المحتوى الرئيسى

حكايات جديدة في تاريخ تكميم الأفواه

04/04 09:51

الكلمة رصاصة. لُغم. سيف مرفوع فوق هامات الكُبار. عواصف رعدية تهتز لها نوافذ الحُكام لذا فهى مُطاردة دائما، ومرصودة أبدا، ومُتهمة فى كثير من الأحيان. إن السُلطة أى سُلطة لا تحتمل النقد ولا ترضى بالقدح ويظُن حائزوها أنهم لا يخطئون وأن جميع مُخالفيهم خونة ومتآمرون.

وحسبنا ما كتبه نزار قبانى قبل عقود مُسجلا حال الحُكام الذين يحسبون أنهم مُنزهون عن الخطأ إذ يقول:

 «فى حارتنا ديك عصبى مجنون/

 يصرخ من مأذنة الجامع /

 يا سبحانى يا سبحانى /

إن السُلطة دائما تُزعجها الكلمة، والحكايات عديدة، لكن ما نقدمه اليوم هو فصل فى هذا الصدد لم يُنشر من قبل يخُص الكاتب الراحل سلامة موسى، هو فصل من فصول مُصادرة الصُحف تُثبته وثائق جديدة تُنشر للمرة الأولى وصلت إلينا ضمن أوراق مكتب سابا حبشى ومُصطفى مرعى المحاميين لدى المحاكم المُختلطة .

وتكشف الدعوى التى أقامها مكتب سابا حبشى ومصطفى مرعى المحاميين وأنذرا فيها وزير الداخلية القصة كاملة. ففى عام 1930 كان سلامة موسى الكاتب والصحفى يُصدر مجلتين المصرى والمجلة الجديدة وكانت المصرى تصدر اسبوعية وتطبع 20 الف نسخة والمجلة الجديدة تصدر شهرية حيث كان يطبع منها نحو 12 ألف نسخة. وتشير الدعوى إلى أن سلامة موسى تكلف مصروفات باهظة فى إعداد المجلتين واضطر إلى شراء مطبعة بـ3500 جنيه حتى يضمن طباعة المجلتين فى مواعيدهما، وتضيف الدعوى أن سلامة موسى انتهج فى مجلتيه الدفاع عن الحريات وضرورة إعادة النظام البرلمانى وكان جزاؤه على ذلك أن قامت الحكومة بتعطيل مجلة المصرى تعطيلا نهائيا منتصف شهر يونية 1930، وكانت المجلة تدر على صاحبها عائدا شهريا قدره 70 جنيها. كما قامت الحكومة بتعطيل المجلة الجديدة فى أغسطس 1931 لمدة ثلاث سنوات وكانت تدر على صاحبها 50 جنيها شهريا.

وتضيف الدعوى «أنه بلغ من العنت بالوزارة أن وصلت إلى حد غير مألوف فى النكاية حيث اختارت لتنفيذ أمر التعطيل الصادر عن المجلة الجديدة منتصف الساعة الثالثة صباحا من اليوم الذى كان العدد يطبع فيه وتم التنفيذ فى منزل الطالب فى ظروف غير مألوفة».

وتقول الأوراق أن سلامة موسى «حاول جهده عدم إيجاد أية حجة للوزارة القائمة بالأمر لتتذرع به ضده اللهم إلا حرية الآراء التى كان يدافع عنها صاحب الدعوى ولم يكن بوسعه أن يتنازل عنها بأى ثمن».

وتقول أيضا أن سلامة موسى «دفع لوزارة الداخلية مبلغ 150 جنيها كتأمين عن المجلة رغم كون المجلة شهرية وكان الوحيد الذى دفع ذلك المبلغ ما يدل على كونه مقصودا بالعنت من جانب الوزارة دون غيره من أصحاب المجلات الشهرية التى أعفيت من سريان القانون عليها».

وتضيف أيضا «وبما أن الطالب (سلامة موسى) قد أصابه ضرر بالغ من تعطيل مجلتيه المبينتين فى الدعوى وهما المجلة الجديدة والمصرى فلا يقل ما اصابه من الضرر وما يستحقه من التعويض بالنسبة لتعطيل مجلة المصرى عن 1500 جنيه بينما لا يقل التعويض عن تعطيل المجلة الجديدة عن ألف جنيه، فضلا عن خسارته لمطبعته التى اشتراها بمبلغ 2500 جنيه وصارت لا تساوى أكثر من ألف جنيه، ويضاف إلى ذلك ما اضطر الطالب لدفعه من غرامات عديدة».

وتضيف الدعوى « وبما أن مصلحة الصحافة صرحت لصحفيين بإطلاق اسم المصرى على صحيفة يومية فى حين أن هذا الاسم من حق الطالب (سلامة موسى) لأنه اسم صحيفته الأولى فإنه تم إعلان حضرة صاحب المقام الرفيع وزير الداخلية بإلزامه بدفع مبلغ 5350 جنيها مع المصاريف ومقابل أتعاب المحاماة مع شمول الحكم بالنفاذ المسجل بغير كفالة».

والمثير فى هذه الدعوى أنه قد حددت جلسة لنظر القضية وقدمت وزارة الداخلية حافظة مُستندات تضمنت طلب سلامة موسى الحصول على ترخيص فى 29 سبتمبر 1929 باسم «المجلة الجديدة» ثُم تعهد من مقدم الترخيص بعدم نشر أى موضوعات سياسية أو إدارية أو دينية ثُم خطابا من وكيل وزارة الداخلية بالترخيص بإصدار المجلة على أن تكون مقصورة على الموضوعات الأدبية. وقدمت وزارة الداخلية أيضا مُستندات تتضمن خطابا من وكيل الجامع الأزهر إلى وزارة الداخلية يتضمن نشر أمور دينية.

أما اللافت فى حافظة المُستندات فكان خطاب تحريات أجرته وزارة الداخلية بشأن صاحب المجلتين وقد أفاد بـ«أن المدعى (سلامة موسى) معروف عنه شدة تطرفه فى المبادئ الاشتراكية وخروجه على تعاليم الأديان عامة».

وهو ما يعنى أن استخدام وزارة الداخلية سلاح التشهير والوصم بمعاداة الدين كان سلاحاً قديماً ومُتكررا لدى أجهزة الأمن فى تعاملها مع خصوم السُلطة والمطالبين بالحريات.

وقدمت وزارة الداخلية قرارها بتعطيل المجلة الذى جاء بسبب قيامها فى العدد 14 الصادر بتاريخ 4 ديسمبر 1930 بنشر مقالات وفصول تعرضت للبحث فى السياسة بما يثير الخواطر لأنها جريدة أدبية فقط.

وليس مفهوماً عبارة «التعرض للسياسة بما يثير الخواطر» لأن الدستور كفل للناس حُرية الرأى وتبنى وجهات نظر سياسية ومُجرد اعتبار إعلان تلك الآراء بمثابة إثارة للخواطر هو ضعف منطق من جانب المؤسسة الأمنية القائمة فى ذلك الوقت.

وسلامة موسى واحد من رواد النهضة المصرية، وهو كاتب انفتاحى له ميول اشتراكية ولد فى 1887 فى إحدى قرى الزقازيق وكان ممن اطلعوا مبكرا على ثقافات وعلوم الغرب عندما سافر إلى أوروبا ونادى بتبسيط اللغة العربية وكان من أوائل من كتبوا بالعامية، واهتم بأصول الحضارة المصرية القديمة. وقد تتلمذ على يديه جيل كامل من المثقفين أبرزهم الكاتب الكبير نجيب محفوظ. وأصدر سلامة موسى عام 1910 كتابه الأول «مقدمة السوبرمان» الذى طرح فيه أفكاره حول ضرورة تطوير المجتمع والاستفادة بأوروبا والغرب خاصة فى مجال الثقافة والعلوم المختلفة. وأسس سلامة موسى الحزب الشيوعى عام 1921 وكتب وترجم عشرات الكتب وأصدر عدة مجلات وصحف ودوريات وساهم بشكل كبير فى حركة الترجمة، وكان من أوائل من طالبوا بتأميم قناة السويس كشركة مصرية. ورحل الرجل فى أغسطس سنة 1958 مُخلفا تراثا فكريا عظيما ومؤثرا.

والمُهم أن ما جرى مع سلامة موسى فى مجلتيه جرى من قبل ومن بعد مع كثير من الكُتاب والمُثقفين والصحفيين، فمنذ عرفت الصحافة طريقها إلى مِصر والحُكام يعتبرونها شراً محضاً.

وقد شهد تاريخ حرية التعبير أزمات عديدة طبقا لقوانين وتشريعات وفرمانات سُلطانية لأن كافة الحُكام اعتبروا أنفسهم مُقدسين ومُنزهين.

ويذكر لنا الدكتور يونان لبيب رزق فى كتابه «العيب فى ذات أفندينا» استعراضا سريعا لموقف السُلطة فى مصر من حرية الرأى والتعبير على مدى نحو قرن وربع القرن. ويمكن اختصار ذلك تباعا لمحاكمات ووقائع جرت عبر عصور الحُكام المُختلفة، ففى عهد الخديو إسماعيل وقبل خلعه بثلاثة شهور تم تعطيل جريدة «صدى الأهرام» لمدة 15 يوما بسبب مقال مكتوب تحت عنوان «ظُلم الفلاح»، وتم القبض على بشارة تقلا وظل مسجونا ثلاثة أيام حتى تدخل توفيق نجل الخديو إسماعيل للإفراج عنه.

وفيما بعد قُبض على الصحفى أحمد حلمى وهو الذى سُمى على اسمه موقف السيارات الشهير بوسط القاهرة لأنه كتب فى جريدة «القطر المصرى» مقالا يتساءل فيه عن الحق الذى يمنح لأسرة محمد على 350 ألف ليرة سنويا من الخزينة المصرية واعتبرت السُلطة مقال «حلمى» طعنا مُباشرا فى الخديو عباس حلمى وقبضت فى مارس 1909 على الكاتب ووجهت إليه تهمة العيب فى حضرة الخديو. وخلال المحاكمة تم استعراض مقالات عديدة للرجل يهاجم فيها أسرة محمد على وصدر الحكم ضده بالسجن لمدة عشرة شهور، واستمر «حلمى» فى اصدار جريدته وكتابة مقالات حادة ومُنتقدة من داخل سجنه ما دفع الحكومة إلى اعلان اغلاق جريدة القُطر المصرى تماما فى 8 يناير 1910.

واللافت أن اللجنة الملكية التى قامت بوضع دستور 1923 هى ذاتها التى أعدت قانونا بعد ذلك باسم «العيب فى الذات الملكية» وقد صدر فى نفس العام وهو ما جاء اتساقا مع المادة الـ23 من الدستور المصرى فى ذلك الحين والتى وصفت الملك بأنه «هو رئيس الدولة الأعلى وذاته لا تمس» وكان أشهر من تمت محاكمته بهذا التشريع الكاتب الكبير عباس محمود العقاد الذى انفعل فى إحدى جلسات مجلس النواب مُعلنا أنه على استعداد لسحق أكبر رأس فى البلد فى سبيل صيانة الدستور وحمايته. وقد جرت محاكمة الكاتب على عدد من مقالاته التى نشرها فى جريدة «المؤيد الجديد» وكان مكرم عبيد هو مُحاميه بالقضية إلا أن الحكم صدر فى النهاية بحبس «العقاد» تسعة أشهر، ومحمد فهمى الخضرى صاحب «المؤيد الجديد» ستة أشهر.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل