المحتوى الرئيسى

ديزنى بالعربى

04/01 13:52

لا أتكلم هنا عن الواقع الكوميدى الذى نعيشه فى مجتمعاتنا العربية، والذى فاق فى هزليته أفلام الكارتون ولم يعد يختلف عنها سوى فى مرارته، التى تثير الكآبة وتمزج الضحك بالأسى. أنا أتكلم بالفعل عن أفلام كارتون والت ديزنى التى اعتاد الفنانون المصريون تقديمها لأطفالنا فى المنطقة العربية بأكملها بعد تمصيرها بلهجتنا العامية الثرية خفيفة الظل، ثم توقف ذلك التقليد لسبب سنعرض احتمالاته فيما بعد، وبدأت شركات التوزيع فى فرض اللغة العربية الفصحى على استوديوهات وبيوت الإنتاج المتخصصة التى تقوم كوادرها الفنية بإعداد النسخ العربية من تلك الأفلام، بل وقامت فى خطوة لاحقة بإعادة إنتاج النسخ القديمة التى سبق إعدادها بالعامية المصرية وتقديمها مرة أخرى بالفصحى. تعددت التفاسير التى تناولها محبو ديزنى بالعامية المصرية، وكان أكثرها حدة أن ذلك القرار تم اتخاذه كموقف عدائى من الثقافة المصرية. أما أكثرها عقلانية إنه كان قرارًا يتعلق بتلبية رغبة القنوات الفضائية التى تمثل أهم عميل لشركات التوزيع. على أية حال يمكن لنا مناقشة تلك القضية بعيدًا عن هذين التفسيرين من منظور فنى بحت، ينطلق من النجاح الجماهيرى المبهر الذى حققته الأفلام العامية القديمة، واضعين فى الاعتبار ندرة الإقبال على مشاهدة النسخ الجديدة التى يتم إعدادها بالفصحى.

النقطة المحورية فى اعتقادى، كواحد ممن أسهموا فى ترجمة وتمصير وإعداد النسخ العامية لأفلام حققت أرقامًا قياسية فى المشاهدة، تدور تحديدًا حول الهدف من اختيار اللغة المستخدمة. فبقدر موهبة واجتهاد مترجم الحوار العامى فى نقل خفة الظل والمشاعر واختلاف طبيعة الحوار من شخصية لأخرى تطاوعه العامية كلغة للحياة اليومية، بمقدورها أن تنقل المعانى والكوميديا والأحاسيس المختلفة من وعائها الثقافى الأم إلى وعاء ثقافى جديد، يراعى الاختلافات الحضارية، ولا يترجمها بطريقة حرفية قد تفقدها معانيها قبل أن تنزع عنها حسها الفنى.

على الجانب الآخر يميل البعض إلى اعتبار أن استخدام الفصحى فى تلك الأعمال الدرامية يمنح الأطفال فرصة جيدة لتقوية لغتهم الكلاسيكية. إذن فالواضح أن الهدف يحدد اللغة الوسيطة المستخدمة. فإذا كنت ترى أن قيمة تلك الأعمال الإبداعية تستحق إعادة تقديمها بلغة وسيطة لا تفسد الفكاهة والمشاعر فعليك بالعامية. أما إذا كنت ترى أن قيمتها بالنسبة إليك تكمن فى استخدامها لتعليم أطفالنا اللغة العربية السليمة فعليك بالفصحى.

هنا قد يتبادر إلى ذهن البعض أن العامية المصرية ربما تعيق أطفال البلدان العربية عن الفهم وهو أمر غير صحيح بالمرة. ليس فقط لأن أفلامنا ومسلسلاتنا وأغانينا تلقى رواجًا لديهم منذ عقود طويلة، ولكن أيضًا لأن المقارنة بين نسب توزيع ومشاهدة أفلام الكارتون القديمة المنطوقة بالعامية المصرية، ومثيلتها المنطوقة بالفصحى تنفى ذلك الزعم تمامًا. عمومًا أنا أرى بأمانة أن الفصحى لغة سرد رائعة بلا جدال ولكن ابتعادها عن الحياة اليومية يجعلها تعجز عن التفوق كلغة للحوار الدرامى لعدم مسايرتها لمتغيرات الواقع المعاش.

انظروا إلى العظيم يوسف إدريس الذى كان يستخدم الفصحى كلغة للسرد فى كتاباته الإبداعية التى يكتب حوارها بالعامية على لسان الشخصيات. لا ينكر أحد بالطبع أن أديب العربية الأهم نجيب محفوظ كان يكتب حوار رواياته بالفصحى، ولكن طريقته فى محاولة الاقتراب بالفصحى من التعبيرات والتراكيب العامية لكى يواكب استخدامها لغة الحياة يؤكد ما أقوله ولا ينفيه.

فى النهاية لا يسعنى إلا أن أقول أن احترام الأعمال الفنية والاهتمام بأن تصل قيمتها الإبداعية كاملة، بقدر الإمكان، إلى عقول أطفالنا يحتم علينا التوقف عن النظر بدونية إلى لغة الحياة اليومية. أما تعليم أطفالنا الفصحى السليمة فذلك أمر يكون الاهتمام به بطرق أخرى، أهمها تشجيعهم على القراءة ومشاهدة البرامج التى يمكن إعدادها خصيصًا لأجل ذلك الغرض. ختامًا علينا أن نفهم أن العامية هى الفصحى نفسها عندما هبطت إلى الطريق فتطورت على الألسنة لكى تتمكن من مواصلة الحياة، وذلك بمفرده يعتبر سببًا كافيًا لكى لا نخجل منها ونحتقرها.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل