المحتوى الرئيسى

ظلال الفرعونية وتحديات الديمقراطية فى مصر

04/01 16:09

اقرأ أيضا: مقاطع من ملحمة كامب دايفيد مبادرة حرمة الدماء المصرية المجتمع المصرى والإدارة الأهلية وتجاوز الدولة العتيقة نحو قانون دولى إفريقى للمياه مصر.. للخلف در!!

الفرعونية مصطلح يقصد به تجبر الحاكم واستبداده حتى شاع فى الأمثال الشعبية: "يا فرعون مين فرعنك قال ألم أجد من يتصدى لى ويلزمنى حدى". هذا المثل يعكس حقيقتين ، هما أن الفرعون هو من تجاوز الحدود، وأن هذا الفرعون لا يوجد معارض له فانفرد بالحياة والموت، بالدنيا والأخرة، وحاز السلطة المطلقة ولذلك بلغ به الأمر إلى ادعاء الألوهية. وأظن أن هذه ظاهرة انفرد بها التاريخ المصرى القديم. وقصة الفلاح المصرى الفصيح تكشف لنا عن أن الفرعون الإله لم يكن يعتقد أن رعيته من الأفراد بشر، وظنهم قبل هذه القصة أنعاما أو أشياء أى لاقيمة لهم. كشف تاريخ مصر القديمة أيضا عن أن الفرعون الإله أدرك أن العدل وبناء الحضارة هى من سمات الآلهة فألزم نفسه بالعدل والقيم العليا. والثابت فى التاريخ المصرى القديم أن المصريين اتخذوا من العديد من الأشياء كالظواهر الطبيعية وبعض الحيوانات آلهة،ولم يعبدوا الأوثان. وتشير اتفاقية قادش، أول اتفاقية مكتوبة فى التاريخ الإنسانى كما أكد البروفيسور شوارزنبرحر فى كتابه The dynamics of international law نشر فى لندن عام 1976، أن فرعون مصر رمسيس الثالث بعد أن هزم الحيثيين أجداد الأتراك فى آسيا الصغرى وقع اتفاقية قادش مع حاتوسيل الثالث ملك الحيثيين وأشهد على نفسه وتوقيعه 3500 من كبار آلهة المصريين كضمان أن الملك المصرى سوف يحترم ويطبق هذه المعاهدة.مؤدى ذلك أنه فى المرحلة المتأخرة من التاريخ المصرى  بدأ المصريون يضفون القداسة بفعل الكهنة على الملوك. وكان الملك الإله يحتكر الحكم والدين معا مما أورثنا الخصائص الخمس الخطيرة الآتية فى علاقة الحاكم بالمحكوم:

الخصيصة الأولى، هى أن ألوهية الفرعون حسبما كشف الحوار بين الفرعون وموسى ألوهية سياسية بعد أن ضيق عليه موسى فى الحوار وأدرك الفرعون ما يعرفه جيدا وهو أن هناك إلها حقا لهذا الكون كله وأنه يتشبه بالإله فى مطلق سلطته. وللألوهية السياسية تقاليد فى مصر وهى أن المصريين لا يعبدون الفرعون وإنما يسلمون له فى كل شئ، وقال لهم أن موسى أجنبى جاء ليصرفكم عن طريقتكم المثلى، وأنه لا إله لكم غيرى، وأننى إله بدليل أن لى ملك مصر وهى معظم العالم المعمور فى ذلك الوقت وهذه الأنهار تجرى من تحتى، وأنهم لا يعملون إلا بأمره ورأيه وأنهم يعتمدون عليه كما يعتمد الإنسان على الله عندما يبذر الحب فى الأرض ثم يسعى لإرضاء الإله حتى يخرج الزرع.

الخصيصة الثانية، هى أن استسلام المصريين لملكهم بنى على أساس أنه إله، وأنه يعطف عليهم ويرعاهم وأن فكرة الألوهية نموذج سياسى خاص نسجه المصريون. فإذا كان القرآن قد أخبرنا أنهم فضلوا فرعون على موسى ولم يستمعوا له، فإن هذا يحتاج إلى تحليل. ذلك أن القرآن يقول فاستخف قومه فأطاعوه، فيكشف بذلك عن حالة التسليم وعدم استخدام العقل مادام الإله يعقل كل شئ فى الحكم والدين، فحذرهم فرعون من موسى "الساحر" وكانوا يستخفون به بهذا اللقب "يا أيها الساحر أدع لنا ربك" ثم أنه غريب من بنى إسرائيل، ثم أنه تربى فى بيت الملك ثم خرج على سيده الذى رباه بإدعاء أنه نبى إله آخر كما قال فرعون، ويريد أن يتآمر على قلب نظام الحكم بمؤامرة موسى. وعبر القرآن عن ذلك على لسان فرعون بأن موسى هو كبير السحرة الذى اختبأ مدة ثم ظهر يدعي النبوة ويبشر باله آخر وأن تمثيليته يوم الزينة هى التى كشفت الرابطة السرية بينه وبين السحرة الذين تظاهروا كما يرى فرعون بأنهم ينصرون فرعون على هذا الدعى الباغي، ولم لا وموسى كان مصريا ويعرف، كالمصرين فنون السحر، وأن عصاه التى سحرت الجميع هى بسبب أنه تربى وتعلم السحر فى بيت الملك على يد كبار السحرة.     

الخصيصة الثالثة، أن العامة هم الجمهور الذى شهد معركة السحر بين موسى والسحرة، ولذلك كان من الخطورة أن يهزم السحرة وأن يؤمنوا برب موسى وهارون، ولذلك لجأ فرعون إلى أقصى تهديد ونفذه بأن قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ولكنهم استخفوا بالعقوبة وقالوا اقض ما أنت قاض إنما هذه الحياة الدنيا وهم على ثقة بأن موسى نبى الله وأن فرعون يدعى الأولوهية. ولذلك حذر فرعون الجمهور فى هذه المنازلة الخطيرة التى تدور حول الاساس السياسى لشرعية حكمه، فإن زالت عنه صفة الألوهية سقط فى أعين الناس الذين استسلموا تماما ولم يصدقوا موسى الذى قال عنه فرعون إنه جاء ليفسد عليهم حياتهم المثالية وهى طبيعة العلاقة بين الشعب والملك الإله. كان طبيعيا  فى ذلك الزمان أن ينكر المصريون نبى الإله الجديد أسوة بكل الشعوب الأخرى التى جاءهم رسل الله وأنبياؤه، لكن المصريين تميزوا فى القرآن بالاستسلام لملكهم وعطلوا عقولهم فلم يستمعوا إلى موسى مادام الملك الإله يوفر لهم الحياة الكريمة ويتسم بالعدل. ولم يجد موسى نقائص دنيوية فى فرعون حتى ينزع ثقة المصريين فى ملكهم، وما كان له ذلك، لأنه لم ينازعه فى ملكه وإنما نازعه فى ألوهيته التى حكم بها الناس من دون الله. ولذلك فزع فرعون خوفا من انصراف العامة وسقوطه فى نظرهم مادامت المهارة فى السحر هى مفصل المعضلة فى النهاية، فمن ينتصر على الآخرة فى السحر رجحت كفته وهلك الآخر. ولو كان موسى قد هزم لذبح أمام الناس وألصقت به تهم التآمر الخارجى والحسد والغل خاصة وأن موسى ينتمى إلى بنى إسرائيل الذين كانوا قد جلبوا إلى مصر منذ أيام يوسف عليه السلام، ولضاعت معه رسالته، لولا أن الله زوده بأدوات المنعة، وكان الله معه ومع أخيه هارون "يسمع ويرى" ثم أنه سبحانه صنع موسى على "عينه" فلم يترك ثغرة يسقط منها موسى فى هذا الاختبار الدقيق.

الخصيصة الرابعة: أن استسلام المصريين للملك الإله فى كل شئ أعماهم عن أن يفكروا لأن فرعون صادر العقل وهو أداة التمييز بين الحق والباطل ولذلك ذمهم القرآن الكريم بأنه كلما استخف بهم فرعون ازدادوا تعلقا به، ووصفهم القرآن بأنهم قوم فاسقون وتولى عقابهم على التفصيل الذى حفلت به قصة موسى والتى توزعت بين أكثر من ثمانى سور فى القرآن الكريم.

الخصيصة الخامسة: مؤدى ذلك أنه لا تزال أثر الفرعونية وخصائصها عالقة فى علاقة الحاكم بالمحكوم حتى الآن، وذلك في الصور الثمانية الآتية:

أولا: أن المواطن لا قيمة له فى نظر الحاكم وأنه يسعى إلى أن يستسلم المواطن لأقداره مع الحاكم، بالتدليس والإفقار والوعود والاستخفاف، رغم الفارق الهائل بين أسباب استسلام المصريين لفرعونهم القديم الذى شيد حضارة يعتز بها المحدثون وبين الفرعون الحديث الذى يهدر هذه الحضارة حتى ظن الناس أن لاصلة بين مصر الفرعونية ومصر الأخرى الراهنة.

ثانياً: أن المصرى لا يزال يحمل بقايا قدسية الحاكم وشيئا من الخضوع لألوهيته، ولذلك يصعب علي المصرى أن يتحدي حاكمه خاصة وأن فقهاء السلطان المسلمين قد بنوا على الفرعونية بفرعونية إسلامية وهى أن الحاكم هو ولى الله الذى تجب طاعته فى المنشط والمكره ولا يجوز الخروج عليه حتى لو ضرب أعناق الناس، مع العلم أن الإسلام الحق ربط بين طاعة الحاكم وبين أن يراعى الحاكم الله فى رعيته "فلا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق" وهو عين ما فعل المصريون القدماء مع فرعون وموسى. ووضع الخلفاء الراشدون القاعدة: لقد وليت عليكم ولست بخيركم، أطيعونى ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لى عليكم.

ثالثاً: فإذا كان المحكوم فرعونيا لا يسيغ الثورة على الحاكم الظالم فى العصر الحديث، فإنه لا يصلح إلا لمعارضته المستأنسة كما فعل السادات بوضوح . فلا الحاكم مؤهل للحكم الرشيد كما لا يتحمل المعارضة، ولا المحكوم مستعد ومؤهل للمعارضة السليمة لحاكم لا يجيد فنون الحكم الرشيد الديمقراطى.

رابعاً: تحالفت الفرعونية القديمة مع الفرعونية الإسلامية التى أرساها المنتفعون المتاجرون بالدين من فقهاء السلطان وغيرهم لكى تقف عثرة فى الثقافة السياسية المصرية فى فقه الثورة والحكم الديمقراطى. ولذلك لم يكن غريبا أن يعبث الحاكم الذى أخذ من فرعون الاستبداد دون بناء الحضارة والعدل، كما لم يكن غريبا أن يطمئن هذا الحاكم إلى هذا البعد التاريخى والثقافى، كما بادر فقهاؤه وحواريوه إلى تحصينه ومهاجمة كل من يثور أو يتجرأ عليه.

خامساً: لهذا السبب التبس عند الناس الصواب والخطأ، والأساس الدينى والأساس الثقافى التاريخى خاصة وأن الحكام عبر العصور أدركوا أن الشعب لن يكون طرفا فى معادلة الحكم والثروة وأنه لابد من تخديره وتجهيله وقهره حتى يسهل حكمه، وأن يتعلق بصره ويعتمد دائماعلي السلطة فى كل شئ ، خاصة بسبب الطابع النهري في حياة المصريين كما يقول جمال حمدان.

سادساً: أن ثقافة المصريين وتربيتهم لا تسمح بالحرية من أى نوع. فالطفل يظل معتمدا على ثدى أمه أكثر من عامين ثم تظل أمه تحدد له ما يأكل ومايرى وما يقول، ولا تدربه على الموقف عندما تتنوع مصادر ومواد معرفته وأيها يأخذ  ويدع، ثم تولي نظام التعليم والتلقين تكريس هذه الخاصية.

ولذلك، فإن الحديث عن الحرية والديمقواطية دون إعداد تصور شامل للطفل منذ ولادته لثقافة شاملة وحدود الحرية وأساليب الحوار وطرق الاختلاف والاعتراض، هو لغو وفتح لمعارك جانبية وليس من مصلحة الحاكم ولا زبانيته أن يغادر المصريون فرعونيتهم المركبة: القديمة والإسلامية.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل