المحتوى الرئيسى

عمرو فاروق يكتب: هل حُفِظَ الذكر؟ تداعيات تفاوت فهم القرآن | ساسة بوست

04/02 12:51

منذ 41 دقيقة، 2 أبريل,2016

نزلت في الصحابة آيات ففهموها في حدود معارفهم وعندما اكتشفنا دلالات علمية لها فسرناها بشكل مختلف. فمن منا المخطئ؟

التزم غالبية المسلمين بالحجاب وتركه بعضهم اعتمادًا على تفسير مختلف لنفس الآية! فأيهم المحق؟

نزل الله الذكر ووعد له بالحفظ، فهل لا يمتد الحفظ إلى توحيد فهم معاني الآيات لكي يتحقق وصول الرسالة؟

ألم يكن من الممكن أن يُصاغ القرآن بألفاظ منضبطة المعنى لا مجال فيها للبس مثلما يوجد في العلوم؟

لقد تصدى القرآن لمهمة صعبة جدًّا لم ينجح إنسان فيها في تاريخ الإنسانية وهي إنشاء نص واحد يعبر عن «الحقيقة» ويفهمه كل البشر في كل الأزمنة بشكل «صحيح». سنناقش البدائل المتاحة لصياغة نص منضبط عن طريق مقارنة المنهج القرآني بالمناهج العلمية الحديثة في فهم الحقيقة وضبط ألفاظها. وهي قضية من الثراء بحيث لا يمكن مناقشة جوانبها في مقال من صفحتين بل سنسترسل في هذا على عدة مقالات حتى نصل لصورة متكاملة في نهايتها.

فالقرآن ليس الوحيد الذي تصدى لهذا الأمر. بل إن العلوم واللغات نفسها حاولت وفشلت في الإشارة إلى معنى منضبط. فالإنسان اخترع اللغات وعكف على تطويرها طوال التاريخ أملًا في صياغة ألفاظ يمكنها أن تعني للآخرين ما تعني له. ولكن سرعان ما ظهر فشل اللغة في الإشارة لمعانٍ مجردة مثل «الصداقة». فكلما تلونا اللفظ استدعى كل منا معنى مختلفًا عن الصداقة لا يتطابق مع الآخر. ومع الوقت ظهر أن الاختلاف يضرب في عمق اللغة نفسها ولا يقتصر على المعاني المجردة، فعندما بدأ العلماء في دراسة الحياة كان لابد لهم من استخدام ألفاظ منضبطة بحيث يشير اللفظ الواحد لمعنى محدد وقابل للقياس بنفس الدقة لدى كل مستخدميه سواءً علماء أو مهنيين، ولا يتغير بتغير الثقافة ولا البلد ولا الزمن. ولكنهم اصطدموا بأنه حتى الكلمة والتي تبدو بسيطة ومباشرة مثل «كلب» هي اختزال غير صادق لواقع معقد ومتنوع.

فأنت قد تطلق كلمة «كلب» على مخلوقين مختلفين تمامًا عن بعضهما أحدهما في حجم عروسة الأطفال لا يتعدى عشرة سنتيمترات طولًا ولا ١٢٥ جرام وزنًا، والآخر في حجم دراجة نارية ضخمة طوله ٢.٥ متر ووزنه ١٥٥ كيلوجرام. وبيولوجيًّا هما مختلفان عن بعضهما تمامًا في الحجم والشكل واللون والوزن والصوت والتطور العقلي وبالتالي فسلوكيا هم كائنات مغايرة تمامًا. فالاسم في حد ذاته لا يعبر عن حقيقة أي منهما. الأكثر من هذا أنك عند حد معين من تنوع الكلاب تقرر أن تنهي استعمال لفظ كلب، وتبدأ في استخدام لفظ ذئب، بالرغم من أن التشابه بين الذئب وما جاوره من أصناف الكلاب يقترب من التطابق. بل وتتزاوج مع بعضها بسهولة (وهي صفة مهمة للتفرقة بين الفصائل). ولكننا قررنا أنه عند هذا الحد تنتهي دلالة لفظ «كلب» وتبدأ حدود لفظ «ذئب». فما معنى كلمة كلب وما حدود تعبيرها عن الحقيقة؟ ولماذا يجب أن يضيق التعميم فلا يحتوي على الذئب؟

بالطبع لا يمكن أن يمتد اللفظ للأبد ليحتوي على كل شيء. فلا بد لكل اسم من حدود ينتهي عندها. ولكن إذا كان الهدف من الاسم أن يشير إلى حقيقة الشيء فلماذا لم ننهِه مبكرًا قبل أن يتسع لدرجة أن يحتوي على مخلوقين مختلفين تماما عن بعضهم مثل الكلبين في الصورة؟

والسؤال الأكثر أهمية: إذا كنا سنضيق الاسم ليحتوي معنى أكثر اتساقاً، فإلى أي مدى يجب أن يضيق؟ فكل مخلوق هو حالة فريدة تختلف ولو قليلا عما قبلها ولا تتكرر مرة أخرى حتى بين أفراد العائلة الواحدة. فإن أخبرتني أن «هناك عشرة كلاب في الحديقة» فهذا لا يعني أنهم تكرار حقيقي لبعض، فوزنهم لن يكون عشرة اضعاف وزن أحدهم، وهم لن يأكلوا عشرة أضعاف أحدهم، ولن يسببوا عشرة أضعاف الخطر أو السعادة التي يسببها أحدهم.

وبالرغم من هذا التفرد إلا أن جميع المخلوقات تصطف بشكل تدريجي عن بعضها لتكون سيالًا متصلًا من الخلق ليس له حواف قاطعة يبدأ عندها جنس وينتهي آخر. فلكل كائن حقيقة متفردة ولكن الحقائق كلها متواصلة تدريجيا مع الكائنات الأخرى.

بل إن العلماء استطاعوا حديثا أن يضعوا خريطة واحدة متصلة في صورة طيف واحد متصل يضم كل أجناس الأرض.

بل الأكثر من هذا فالعلماء وسَّعوا هذه الخريطة لتصبح حلقة واحدة في خريطة الموجودات. فخريطة الحياة الموجودة في الشكل تمتد جنوبا من ناحية لتتصل مع خريطة مماثلة للمواد وتمتد من الناحية الأخرى لتبدأ خريطة العقل والذي يسيل بدوره لينبع منه خريطة الاجتماعيات والثقافة.

فالوجود الفيزيائي وبرغم من تفرد مكوناته غير القابل للتكرار من مفردة لأخرى، إلا أنه متصل في وحدة واحدة تتدفق بشكل سائل لتشمل كل موجودات الكون في بحر هائل من المكان والزمان. وليس هناك حواف حادة بين بداية مفردة ونهاية أخرى.

لا حافة ينتهي عندها الأسود ويبدأ الأزرق.

لا حافة ينتهي فيها الطفل ويبدأ المراهق.

ولا حافة ينتهي فيها الحب ويبدأ الفتور.

بل إن الواقع نفسه سائل دائم الحركة والتعاقب. فلا توجد مفردة واحدة داخل الكون ستكون على ما هي عليه اللحظة القادمة. ولذلك كان اختراع الأسماء مهمًّا كوسيلة للإشارة لنطاق من المعنى. فهي تعتبر خريطة لمساحة ما من المعنى غير محددة الحواف.

لكن الأسماء «باعتبارها خرائط للمعنى» لديها معضلة أخرى فهي مثل أي خريطة تحاول أن تحقق هدفين متضادين عن بعضهما البعض. أن تغطي أكبر مساحة، وفي نفس الوقت تقدم أكبر قدر من المعلومات عن كل أجزائها. وكذلك فمن المفيد أن يشير الاسم إلى معنى عام ليمكن استخدامه في أكبر عدد من المواقف، مثل لفظي «جيد» و«سيء» والذي يستخدمهما الأطفال بكثافة لكل شيء تقريبا. ولكن من ناحية أخرى فمن المهم أن يشير الاسم إلى معنى دقيق ليرشدنا إلى ماهية المعنى، فيستبدل مثلا الأطفال لفظة «سيء» العامة بلفظة «مُرْ» الأقرب للحقيقة ولكن أضيق في استخداماتها.

فلكل اسم عمق ومساحة وتوسعك في إحداها سيكون على حساب الآخر فمثلاً:

«نبيل لم يكن يشرب الخمر أثناء مشاهدتي له»

فكلما زدت التعميم زادت المساحة التي تغطيها (فعدد أفراد المسلمين أكثر من المؤمنين) ولكن كلما زاد التعميم زاد الخطأ. فبعض المسلمين يشربون الخمر بالفعل. فإن أردت أن تزيد صحة الطرح ستضطر أن تزيد عمق الاسم وتقلل مساحته إلى «المؤمنين». ولكنه بالرغم من أن طرح «المؤمنين» أصح، إلا أنه غير صحيح. فبعض المؤمنين شربوا الخمر ثم تابوا واستقاموا على لفظ

مؤمنين. وبالتالي كلما أردت أن تزيد الطرح صحة ستتخلى عن مساحة المفردات التي يغطيها حتى تصل إلى أقصى درجة ممكنة من الصحة وهي الصحة الذاتية لفرد واحد في موقف واحد «نبيل، أثناء مشاهدتي له».

فالثمن الحقيقي للاقتراب من الحقيقة هو التضحية بالتعميم. فالحقيقة حالة شخصية متفردة لا تتكرر ولا تعمم. فالحقيقة السائلة إن حاولت أن تلتقط لها صورة وتوقف تدفقها للحظة فلن تعبر بشكل صادق إلا عن هذا الشيء في هذه اللحظة.

فالحقيقة ليس لها دلالة عامة تصلح للتعميم لكل الناس في كل المواقف، بل هي سائلة لا تستطيع أن تدرك إلا انعكاسها على فرد محدد في موقف محدد.

العجيب أنه بعد أن اقتربنا من الحقيقة إلى هذا الحد اكتشفنا أن الحقيقة ليست مفيدة لنا (إلا إذا كنا نهتم بنبيل نفسه).

فلم يكن أحد ليشتري كتاب لنيوتن إن كان عن «كم بلغت سرعة سقوط التفاحة على رأسي». ولم يكن سيشتري أحدهم كتاب فرويد «لماذا كانت امرأة اسمها ماري تحلم بالكوابيس». فنحن لا نهتم بالحقيقة ذاتها إن كانت حقيقة تفاحة لن تؤثر فيَّ، ولا نهتم للمرأة التي لن أقابلها. فنحن نهتم فقط بدلالة هذا علينا. نحن نهتم بالتعميم حتى وإن كان تقريبيًّا وغير دقيق لأنه مفيد. ولا نهتم بالحقيقة إلا إذا كانت حقيقة شخصية تنعكس علينا بشكل مباشر.

وبالتالي فنحن نريد من الأسماء أن تشير إلى أكبر مساحة لتكون مفيدة، ولكننا في نفس الوقت نريدها أن تقترب من الحقيقة لتكون صحيحة. وهنا تتضح مشكلة الأسماء فبينما الحقيقة سائلة تظل الأسماء عبارة عن أوانٍ جامدة. مثل قبضة يدي الطفل الذي يريد أن يباعدهما لتحتويا على أكبر قدر من المياه ليتوضأ فما إن تصل يداه إلى وجهه يجد أن الماء قد تفلت من يديه. وبالرغم من أن المياه تتدفق أمامه إلا أنه لا يفهم لماذا لا يستطيع احتواءه في كفيه الصغيرتين. فلا يجد الإنسان بدا في النهاية من أن يقترب بنفسه ليتعرض بشكل مباشر للحقيقة المتدفقة أمامه بدون قيد من الكلمات الضيقة.

فإن أردت مثلا أن تحتوي حقيقتي في أحد الأسماء ستجدني دائم التدفق خارجها. فإن صنفتني اليوم تحت أي اسم كاتب، صديق، أصولي، ليبرالي حي، ميت. فحتى لو كان تصنيفك صحيحًا اليوم. فأغلب الظن أنك ستجدني غدا قد غصت في عمق هذا المعنى أو طفوت إلى سطحه. بل قد تجدني قد انجرفت إلى معنى مغاير تماما. فمن المستبعد أن تظل نفس الشخص الذي عرفه أصدقاؤك أمس.

وبالرغم من أنه عادة ما يقتصر العلم على دراسة الحقيقة القابلة للتعميم. إلا أن الفرد يهتم بالحقيقة الشخصية له فهو لا يهتم أن تكون نسبة نجاح الجراحة ٩٠٪ بل يهتم بألا يكون هو من الـ١٠٪. نفس الترتيب تجده في العلوم الإسلامية. فعادة ما يهتم الفقهاء بالمعاني القابلة للتعميم . إلا أن الفرد يهتم بما هو صحيح له هو حتى وإن كان نادرًا أو متعلقًا بنيته أو اقتناعه فلا يمكن إثباته. إلا أن هناك بديلًا للتعميمات الجامدة بدأ في التكشف وهو أن تتعامل مع الحقيقة السائلة كما هي باستخدام الأفعال لا الأسماء. فالأفعال هي ألفاظ سائلة تحتوي داخلها على فكرة التعاقب والتدفق والتغير المستمر. فالفعل هو فيلم فيديو متحرك لا يعدك بإمكانية أي تعميم. بل يعدك بالتغير المستمر وتنوع الأحوال. وهو الحل الذي بدأ العلماء في التوسع في استخدامه حديثا بعد أن نضجت العلوم بما يكفي. وحاليا يعكف العلماء في كثير من المجالات على إعادة صياغة العلوم باستخدام الأفعال لا الأسماء كلبنات لبناء المعرفة (أي باستخدام العلوم الديناميكية وعلوم العمليات والسوبربوزيشن وعلوم التعقيد كما سنوضح هذا تفصيلا في المقالات القادمة إن شاء الله).

وهناك تشابه كبير بين المنهج الإسلامي في الحكم على الواقع وبين المنهجيات العلمية المبنية على الحقيقة السائلة. فتجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يستخدم الأفعال لا الأسماء ليعيد صياغة الطرح الذي ناقشناه بشكل منضبط تمامًا مع الحقيقة السائلة للكون. ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن».

هنا فالرسول صلى الله عليه وسلم كثيرا ما استخدم الأفعال ليصور الواقع كسيال متحرك ليس فيه قرار، فاسم «مؤمن» ليس له وجود دائم وملازم ولكنه حال عارض. تجميد للقطة من الحياة والحكم على أحوال موجوداتها ثم إعادة التشغيل مرة أخرى. ولا يعني أن أيًّا من هذه الأحوال له وجود دائم أو مستقل عن اللحظة نفسها.

فالإسلام كثيرًا ما يحذرك أنك في أحوال ليس لها دوام. فلا يوجد سارق أو قاتل أو كاذب أو صادق في الحقيقة. ولكن هناك من يكذب ويصدق ويقتل ويسرق. وهي أحوال يمكنهم مغادرتها في أي وقت بمجرد تغيير الفعل في المشهد المقبل. ويصف رسول الله تدفق الأفعال المتصل وتعاقب الأحوال بشكل رائع «إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقًا وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا» متفق عليه.

بل يضرب لنا الله عز وجل مثالًا عجيبًا مع نوح عليه السلام يضعه بين يدينا لنتعلم كلنا كيف يربي الله عز وجل الأنبياء أنفسهم على رؤية الواقع: «وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)» سورة هود.

فنوح عليه السلام استخدم أسماء مقامية «إن ابني من أهلي» فرد على الله عز وجل ردًا عجيبًا فنفى المقام «إنه ليس من أهلك»، واستبدله بفعل «إنه عمل غير صالح» فنبه الله عز وجل نبيه أن يرى أن الأهل هو حال مكتسب وليس مقامًا لازمًا ولا رتبة أصيلة تلازم الإنسان لمجرد حدوث البنوة البيولوجية. ثم أعقب الله عز وجل بوعظ نوح الا يكون من الجاهلين فيخلط بين الحال العارض والمقام.

وأخيرًا هل فعلا اللغة بهذا القصور؟ كيف يمكن أن تتأثر علوم موضوعية مثل الفيزياء والرياضيات بقصور اللغة؟ وهل نعيش في واقع عدمي ليس فيه معنى ثابت ولكل منا أن يفهم الحياة كما يشاء؟ أم أن هناك حقيقة ثابتة يمكن استشرافها ولكن تتخطى قدراتنا الإدراكية واللغوية؟ ولهذا حديث آخر.

لقراءة علمية أكثر انضباطا لهذا المقال برجاء إعادة قراءة هذا المقال مع استبدال هذه الكلمات ببعضها:

عمق الاسم = Construct Validity

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل