المحتوى الرئيسى

محمود عبد الحميد يكتب: سم العقرب.. محاكمة عسكرية، والإسكندراني الذي خذلناه

04/02 10:39

العقرب حيوان لا فقاري يتميز بلدغته السامة التي قد تسبب لدغة بعض أنواعه موت إنسان بالغ، لكننا هنا لا نتحدث عن حيوان يمكن ببعض الحذر أن نتجنب لدغته السامة، بل نتحدث عن عقرب أشد فتكا يفتك بالأرواح قبل فتكه بالأجساد، سمه ليس له ترياق.. عقربنا من المفترض أنه سجن شديد الحراسة للمجرمين معتادي الإجرام، لكنه في الحقيقة طريقة بطيئة للقتل لمعارضي الدولة التي تريد أن تُنكل بهم.

لن أتحدث عن الانتهاكات التي تحدث في العقرب، فهناك من هم أقدر مني تحدثوا في هذا الأمر بالفعل، لكنني فقط سأتحدث عن أحد ضحايا سم العقرب الفتاك.

عمرو ربيع.. طالب بكلية هندسة القاهرة، زميلي في الدفعة سابقا، معتقل حاليا بسجن العقرب بعد اختفائه يوم 11 مارس 2014 لمدة سبعين يوما لدى إحدى الجهات الأمنية، متهم بانتمائه لتنظيم “أنصار بيت المقدس”.

عمرو تعرض للتعذيب بسجن العازولي في فترة اختفائه، قبل أن ينُقل لسجن العقرب ويتم التنكيل به هناك بكل الصور.. تم نقله لزنزانة التأديب عدة مرات، توفى والده وهو معتقل، ولم يستطع أن يودعه الوداع الأخير.. يتم التضييق عليه فلا يسمح له باستلام المذكرات الخاصة بالمواد التي يدرسها في كلية هندسة.. عدة مرات يتم منع والدته من زيارته.

هذا جزء مما يتعرض له عمرو، لن أتحدث عن براءة عمرو هنا – رغم ثقتي في أنه برئ – لكنني فقط اتساءل لماذا يتعرض لكل هذا حتى لو أنه مُجرم كما تزعمون، في حالة أنه ارتكب الاتهامات المنسوبة إليه فعلا، لا يجوز أبدا أن يتعرض لكل هذا.. لماذا يجب على والدته أن تستيقظ كل يوم وهي تقرأ عن الانتهاكات التي يتعرض لها المساجين بالعقرب دون أن تستطيع أن تطمئن على عمرو.. لماذا كل هذا التنكيل بعمرو وغيره الكثيرون؟!

مشكلتنا معكم ليس في ثقتنا أن عمرو برئ.. مشكلتنا في أنه لا يحصل على حقوقه التي كفلها له القانون كمتهم، مشكلتنا أنه لا إنسانية لديكم.. لا نأمن على المعتقلين بين أيديكم.. كيف نطمئن للأحكام التي تصدرونها، بينما نحن نرى الانتهاكات التي يتعرض لها المعتقلون يوميا؟! كيف نطمئن لمنظومة القضاء والقضاة، بينما يوجد سجون مميتة مثل سجن العقرب تحت أعين رجال القانون، دون أن يتحركوا لإغلاق هذه المقابر؟!

“حلم 492: هذا هو الأمير توت عنخ آمون ينسلخ من مستقره كمومياء ليسير في شوارع القاهرة بعد منتصف الليل، وإذا بقوة من الشرطة تحيط به وتمضي إلى المعتقل، ولكنه يفلت منهم بطريقة سحرية ويعود إلى مستقره كمومياء، ولكن إدارة الأمن أعلنت أنها قبضت على مفجر القنبلة وأنه اعترف ودلهم على الخلية التي يعمل بها، فقبضوا عليها والتحقيق مستمر”.. نجيب محفوظ – الأحلام الأخيرة

حسنا أكره الإخوان المسلمين، للدقة أكره تنظيم الإخوان المسلمين عندما يتحرك ككتلة واحدة، وليس الأفراد الذين ينتمون له.. أكره كل ما يمثله هذا التنظيم من غباء وعنجهية.

ربما يختلف معي البعض في هذا، ربما أنا أتحامل عليهم، لكنني لو لا أملك من أسباب الكراهية سوى ما فعلوه من دعمهم للمحاكمات العسكرية في دستورهم الساقط وتدليسهم أن هذا انتصار للثورة، لكفاني هذا.

محمد فوزي زميل آخر سابق لي، صديق لأصدقائي، ينتظر حكما بالإعدام بعد أن تمت إحالة أوراقه للمفتي في قضية منظورة أمام القضاء العسكري، معلومة بسيطة جدا، وصادمة!

في العام 2012 عندما كنت أؤيد حملة لا للمحاكمات العسكرية، لم أكن أتخيل أن كل هذا سيحدث، كنت أعرف شر المحاكمات العسكرية، لكنني لم أكن أتخيل أن يصل الأمر لإعدامات، فضلا عن أن يكون هذا الإعدام لشخص موجود في دائرة معارفي، كان أقصى ما أتخيله هو أحكام مشددة بالسجن مثلما اعتاد النظام أن يفعل دوما.

ربما هؤلاء الحمقي الذين اكن لهم كل الكراهية، الذين سقط دستورهم لكنهم كانوا شريكا أساسي في دسترة تلك المحاكمات – مثلهم مثل واضعي دستور 2014 – لم  يكونوا يتخيلون هذا أيضا، لكن لم يكن هناك حاجة لهم لدعم الظلم، خاصة أنهم تعرضوا للظلم بنفس الطريقة من قبل، ولسخرية القدر يتعرضون له ثانية الآن.. الآن في العام 2016 تتحول المحاكمات العسكرية لموضوع شخصي يصيب معارفي، والخيال الذي لم أفكر فيه يصبح حقيقة.

لن ادافع عن محمد فوزي لأنه صديق لأصدقائي، لن ادافع عنه لأنه “مهندس مش بلطجي”، لكنني ادافع عن حقه في محاكمة عادلة، أثق أنها لم تتوفر له، ادافع عن حقه في محاكمة أمام قاض مدني، مثلما كنت ادافع عن آخرين تعرضوا لظلم المحاكمات العسكرية، لكنني الآن اعرف ظلمها أكثر من أي وقت مضى.. ادافع عنه لأنني اعرف كيف تحصلوا منه على الاعتراف بأنه عضو خلية إرهابية تقوم بتصنيع القنابل، فنجيب محفوظ ذاته بصورة ساخرة أخبرنا أنهم ربما لو اعتقلوا توت عنخ آمون ذاته، سيتهمونه بأنه شريك في العمليات الإرهابية، هكذا الأمور تجرى دوما في هذا البلد التعيس.

اعرف أنه إذا لا قدر الله نفذ هذا الحكم، لن تتوقف الحياة، فالآلاف اريقت دماؤهم، واستمرت الحياة في هذا البلد الملعون، لكنني اعرف أن كل هذا الظلم سيكون لعنة أخرى ستصيبنا.

الحرية لـ فوزي.. الحرية للشخص الذي كان من الممكن أن نكون أصدقاء مستقبلا، لولا أنه يقبع في السجن الآن.. الحرية للخصم السياسي الذي كنا سنتنافس انتخابيا في عالم آخر أقل قبحا.

“حلم 234: رأيتني صاحب مزرعة كبيرة أنشأت بها قرية حديثة فيها ماء نقى وكهرباء، وفي القرية أيضًا وحدة صحية ووحدة تعليمية ومسجد وكنيسة، وضاعفت أجور العاملين، وإذا بمأمور المركز يقول لي: أنت متهم بالفوضوية وإحراج الملاك من حولك وتحريض الفلاحين الأبرياء على التمرد “.. نجيب محفوظ – الأحلام الأخيرة

“تابع إسماعيل الإسكندراني طبعا”، هكذا كنت أجيب كل من يسألني ماذا يحدث في سيناء، إسماعيل الذي كنت أجد أن لقب إسماعيل السيناوي يليق به أكثر، رغم أصوله السكندرية التي يفخر بها.. لم أكن متابعا لأخبار سيناء، لم أكن أعرف ماذا يحدث هناك.. لم أكن اهتم مثل كثير من أبناء وادي النيل، كانت علاقتنا بسيناء هو أنها الأرض التي رجعت لنا ثانية، بعد أن انتصرنا على إسرائيل، وبها توجد شواطئ جميلة تصلح لإجازة بعد فترة عمل مرهقة.

هكذا كان الأمر، إلى أن تابعت الإسكندراني لأول مرة.. كان إسماعيل خبيرا بأرض سيناء.. منه عرفت سيناء عن قرب لأول مرة، عرفت قبائلها المختلفة، مدنها وعادات أهلها.. عرفت معلومات عن الصراع الدائر هناك، وتقارير مميزة عن الجهاديين وأنصار بيت المقدس، وتتبع لتطور نشاطهم الجهادي حتى بايعوا الدواعش الملاعيين.. الآن كل هذا انتهى، فـ إسماعيل يقبع في السجن منذ أواخر نوفمبر الماضي، ويواجه اتهامات بالانتماء لجماعة الإخوان المسلمين!

الرجل الذي كان يدخل في الجدال تلو الجدال ضد أفكار جماعة الإخوان، الرجل الذي كان ينُظر دوما لطرق مواجهة الجماعات الجهادية وكيف يمكننا أن نهزم أفكارها وندحضها، معتقل بسبب أن البعض يرى أنه ينتمي لجماعة الإخوان!

الأمر مضحك ومثير للرثاء في ذات الوقت.. كنت اتصور دوما أنه في حال انتصار الثورة، سنجد إسماعيل باحثا مميزا بأحد مراكز البحوث التي تستعين بها دوائر الحكم لوضع استراتجيتها الخاصة لمواجهة مشكلات سيناء، وكيفية القضاء على خطر الفكر التكفيري، لكن بدلا من هذا، نجد إسماعيل في أحد السجون!

بعد أن قُبض على إسماعيل، لم يحظ بالدعم الكافي من النشطاء، لأول مرة أصدق الهمسات التي تتحدث عن أنه توجد “شللية” بين هؤلاء الناشطين، لهذا لم يحظ إسماعيل بهذا الدعم، لأنه لا ينتمي لـ “شلة”، لكن الدعم الذي جاء له كان باهتا.

أقدر جهود هؤلاء النشطاء في الكتابة عن الكثير من المعتقلين، وإلقاء الضوء على محنتهم، لكنهم خيبوا أملي في قضية إسماعيل الإسكندراني، فربما لو أن الدعم كان أكثر قوة، لكان إسماعيل حرا الآن.

الآن توارت محنة سجن إسماعيل في الخلفية، مثل آلاف المعتقلين، لكن اتمنى ألا يظل وراء القضبان كثيرا، فالجميع يفتقده بشخصيته المثابرة، وعمله الصحفي الممتاز، وتحليلاته العبقرية.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل