المحتوى الرئيسى

مجدي منصور يكتب: الإسرائيليون والفلسطينيون: الوصول للحائط المسدود! نظرة بالعمق في مجرى الصراع العربي الإسرائيلي(3) | ساسة بوست

04/03 18:28

منذ 1 دقيقة، 3 أبريل,2016

 يُفاجئنى الحُبُ مثل النبوءة حين أنام

ويرسم فوق جبيني هلالًا مُضيئًا وزوج حمام

يقولُ تكلم : فتجرى دموعي ولا أستطيعُ الكلام

يقولُ تألم – أُجيب : وهل ظلَ في الصدر غير العظام

يقولُ تعلم – أُجاوب : أنا يا سيدى وشفيعي مُنذُ خمسين عامًا أُحاول تصريف فعل الغرام،

ولكنى في دروسي جميعاً رسُبت .. فلا في الحروب ربحت ولا في السلام! نزار قباني

هذا هو الجزء الثالث من مقالي البحثي عن مجرى الصراع العربي الإسرائيلي. ولم يكن في جدولي من الأصل الكتابة عن ذلك الموضوع، كنت سأُكمل بحثى عن «السياسة الخارجية الروسية»، والذى ينشر على صفحات تلك المنصة الغراء تحت عنوان «القصة الروسية من القيصر إيفان حتى القيصر بوتن». ومن بعدها أتأهب وأُصلي في خشوع؛ حتى أنتهى من الموضوع الشائك عن «خفايا وأسرار حرب يونيو 1967 ودور (الملوك العرب) فيها»، وذلك موضوع أعرف أنه سيُثير على شخصي الضعيف عواصف هوجاء من الخليج العربي حتى المحيط الأطلسي! وخصوصًا أن الأسرار التي تكشفت أخيرًا من الوثائق الإسرائلية والأمريكية «تقشعر لها الأبدان ويشيبُ لها الولدان!».

وقد نُصحت من عدد من الأصدقاء والأحباء بصرف النظر عن الكتابة في هذا الموضوع الشائك والمعقد، أو على أقل تقدير تأجيله، ولكني كنت أذكر نفسي بمقولة «شكسبير»: «إذا لم أتكلم أنا فمن؟ وإذا لم أتكلم الآن فمتى؟»، ولكن وأنا في تلك المناقشة الداخلية، وجدت أحد المسوخ، والغريب أنه ممن ينتسبون لشعبنا الفلسطيني، يكتب في أحد المواقع العبرية العربية المعروفة عن الصراع العربي الإسرائيلي، وقام ذلك المسخ بإرسال ما كتبه على إيميلي الخاص، وهالني ما قرأته! وخصوصًا أن ذلك المسخ يشوه كل ما هو مقدس، وكل ما هو قومي، وكل ما هو وطني، بل كل ما هو إنساني. وعرضت ذلك على عدد من الأصدقاء والأحباء وكان رأيُهم جميعًا أننى يجب أن أكتب وأن «يكون الرد على الكلمة بالكلمة». يتبقى لي ملاحظة أقولها، هي: إن كل ما أكتبه هو رؤيتي أنا، ووجهة نظري أنا للأحداث، وبالطبع إنني لم أفرض على أحد أن يقتنع برؤيتي ووجهة نظري، بل الخيار في النهاية للقارئ؛ فله أن يقتنع أو لا يقتنع، وأكون شاكرًا له في الحالين، إلا أن «أنا» سأظلُ «أنا» كما يقول شكسبير.

«علينا أن نفرق بين تصرفات بعض الفصائل الفلسطينية وبين القضية الفلسطينية، وإنني أحذر من أخذ تصرفات تلك الفصائل المفلوتة حجة لتصفية القضية الفلسطينية»، جمال عبد الناصر للملك حسين

كان الخوف دائمًا أن فلسطين الاسم والكيان مزقتها وبعثرتها الحوادث: الجزء الأكبر أصبح اسمه إسرائيل، والجزء الآخر ألحق بالأردن تحت الوصف الجغرافي «الضفة الغربية للأردن»، وجزء ثالث «قطاع غزة» وضع وديعة تحت إدارة مصرية مؤقتة. وكانت هناك دائمًا محاولة لتلبية الحاجة إلى إبراز فلسطين اسمًا وكيانًا، وهكذا جرى إنشاء ما يسمى بـ«حكومة عموم فلسطين»، ولم تنجح المحاولة. ومع ظهور الحركة القومية العربية، بعد ثورة 1952، كانت هناك مخاوف ذات طبائع متعددة:

كان هناك أن القيادات الفلسطينية التاريخية التي ارتبطت بسنوات الكفاح، مثل مفتي القدس الحاج «أمين الحسيني» مفتي القدس، قد ابتعدت عن الساحة؛ إما بحكم العمر، أو اختبارات الحوادث.

كان هناك أن قضية فلسطين أصبحت مطية المطامع والدعاوى المتعارضة الحزبية والتقليدية، التقدمية والقبلية، إلى آخره مما ظهر في العالم العربي، وراح يبحث عن مصداقية تمنحها له قضية كبرى شرعية.

وكان هناك أيضًا أن الشعب الفلسطيني أخذ يعتاد أن يترك الجزء الذى يخصه من القضية العامة للآخرين، وتزايد اعتماده عليهم، إلى درجة يمكن أن تنسحب معها هويته، كتركيب اجتماعي وثقافي وسياسي له خصائصه الذاتية.

وفي مؤتمر القمة العربي في القاهرة يناير 1964 تقدمت مصر باقتراح إنشاء كيان فلسطيني مستقل باسم منظمة تحرير فلسطين، وكان الاسم إلى جانب تجسيده للكيان يحمل إشارة لها قيمتها في عصر تعددت فيه حركات تحرير الشعوب. وكان الرجل الذي وقع عليه اختيار منظمة مؤتمر القمة لرئاسة منظمة تحرير فلسطين هو الأستاذ «أحمد الشقيري». وعندما حلت ظروف سنة 1967، ومن نتيجتها احتلال أرض فلسطين كلها، فإن الأزمة العربية العامة، وحتمية تجاوزها بالعمل المسلح، عكست نفسها على منظمة التحرير، وأصبحت هناك حاجة ماسة إلى تغيرات في تلك المنظمة، بما في ذلك قيادتها.

وعندما ظهرت حركة «فتح» بقيادة «ياسر عرفات» واستطاعت تلك الحركة وقيادتها أن تتواصل مع عاصمة الثورة العربية في ذلك الوقت «مصر الناصرية»، وعندما تمكنت الحركة من أن تحصل على اعتراف «القاهرة» بها، فإن ذلك الاعتراف منحها الشرعية العربية، وعندما ضغطت «مصر» على الاتحاد السوفيتي من أجل أن يتعامل مع الحركة على أنها «حركة تحرير وطني» فإنها بذلك حصلت على الشرعية الإقليمية.

ولم يكن مفاجئًا أن تتقدم الحركة، بعد ذلك لتصبح القوة الضاربة لمنظمة التحرير، وخصوصًا بعد نصيحة «القاهرة» للسيد «أحمد الشقيري» بتقديم استقالته، وبدأت الحركة بعد ذلك تنطلق من الأردن؛ للعمل ضد المحتل الصهيوني، وفى تلك الأجواء وقعت أحداث «أيلول الأسود»، وعقد مؤتمر القمة الطارئ بالقاهرة (1970)؛ لوقف نزيف الدم العربي. لمزيد من التفاصيل حول القمة رجاء مراجعة هذا الرابط/

ورحل بعدها مباشرة الزعيم «جمال عبد الناصر»، كانت جنازة الزعيم جمال عبد الناصر المهولة حدثًأ، قلَّما يتكرر في التاريخ! كانت جنازته بكل ما فيها من أنهار الدموع التي انسكبت على النيل «دمعة حزينة على خد الإنسانية».

الزعيم (جمال عبد الناصر) ظل حتى أخر يوم في عمره يناضل من أجل وقف نزيف الدم العربي

محاولة للإجابة على السؤال الأصعب؟

كيف حدث ما حدث من انقلاب في الاستراتيجية المصرية في عهد السادات؟

«إننى أعرف أن الناس يلهثون بعد مشوار طويل، ولكننا لا يجب أن نتوقف، وإنما يجب علينا أن نستمر؛ حتى نخلق حقائق يصعب على أحد أن يتراجع عنها في زمن قادم. إن الأعمار بيد الله، وأنا لا أعرف متى يحين أجلى، ولا أعرف من سيأتي بعدنا. ولهذا فإن علينا أن نبنى بسرعة؛ لكى نجعل الرجوع إلى الوراء صعبًا إذا جاء من يحاوله» جمال عبد الناصر

قامت حرب أكتوبر 1973، وتبعتها مفاوضات فض الاشتباك الأولى والثانية، وبدا ظاهرًا للعيان أن الرئيس «السادات» يبتعد بمصر عن محيطها العربي، تحت ظنون أوهام في مخيلته، لن تتحقق، ولم تتحقق حتى اليوم. وظل الرجل سائرًا في طريقه الوعر من الرياض «فيصل» إلى طهران «الشاه» للرباط «الحسن» لواشنطن «كيسنجر ونيكسون حتى كارتر»، حتى وصل بأقدامه لبيت الشيطان ذاته: مطار «بن جوريون» «مناحم بيجن!»، وكان السؤال الذي ظل يُطرح، ولا يجد أحد إجابة عليه: هل كان الشعب المصري قطيعًا يُساق فينساق إلى حيث يريد الرئيس المؤمن؟

والحقيقة أن الشعب المصري لم يكن قطيعًا، ولقد كانت هناك عوامل موضوعية متعددة المستويات جعلت الانقلاب ممكنًا، وأقامت له جسورًا بدت مأمونة، حلت محلها جسور العبور التي حفها الموت والخطر من كل ناحية.

كانت هناك عوامل مصرية سياسية واقتصادية واجتماعية.

وكانت هناك عوامل عربية ذات الطبيعة السياسية الإقتصادية الإجتماعية.

وكانت هناك عوامل دولية تتعلق بموازين القوى وصراع العقائد.

وكانت هناك عوامل فكرية هبت على العالم كله، وكان العرب في موقعهم وسط الدنيا مكشوفين أمامها، دون تحصين، ودون دفاع.

كانت تلك العوامل كلها قد اجتمعت، وكونت مزيجًا وخليطًا أدى إلى ما وصلت إليه الأحوال:

1- كان الشعب المصري مُرهقًا بمسيرة طويلة عنيفة ومضنية مشى إليها مع «جمال عبد الناصر»، سلسلة لا تتوقف من المهام والطموحات، ومن الصراعات والمواجهات، من قيام الثورة، إلى بناء نظام اجتماعي جديد، إلى الإصرار على الاستقلال، إلى قيادة تيار عربي رئيس فاعل من المحيط للخليج، إلى بناء السد العالي، إلى تمصير كل المصالح الأجنبية، إلى بناء الصناعتين الثقيلة والاستهلاكية، إلى استزراع الصحراء، إلى التصدي للقوى الكبرى في المنطقة، إلى استمرار المواجهة مع إسرائيل.

وكان «جمال عبد الناصر» يعرف ـ أكثر من غيره طبيعة ـ وتكاليف المسيرة التي يقود الشعب المصري والأمة العربية عليها، لكنه على نحو ما كان يتصور أنه ليس أمامه، إلا أن يتحرك بأسرع ما يمكن.

وكان تعبيره عنها في اجتماع عقده مع المهندس «صدقي سليمان». حينما كلفه بتشكيل الوزارة، بعد نجاحه على رأس جهازه في بناء السد العالي في الموعد المقرر له تمامًا، فقد قال له في جلسة التكليف التي عقدها معه يوم 9 سبتمبر 966:«إن الناس عرفوك في تجربة السد العالي على أساس أنك رجل قادر على الإنجاز، وهذا بالضبط ما أريده منك».

رابط للإعلان «عبد الناصر» إكتمال العمل بالسد العالي

ثم استطرد «جمال عبد الناصر» يقول:«إننى أعرف أن الناس يلهثون بعد مشوار طويل، ولكننا لا يجب أن نتوقف، وإنما يجب علينا أن نستمر؛ حتى نخلق حقائق يصعب على أحد أن يتراجع عنها في زمن قادم. إن الأعمار بيد الله، وأنا لا أعرف متى يحين أجلي، ولا أعرف من سيأتي بعدنا؟ ولهذا فإن علينا أن نبنى بسرعة لكي نجعل الرجوع إلى الوراء صعبًا؛ إذا جاء من يحاوله!». وبصرف النظر عن التصورات والرؤى، فإن الحقيقة أن الشعب المصري كان يلهث بالفعل، بعد سباق له بداية ولا تبدو له نهاية.

2- وفى هذه اللحظة المتعبة وقعت ضربة 1967 وأحدثت الضربة شرخًا في البنيان الوطني المصري امتد أثره إلى التركيبة القومية. وفي لحظة واحدة ظهر البطل القومي «جمال عبد الناصر» رجُلًا جريحًا، وخرجت جموع الشعب المصري وجموع الأمة كلها يومي 9 ، 10 يونيو تؤيده، رغم الهزيمة، وتطلب منه البقاء؛ لمواجهة أثارها،ن بعد أن خطر له أن يخلى موقعه لغيره، وكان ذلك نوعًا من الدواء لجرحه، وراح الرجل من بعدها يعمل كما لم يعمل من قبل في حياته، «وهو يدرك أن استعادة الثقة، بما هو ممكن إلى آخر حدود الممكن، تفرض عليه تضحيات عالية في الاحتمال، وفي القدرة على الصبر، وفي ترويض المشاعر بما فيها الكبرياء».

وفى مؤتمر القمة العربي بالخرطوم 1970 حدث تضميد لبعض جراح البطل؛ إذ حدث مالم يكن متوقعًا. خرجت الجماهير السودانية عن بكرة أبيها مستقبلة البطل المهزوم! لدرجة دفعت جريدة «النيوزويك» أن تكتُب متعجبة على غلافها: «هذه أول مرة يقابل المهزوم بأكاليل الغار من جماهير أمته!».

وقد قال الأستاذ «محمد حسنين هيكل» ـ رحمه الله ـ للزعيم «عبد الناصر» جزء من قصيدة لـ«شوقي»، بعد أن رأى المشهد الجبار بين ناصر والجماهير: «انظر فأنتَ كأمس شأنُك بازغ في الشرق واسمك أرفع الأسماء

ما حطموك وإنما بك حطوا من ذا الذى يُحطم رفرف الجوزاء».

وفى 28 سبتمبر 1970رحل البطل، إذ خذله قلبه، ولم تخذله إرادته، ورحل «جمال عبد الناصر» عن الدنيا، بعد أن صدق على مشروع خطة العبور الأولى وهى الخطة جرانيت (1). وكان الناس في ذهول أمام مشهد الرحيل المفاجئ والحزين، ولم يكن في مقدورهم، غير أن يجعلوا نعشه قاربًا يسبح في نهر من الدموع.

صورة من جنازة الزعيم «جمال عبد الناصر»

الجماهير المصرية تبكى ناصر الغلابة «جمال عبد الناصر» في أحد أكبر الجنازات في التاريخ

3- وفى أعقاب رحيل «عبد الناصر» تلفت الناس ليجدوا في موقعه صراعًا على السلطة بين خلفائه، وأقلقهم هذا الصراع كثيرًا وملأهم خوفًا من المستقبل، ثم خرج «أنور السادات» من الصراع منتصرًا، لكنه كان بالنسبة إلى الشعب المصري في ذلك الوقت احتمالًا معلقًا لا يستطيع أحد تقدير وزنه، أو يطمئن إلى أنه يستطيع وراء قيادته أن يخوض أقسى تجربة تنتظره، وعليها يتوقف المستقبل والمصير.

وفى سنواته الأولى في الحكم، فإن «السادات»، لم يكن في مقدوره أن يصنع المعجزة، وقد بدا أمام الناس رجلًا لا يملك غير كلمات عن الصبر والصمت مرة، أو عن سنة الحسم مرة أخرى بلا حسم.

وفى لحظة يأس من الحل ملك الرجل شجاعة إصدار قرار عبور جسور السويس، ولاحت انتصارات الأيام الأولى للحرب وعدًا تحقق ومعجزة ظهرت بشارتها، ومن ثم تصور الناس أنها نقطة الوصول، وتنفسوا الصعداء، ولم يخطر ببال كثيرين أن النتائج العسكرية في الحرب المحدودة هي في الواقع نقطة بداية للحرب الحقيقية، أي حرب التحقيق السياسي لأهداف القتال.

4- وكان معظم الناس في واقع الأمر قد أصابهم الإعياء من طول ما ساروا على الطريق، كما أن أنفاسهم اللاهثة كانت تدعوهم بقسوة إلى التوقف وإلى القعود، إذا أمكن. وكان هناك عنصر يضغط بشدة على أعصابهم، وآن له أن يفك قبضته، وهو يتمثل في أن جيلًا بأسره من أبنائهم ـ مليون شاب تحت السلاح ـ عاشوا ست سنوات من 1967 إلى 1973 داخل معسكرات الصحراء، وفي خنادق القتال، وعلى ضفاف القناة مع الخطر، طوال حرب الاستنزاف، ثم إلى المشهد المجيد للعبور، وكان الناس يريدون لأولادهم أن يعودوا إلى دراستهم أو الى عمل تتوفر لهم فرصته، وإلى حياة يستطيعون البدء في بنائها تحت أجواء تسمح لهم بحياة أفضل في ظروف سلام.

 5- وكان حلم السلام مخدرًا يسري في أعصاب كثيرين، خصوصًا مع ثورة أسعار البترول التي قلبت موازين القوة الاجتماعية في العالم العربي، وسمحت للبعض بألوان من الترف الاستهلاكي أطارت ما تبقى في عقول الناس، من القدرة على البصر والنظر إلى الغد قبل الاستسلام إلى غواية اليوم، بل هذه الساعة، هذه الدقيقة.

كان الناس في مصر عامة يتصورون أن وطنهم أغنى الأوطان العربية، ولكن الصورة التي تبدت أمامهم أثارت مخاوفهم من أنهم أصبحوا أفقرها، وكان عليهم أن يسابقوا بعضهم، ويسابقوا غيرهم إلى أبواب الثراء، وفجأة وقع الخلط الشديد بين السعر والقيمة.

6- وكان «أنور السادات» يريد أن يؤسس شرعية مستقلة له عن شرعية «جمال عبد الناصر»، وقد اعتقد أن قرار أكتوبر يعطيه الحق في شرعية جديدة، وقد يكون ذلك من وجهة نظر إنسانية مقبولًا، ولكن في التنفيذ العملي «فإن ما قام به الرئيس المؤمن دمر المنظومة القيمية المصرية الحاكمة لتصرفات الشعب بكل فئاته وكافة طوائفه».

«أظن أن السادات يستطيع، على الأقل لديه فرصة … إن ناصر قد أجرى تحولات عميقة في المجتمع المصري، لكن مشكلته أنه أزاح القوى التقليدية في هذا المجتمع وأفسح الطرق لقوى جديدة، وهذه القوى الجديدة لم تصل بعد إلى حيث تستطيع أن تقف أمام خلفه (أي السادات) أو تتصدى للتغييرات الواسعة التي وعده بها». هنري كيسنجر لوزير الدفاع الأمريكي

7- كان المدخل الذى نصح «كيسنجر» به صديقه «أنور السادات» هو إشاعة وتسويق حلم «الثراء والرخاء» في الداخل ليبدأ في إعادة تشكيل وعي المجتمع المصري من جديد على أسس السوق الحرة في العالم المتقدم!

الخطوة الثانية من أجل تأسيس الشرعية الجديدة للرئيس المؤمن هي تقويض وهدم، بل بتر دعائم الشرعية السابقة «أي قتل الشاب (يوليو) من أجل أن يحيا ويعيش الرضيع (أكتوبر)!) وكانت المقولة جاهزة، وهي هزيمة سنة 1967، وكأن هذه الهزيمة كانت مجرد تقصير، وتخلف من النظام الناصري بأكمله فقط، ولم يكن فيها عنصر خارجي مهد وخطط لها، بل وشارك في التنفيذ، ثم كأن مشهد الصراع السياسي والاجتماعى الذى بدأته مصر سنة 1952، انتهى كله سنة 1967، ولم يلحقه انتصار سنة 1973.

ولقد كان نقد التجربة السابقة ضروريًا، لكن الإدانة الشاملة على النحو الذى مورست به وقتها كانت كفيلة أن تفقد

الشعب المصري ثقته بكل شيء، ومن ثم تجعله قابلًا لأى شيء. ولعل «كيسنجر» كان أول من لمح الآمر في حوار في مجلس الأمن القومي الأمريكي، بعد عودته من زيارته الأولى لمصر ولقائه مع «أنور السادات» يوم 7 نوفمبر 1973 فقد سأله وزير الدفاع الأمريكي «ملفين ليرد» عما إذا كان السادات قادرًا على إجراء التغييرات الواسعةالتي وعده بها؟

ورد «كيسنجر» :«بأنه يظن أن السادات يستطيع .. على «الأقل لديه فرصة»، وفي شرحه لما يريد قوله أضاف: «أن ناصر قد أجرى تحولات عميقة في المجتمع المصري، لكن مشكلته أنه أزاح القوى التقليدية في هذا المجتمع وأفسح الطرق لقوى جديدة، وهذه القوى الجديدة لم تصل بعد إلى حيث تستطيع أن تقف أمام خلفه (أي السادات) أو تتصدى للتغييرات الواسعة التي وعده بها».

8- وهكذا فإن مصر في تلك الفترة كانت تعيش في حالة تشبه حالة الدوار malaise– بين ماض يبدو لها مكلفًا، ومستقبل يلوح أمامها مغريًا، ثم جرى بالقصد استدعاء مشاعر كانت نائمة في الذاكرة: مثل دعوى أن الوطنية المصرية متناقضة مع القومية العربية، ومثل أن العرب شمتوا فيها أيام وقعت تحت مطرقة 1967، ومثل أنهم أصبحوا الفقراء، ثم إن الفقراء أصبحوا هم الأغنياء. كانت مصر في تلك الفترة في أزمة نفسية ومعنوية وإنسانية.

«إن الدبلوماسية هي الحرب بوسائل أخرى» كلاوزفيتز

9- وبشكل من الأشكال فإن خيار الاتفاق مع إسرائيل جرى تصويره في ذلك الوقت، وكأنه خيار معقول تستدعيه الظروف وتقتضيه الضرورات، وكان المنطق الذى رتب الحجج لهذا الخيار على النحو التالي:

لقد جربنا العمل العربي المشترك – ولم يأت بنتيجة – أليس كذلك ؟

وكذلك فنحن جربنا السلاح السوفيتي في الحرب مع إسرائيل وتفوقت بسلاح أمريكي– أليس كذلك؟

وكذلك فنحن جربنا مواجهة الولايات المتحدة وقد استطاعت أن تفرض نفسها علينا – أليس كذلك؟

وليس هناك سبيل إلى الولايات المتحدة، إلا إذا تركناها تُهندس شكل علاقات لا تجعلها حائرة بيننا وبين إسرائيل – أليس كذلك؟

ولقد تعبنا جميعًا في كل تلك القرارات، وصرفنا مالًا وبذلنا دمًا، وهذه هي المحصلة – أليس كذلك؟

ولم يبق غير خيار واحد هو التعامل مع إسرائيل كأمر واقع يصعب إنكاره، ثم هو خيار لم نجربه على الإطلاق وقد تكون هناك فائدة منه – ما الذى يمنع؟ – أليس كذلك؟

بل كانت الحجج تمضي إلى أبعد من ذلك، إلى قضية فلسطين، فإذا أصحاب الحجج ينسون تاريخ المنطقة وحقائقها ومستقبلها – ويركزون فقط على أنه «ما شأننا نحن بشعب فلسطين؟ وهم الذين باعوا أراضيهم لليهود»، وإذا كان ذلك فما شأننا نسترجعها لهم بدمائنا؟

وحين وقف الرئيس السادات أمام مجلس الشعب يوم 9 نوفمبر 1977 يعرض محاولات التوصل إلى فك ارتباط مع إسرائيل كان قوله : «لقد جربنا كل الخيارات وآن أن نُجرب خيار السلام»!

ولم تكن تصرفات الوفود الإسرائلية جميعها منذ اتفاقية الهدنة 1948، حتى اليوم من واشنطن لجنيف لمدريد تعكس نفس الآراء والتصورات والظنون، وإنما كانت التصرفات كلها هناك تتوخى، على حد تعبير «كلاوزفيتز» الشهير:«إن الدبلوماسية هي الحرب بوسائل أخرى».

«حيثُما تكون مصلحة الناس فهناك شرع الله» الإمام الشاطبي

10- ثم توافقت مع ذلك كله عملية أكثر خطورة، وهي عملية تطويع العقل العربي لقبول فكرة السلام مع إسرائيل، وعلى أساس الأمر الواقع، كان كيسنجر يومها يتحدث هو الآخر عن نظام عالمي جديد، وأحس كثيرون من المفكرين المصريين والعرب أن هناك شيئًا جديدًا في العالم، وكان بينهم من تنبه إلى ذلك فعلًا من منتصف الستينات، ولكن التطورات التي دهمت الجميع، قبل وبعد حرب أكتوبر أيقظت النيام على هزة، وهرعوا على غير استعداد يستطلعون الأحوال، وفي ذلك الوقت المبكر، لم يحدث تشخيص دقيق لهذا الجديد الذى يتغير في العالم.

وكانت هناك قوى كثيرة جاهزة لتدبير برامج وبنود رحلة الفكر المصري والعربي إلى عالم جديد لا يعرفونه.

وفى عام 1974 دُعى مفكرون ومثقفون عرب إلى ما يزيد عن ستمائة ندوة ولقاء فكرى في أمريكا وأوروبا، وكانت الندوات عن النظام العالمي الجديد، أو عن العلاقات بين الشرق والغرب، أو أزمة الصراع العربي الإسرائيلي، أو عن التعاون في حوض البحر الأبيض المتوسط، أو عن .., عن ..، وعن مئات الموضوعات الأخرى.

وظهرت فجأة عشرات المؤسسات والمنظمات التي تولت أمر الرحلة الفكرية أو السياحة الفكرية لقادة الرأي العام العربي أو من يفترض أنهم كذلك، وكان نشاطها أشبه ما يكون بنشاط شركات السياحة التقليدية، وإن اختلف المجال وبدلًا من أن يزور السياح قصر «فرساي» وبرج لندن وكنيسة «سان بيترو» واستديوهات «هوليود»

اتجهت قوافلهم إلى جامعات ومراكز بحث وشركات مؤتمرات وجدت ممولين لأنشطة، ليست بعيدة عن اهتماماتها.

«وظهر من وثائق لجنة (تشيرش) المنشئة من قبل الكونجرس الأمريكي أن كل تلك الأنشطة منظمة وممولة من قبل المخابرات المركزية الأمريكية وللحق والإنصاف فإن بعض التمويل عربي خليجي سعودي في المقدمة!».

المؤتمرات الدولية اتخذتها الأجهزة المخابراتية وسيلة لتطويع الفكر العربي

وكانت تذاكر السفر جاهزة، والغرف في الفنادق محجوزة، وأوراق العمل تُغطى شيئًا أشبه ما يكون بالألغام المعبأة بغازات الأعصاب. وفي البداية كان هناك مشاركون إسرائيليون من أحزاب السلام، ثم مشاركون إسرائيليون عن الأحزاب الحاكمة، وراحت الثلوج تذوب قطرة بعد قطرة!

كان تطويع الفكر المصري والعربي يسير على قدم وساقين، وليس ساقًا واحدة! كانت تلك المعركة من أهم المعارك في التمهيد للتسوية، ولم يكن مُهمًا أن يجيء السلام، وإنما كان المهم أن تتهاوى بعض القيود التي كانت تفرضها مُحرمات الأمة.

وأخيرًا زاد على الصورة أن بعض المقربين من الرئيس المؤمن «السادات» خطر لهم أن لديهم ما يمكن استغلاله في تسهيل مرور تحولات واسعة في نفوس الناس، وفي مجموعة ما استقر في وعيهم من قيم «بالذات في المجال الإجتماعى».

وكانت البداية عملية تشجيع للتيارات الدينية بين الشباب، قُصد لها أن تتركز في الجامعات بين الشباب؛ لكي تُقدم أفكارًا أخرى، وبذلك يمكن أن يخف ضغط الشباب على العمل السياسي وقراراته. وكانت النتيجة على أرض الواقع أن اتجاهات فكرية دخلت في صدام مع اتجاهات أخرى، ثم خرج الأمر عن نطاق صدام الأفكار، وإذا هو يصل إلى اشتباكات بالأيدي وبجنازير الحديد وبالسلاح الأبيض داخل حرم الجامعة.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل