدماء لتضع البيض، ولا يمكن أن تتزاوج إلا في فضاء واسع. ولكن النويعات الجديدة لا تحتاج إلى كل هذا.

وكتبت بيرن تقول: "يمكن تفسير هذه الاختلافات بطريقة مباشرة وواضحة بأنها قدرة على التكيّف مع الحياة تحت الأرض". ولأن هذا البعوض لم يجد طيورا تحت الأرض ليتغذى على دمائها، فقد بدأ يتغذى على دماء الثدييات، وهي في الغالب الجرذان والبشر.

ويتزاوج هذا البعوض في مساحات مغلقة، لأنه لا يجد بديلًا لذلك، كما فقد الرغبة في الدخول في بيات شتوي، إذ لا توجد فصول واضحة تحت الأرض.

كما وجدت بيرن أن بعوض الأنفاق بات مميزًا تمامًا إلى درجة يتعذر معها تهجينه مع سائر البعوض.

يقول ديفيد ريزنيك، وهو عالم أحياء بجامعة كاليفورنيا في ريفرسايد: "توجد اختلافات في سلوك التزاوج وفي بيولوجية التوالُد".

فبينما يتجمع البعوض الذي يعيش على السطح في أسراب كبيرة من أجل التزاوج والتوالد، فإن بعوض الأنفاق لا يجتمع بهذه الكميات، بل كلٌ يختار شريكه للتزاوج.

وبعد اكتمال إنشاء شبكة قطار أنفاق لندن، باتت الأنفاق معزولة إلى حد كبير عن السطح، ووجد بعض البعوض نفسه حبيس الأنفاق. وكتبت بيرن إن هذا الحاجز المادي هو الذي أدى إلى عملية التطور التباعدي (تطور أنواع جديدة بسبب تراكم الاختلافات بين المجموعات).

وذكر توم كوين في كتابه "أغرب الروايات عن لندن"، أن هذا "التطور حدث بالانتخاب الطبيعي ولكن على نحو متسارع".

ومع تكاثر أحد الأنواع فوق الأرض وتكاثر نوع آخر تحتها، لما يقرب من 100 عام، كانت الظروف مهيأة لتطور نويع جديد. ويقول العلماء أن هذا التطور ربما لم يستغرق إلا بضع مئات من الأجيال.

يقول ريزنيك: "يظن الناس دائما أن عملية تطور الأنواع الجديدة بطيئة للغاية وليس بمقدور أحد أن يشهد حدوثها. ولكن في هذا المثال، يمكنك أن تراها تحدث إلى حدّ ما أمام عينيك، فهي ظاهرة حديثة نسبية ويمكنك أن تميز تاريخ بداية حدوثها بوضوح"، أي عندما بدأت أعمال إنشاء أنفاق لندن سنة 1863.

لكن الأمر لم يبد مقنعًا للجميع. يقول جود: "ليس من الواضح إن كان هذا البعوض قد تطور في شبكة الأنفاق أم انتقل إليها، ربما مع البضائع المشحونة وحركة نقل الفاكهة إلى مرافئ لندن". وأضاف أنه لا يوجد ما يكفي من أبحاث لنستدل بها على الحقيقة.

ويقول جود إن دراسة هذا البعوض ربما تثير الدهشة، مع العلم أنه توجد طائفة عريضة من الأنواع التي يمكن إجراء دراسات عليها في شبكة أنفاق لندن. فقد عُثر على فئران وثعالب وحتى سلاحف تحت الأرض.

فهي تعيش داخل الزغب المنتشر في الأنفاق، الذي تكوّن من شعر بشري وألياف الملابس، وغبار الأنفاق، وهو عبارة عن الكربون القادم من لقمة مكبح القطار.

وتابع جود: "لم نتلق في 2015 أي شكاوى من العملاء ذات صلة بحالات لدغ، على الرغم من أن عدد الركاب الذين ينتقلون عبر شبكة الأنفاق وصل إلى 1.3 مليار راكب".

ويقول جومز إنه من الواضح أن بعوضة موليستوس لا يقتصر وجودها على أنفاق لندن دون غيرها. فهي توجد في حقيقة الأمر في جميع مواقع الإنشاءات تحت الأرض، من شبكات إمداد المياه إلى الطوابق السفلية للمنازل الكبيرة، كما توجد في البيئات المغلقة المشابهة، مثل الكهوف والبالوعات، في جميع أنحاء غرب أوروبا، ولا سيما في البلدان معتدلة المناخ مثل أسبانيا والبرتغال.

كما أنها توجد في مدينة طوكيو وفي أنفاق نيويورك. ولكن يرى ريزنيك، أنه يوجد العديد من العوامل الوراثية التي تشي بأن بعوض الأنفاق تطور للمرة الأولى في لندن.

فعلى سبيل المثال، انطوى البحث الذي أجرته بيرن على جمع 12 عينة من مجموعات البعوض التي تعيش فوق الأرض بالقرب من محطات مترو الأنفاق، وقارنت التركيب الوراثي للبعوض الذي يعيش فوق الأرض بالتركيب الوراثي للبعوض الذي يعيش تحت الأرض، ووجدت أن النسخ البديلة داخل الجين (الأليلات) أو المغايرات الوراثية، مشابهة بشكل لا يصدق.

ويقول ريزنيك: "فإذا كان (البعوض الذي يعيش تحت الأرض) قد أتى من أسبانيا، فكان من المتوقع أن تجد أنه يحمل أشكالا بديلة من الجين (أليلات) تختلف عن تلك التي يحملها البعوض الذي يعيش فوق الأرض".

وفي هذه الحالة، ستكون الحشرات التي تعيش تحت الأرض هي الأقرب للبعوض الذي يعيش فوق الأرض في أسبانيا، إلا أنه تبين العكس، فنوعا البعوض الذي يعيش في لندن فوق الأرض وفي الأنفاق هما الأقرب إلى بعضهما البعض.

أضف إلى ذلك، أن جميع البعوض الذي يعيش في الأنفاق متشابه وراثيًا إلى حدِّ ما.

يقول ريزنيك: "إذا كان لديك مجموعة سكانية كبيرة من الناس، ثم استعمر 20 منهم جزيرة في مكان ما، فلن يحمل المستعمرون إلا جينات تمثل مجموعة فرعية صغيرة من المجموعة السكانية الأولى".

فالبعوض الذي يعيش تحت الأرض يشبه بعضه بعضًا إلى درجة "توحي بأن هذه المجموعة نشأت عن عدد قليل من البعوض الذي ينتمي إلى نفس المجموعة الوراثية".

ويقول ريزنيك إن العثور على بعوض موليستوس في بلدان أخرى إنما يبرهن على أن عملية تطور الأنواع عملية مدهشة. وأضاف: "فهذا يكشف عن أن قدرة البعوض الذي يعيش فوق الأرض على غزو الأنفاق توجد في أماكن أخرى من العالم بهدف تطور أنواع جديدة".

كما أوضح أن عملية تطور الأنواع ليس من الضروري أن تحدث ببطء وبتأنٍ على مدار عشرات الآلاف إلى مئات الآلاف من الأجيال، حسبما افترض داروين في بداية الأمر.

ويقول ريزنيك: "قد تتكون أنواع جديدة في بضع مئات من السنوات وفي الظروف المواتية".

وأشار إلى مثال السمك شائك الظهر البحري في أنكوريج، بولاية ألاسكا، الذي يتغير جينيًا ليتكيف مع بيئات المياه العذبة، في أعقاب زلزال ضرب البلاد في ستينيات القرن الماضي، وتكونت على إثره بحيرات جديدة هناك.

ويقول ريزنيك إن مع الأخذ في الاعتبار أن الجيل من هذه الأسماك لا يزيد عن نحو عام واحد، فإن تطور نوع جديد يحدث على مدار 50 جيلًا.

وعلى عكس البعوض الذي يعيش في أنفاق لندن، فلا يفصل بين السمك شائك الظهر الذي يعيش في مياه البحار وذاك الذي يعيش في المياه العذبة أي فاصل مادي. ويقول ريزنيك: "كل هذا يحدث من دون فصل جغرافي".

أهم أخبار تكنولوجيا

Comments

عاجل