المحتوى الرئيسى

محمود النشار يكتب: «كنت صبيا في السبعينيات».. التفاصيل الممتعة

04/03 15:25

ليومين متتاليين استمتعت بصحبة "الجد" محمود عبد الشكور في كتابه "كنت صبيا في السبعينيات"، الكتاب المُتخم بالتفاصيل التي يُعدد محمود عبد الشكور بعضها كأنما يتداعى تداعيًا حرًّا في نهاية الكتاب:

"حقبة بأكملها عشتها بكل تفاصيلها بين جنازة عبد الناصر وجنازة السادات. أسبح في ملكوت الذكريات: شبرا، الحاوي، أحمد طه أحمد، الانتظار، جرس المدرسة، نجع حمادي، ضفادع البيت الصغير، أمي، اللص الافتراضي، شقة جديدة، كرة شراب، فرطوش، بيت جديد، شونة الملح، بقايا دولة شيخ العرب، قلم حبر، مربى الجزر، جنازة أم كلثوم، عبد الحليم مات، اكتب بخط الرقعة، خطاب في الكنيست، افتح شبابيك على العالم، معايش يا حاج، اعلم يا أبت أن الأسرة كالخيمة، جدتي الصعيدية، صيد السمك، أبلة نظيرة، حصاد القصب، النورج، حب على راس سيدك، هدف بيبو، رخصتي يا دنيا الغالي، جون لوك، هيوم، نيللي، الليلة الكبيرة، الأبطال، ابن المأمور، المُعلم المثالي، كاريمان، جيلان، حمادة سلطان، أحمد غانم، الساحرة، الرجل الأخضر، مهمة مستحيلة، وصوت رخيم يردد بلا توقف: جود نايت... جود نايت... جود نايت".

لمعظم هذه التفصيلات الصغيرة قصة تطول أو تقصر في حياة محمود عبد الشكور لكنها على خصوصيتها محملة بالدلالات على تغير الاجتماعي والعام في هذه الفترة. منذ بداية الحكي في الكتاب، لا أعرف لماذا اعتبرته جدي، ربما بسبب الطيبة والدعة التي وصلتني من سرده الممتع.

ولد عبد الشكور عام 1965 ويحكي فترة صباه حتى نهاية السبعينيات وقليلا من الثمانينيات. يعكس عبد الشكور "كصبي" خطاب الدولة الرسمي بامتياز كمواطن نموذجي، يفرح لأفراحها كما يصف الفرحة الاستثنائية بعد حرب 1973 ويحزن لأحزانها كما يصف الحزن الطاغي بعد موت جمال عبد الناصر. وفي أحداث أصغر من هذه، الفرحة والحزن يسيران مع الدولة في خط واحد.

لدى عبد الشكور ذاكرة بصرية هائلة، كناقد سينما بالأساس فهو لديه مخزون مبهر من التليفزيون والسينما والمسرح والإعلانات والمقالات وخاصة فن الكاريكاتير وهو بعد في سن صغيرة، وبجانب ذلك فهو مثلا يتذكر شكل تمساح على ما أظن على موسي حلاقة، يذكرني بمحيي الدين اللباد عندما كان يتذكر أيضا رسوما من صباه على علبة الكبريت السويسرية. أعجب بالذاكرتين لأني من جيل لا وقت فيه للتأمل البطيء. كذلك ذاكرته السمعية مدهشة فجيله تربي بشكل كبير على برامج الراديو ومحطات الإذاعة، فيذكر الأغاني الوطنية بمناسباتها وأغاني الإعلانات وعلاقتها بالتغير الاجتماعي وأغاني الفولكلور والسيرة الهلالية حتى الأغاني التي كان يرددها الأطفال في ألعابهم.

في بداية الكتاب يأخذني السرد فأحس كأني في فيلم بيروت الغربية لزياد دويري، حيث تفاصيل كثيرة كثيفة عن المكان الذي يتحول وسط أحداث ضخمة محلية وعالمية. أستريح قليلا من القراءة فأقرأ على غلاف الكتاب "سيرة ثقافية واجتماعية" وينجح عبد الشكور في ذلك تماما ـوأصاب أنا بقليل من الإحباط- عندما أتقدم أكثر في الكتاب حيث تخفت النبرة الذاتية أو تظهر كخلفية بتعليقات موجزة على الأحداث الثقافية والاجتماعية والسياسية. يتخلى أكثر عن الذاتي لصالح العام فمثلا لا يذكر أول علاقة حب في ما عدا أنه ذكر باقتضاب عند دخوله المدرسة الإعدادية، حيث بداية الاختلاط بين الجنسين، كانت هناك بنت واحدة جميلة تشبه ليلى حمادة. وتمنيت فعلا لو امتدت السرد الشخصي لأن الكتاب به تفاصيل كثيرة عن الصعيد والدلتا/ القرية والمدينة لم أرها في كثير من الأعمال الفنية لهذه الفترة.

يعود والده من الصعيد للعاصمة بعد سنوات طويلة فيسأله عبد الشكور عن المدينة الكبيرة فيقول: "ماعرفتش البلد! كل حاجة فيها اتغيرت، الشوارع والمحلات والناس. مفيش لافتة شقة للإيجار، وسواقين التاكسي بقيوا بلطجية".

هكذا يصف والده القاهرة بعد الانفتاح، يرصد عبد الشكور التغير على عدة محاور، فمثلا هناك تغير الريف الذي لم يبق من ملامحه الحقيقية إلا القليل ولم يعد الريف مرادفا للطبيعة، بعد أن اختفت أدواته البدائية لصالح الكهرباء وغزو الإعلانات والسلع الاستهلاكية فكوكاكولا التي كانت تستخدم لغرض طبي في حالات استثنائية أصبحت الآن تملأ المناسبات والأفراح، أو نلمح مثلا ظهور "مهندسين سوفييت" في نجع حمادي.

ثم هناك تغير المدينة الكبيرة والذي يرويه عبد الشكور بعدة أشكال، سواء في الفن أو السياسة من خلال التيمة الرئيسية التي ظهرت مرات عديدة في الكتاب، وهي صعود الجماعات الإسلامية في مقابل تراجع وانحسار اليسار من الشارع، وفي صورة جماعية معبرة يظهر والد محمود عبد الشكور في منتصف الخمسينيات بقسم الفلسفة جامعة القاهرة هو ومجموعة من زملائه وزميلاته، تصلك روحهم الودية وابتسامتهم الكبيرة، ترتدي الفتيات جميعًا "جيب طويلة" ولا يرتدين الحجاب والذي اعتمد عليه عبد الشكور كإحدى ظواهر التغير الاجتماعي في السبعينيات.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل