المحتوى الرئيسى

فاروق أبوزيد

04/03 22:06

تلقيت كما كل خريجى كلية الإعلام ــ جامعة القاهرة، نبأ وفاة عميدها التاريخى، وأحد أبرز أساتذة الصحافة فى العالم العربى، الدكتور فاروق أبوزيد بمزيد من الحزن والأسى؛ لأنه كان واحدا ممن تركوا بصمة كبيرة فى تكويننا المهنى، جعلتنا نخطو فى حياتنا العملية بثقة من تشرب مبكرا أصول المهنة على أسس علمية بعيدا عن ممارسات «الهواة».

فى عامنا الدراسى الأول سنة 1997 نظمت الكلية مؤتمرا لمناقشة «مستقبل الإعلام فى مصر». كانت أوامر أبوزيد صارمة «طلاب السنة الأولى يحضروا المؤتمر إجباريا، كى يتعرفوا على رؤساء التحرير وكبار المذيعين ويحتكوا بقضايا المهنة مبكرا».

صعدنا إلى قاعة المؤتمرات، فكنا على موعد مع جلسة «مستقبل الصحافة»، فوجدنا استاذتنا العملاقة عواطف عبدالرحمن مشتبكة مع مصطفى بكرى، رئيس تحرير «الأسبوع»، وممدوح مهران، رئيس تحرير «النبأ»، بسبب اتهامها للصحيفتين بـ«عدم المهنية»، وانتقدت أستاذتنا الكبيرة الراحلة الدكتورة أميرة العباسى طغيان «الإعلان» على «التحرير» فى «الأهرام»؛ فبدأت أعيننا تتفتح مبكرا على معنى «المهنية».

فى السنة الثانية، أتت الكلية بناقد رياضى شهير لإعطائنا تدريبا عمليا. كنت الشاب الوحيد فى مجموعة تضم نخبة من زميلاتنا الفضليات والجميلات فى آن واحد، فما كان منه إلا أن منح كل الزميلات درجات أعمال السنة كاملة، وانتقص منى درجتين، رغم اجتهادى، وهو ما أثار حفيظة زميلاتى اللاتى أصررن على شكواه للعميد أبوزيد. توجهنا لمكتبه. حكينا له الواقعة؛ فرد بجملتين «هذا الرجل لن يدخل الكلية ثانية.. بلغوا زملاءكم أن امتحان آخر العام من 20 درجة بدلا من 14»، وألغى كل الدرجات التى وضعها هذا الناقد لبقية الدفعة.

لم يكن الراحل الكبير يتصور أن دارسا للصحافة لا يحرص على قراءة الصحف يوميا. بمجرد دخوله المدرج يبادر بالسؤال من قرأ صحف اليوم؟ ويا ويله من يكتشف أنه لم يقرأ صحيفة واحدة على الأقل. ذات مرة سألنا: ما هى أفضل صحيفة معارضة تقرأونها؟ ولما صمتنا قال بانفعال «من لم يقرأ صحف المعارضة بيته أولى به.. هذا جزء من تكوينكم المهنى.. لسنا سياسيين.. بل صحفيين منفتحين على كل الآراء».

فى تدريسه لـ«التحرير الصحفى» كان ــ رحمه الله ــ لا يكتفى بتعليمنا فن الكتابة الصحفية؛ لكنه يتجاوزها إلى فن التعامل مع المصادر، و«حتمية أن يتمتع الصحفى بذوق رفيع، مع حرص شديد على حسن المظهر والهندام، فقبل أن يستمع إليك المصدر، سيرى هندامك، فلا تجعله ينشغل عن أسئلتك بتفحص عدم التناسق فيما تلبس».

فى سنة 2000 عاشت القاهرة أزمة رواية «وليمة لأعشاب البحر» للروائى السورى حيدر حيدر، وشن محمد عباس، الكاتب بصحيفة «الشعب» هجوما عنيفا على نشر وزارة الثقافة للرواية؛ لأنها «تتطاول على الدين»، ونشر مقاله الشهير «من يبايعنى على الموت؟»، وغلت جامعة الأزهر بالمظاهرات ضد الرواية، التى لم يقرأها معظم طلابها!

فى هذه الفترة كان أبوزيد يدرس لنا «فن الحوار الصحفى»، وإذا به يفاجئنا بهذا السؤال: من هى الشخيصة التى تستحق إجراء حوار معها الآن؟ رفعت يدى، فأذن لى بالكلام. قلت: الكاتب محمد عباس. قال: إذن سأنتظر منك هذا الحوار الأسبوع المقبل. ذهبت لعباس، وواجهته بأن له رواية اسمها «قصر العينى» بها عبارات جنسية صريحة مثل الرواية التى ينتقدها؛ فرد «لكننى طبعتها من مالى الخاص، وليس من أموال دافعى الضرائب».

سلمت الحوار لأبوزيد، فبادرنى بقوله: سجلت للرجل. قلت: نعم. قال: سأقرأه، وأبلغك بملاحظاتى فى المحاضرة، التى أثنى فيها على الحوار. لكنه قال إنه لن ينشره فى «صوت الجامعة»؛ لأنه لو فعل ذلك «سيغلق الجورنال»، وفتح نقاشا معنا بشأن التزام الصحفى بسقف الحرية المتاح فى دولة مثل مصر. كان رأيه أنه «ليس من الذكاء أن تتجاوز هذا السقف فتتعرض صحيفتك للإغلاق أو ينكسر قلمك، فإذا نجحت فى الاستمرار على إيصال 70% من رسالتك للمتلقى، فذلك أفضل جدا من أن توصلها له مرة واحدة بنسبة 100% وبعدها لا ترى النور إلى الأبد».

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل