المحتوى الرئيسى

نصوص النفاق

03/29 11:29

الانحناء مُر كما يقول الشاعر الراحل أمل دنقل لكنه مُعتاد ومُتكرر خاصة من أولئك الذين يكتبون ويُبدعون. مُنذ ولدت الدولة فى العالم والكلمة أداة من أدوات استتباب الأمن وصناعة المجد. والكلمة قد تكون كاشفة وواعية، ولكنها قد تكون راقصة مُستهدفة مصالح ذاتية.

وقراءة سريعة لنصوص الكتابات المصرية القديمة على المعابد تغمسك فى بحار من الدهشة حول تقديس المصريين القدامى لحكامهم وتأليههم لبعضهم. واللافت أن تلك الكتابات استمرت وتنوعت وتلونت بألوان عديدة بين الشعر والشكر والدعُاء، ومن يطالع أرشيف الصحافة المصرية فى العصر الحديث يُذهل من كم التزلُف والنفاق من شخوص تحولت من نظام إلى نظام ومن حاكم إلى آخر فى سلاسة ومهارة.

إن مُبدعين ومُثقفين كُثر وقعوا فى براثن إرضاء الحُكام والتزُلف للُسلطة، وبقت بصماتهم شاهدة على نصوص وصلتنا أقرب للمدح الرخيص. وهكذا صنعنا أبطالاً من كلمات، ورموزاً من هواء، وعُظماءً من قتلة وجُهلاء. وحسبُنا أننا مازلنا نؤمن بفكرة الزعامة رغم سقوطها فى جميع دول العالم. فالحاكم فى بلادنا نصف إله لا يخطئ ولا يسىء التصرف، بينما ترى الشعوب الناهضة حُكامها أجراء، ورؤساءهم خدماً وموظفين لدى الشعب، لا يملكون حياتهم لأنهم أنفسهم ملك للجماهير التى اختارتهم والتى عليها أن تشغلهم وتوجههم.

والواضح أن مرد ذلك أن جانباً كبيراً من الثقافة العربية قامت على مدح السُلطة والانحناء للحكام والتقرب منهم لنيل عطاياهم، فهذا مثلاً الشاعر الأندلسى ابن هانئ يمدح الخليفة بأبيات تقارب بينه وبين الآلهة أو الرسل المبعوثين حيث يقول فى إحدى قصائده: «ماشئت. لا ما شاءت الأقدارُ/ فاحكم فأنت الواحد القهارُ/ وكأنما أنت النبى محمدٌ/ وكأنما أنصارك الأنصارُ».

ويكتب أبو نواس فى ذل يستعطف الخليفة ألا يعاقبه إن خرجت منه كلمة عن غير قصد تضايقه: «بك أستجير من الردى وأعوذ من سطوات باسك/ وحياة راسك لا أعود لمثلها.. وحياة راسك/ فإذا قتلت أبا نواسك. من يكون أبا نواسك؟». ويقول أبو نواس فى مدح الخليفة الأمين ما يقربه من الآلهة: «وأخفت أهل الشرك حتى إنها/ باتت تخافك نطفة لم تخلقُ».

ويذهب الشاعر جرير بن عطية إلى الجلاد الأشهر والأمير الظلوم الحجاج بن يوسف الثقفى فيمدحه بقصيدة طويلة يعتبر فيها أعمال سفك الدماء وقطع الرقاب التى يقترفها الحجاج تنفيذاً لحكم الله فى الضحايا فيقول: «ترى نصر الإمام عليك حقاً/ إذا لبسوا بدينهم ارتياباً/ عفاريت العراق شفيت منهم/ فأمسوا خاضعين لك الرقابا/ وقالوا لن يجامعنا أمير/ أقام الحق واتبع الكتابا».

أما فى ثقافتنا الحديثة فنجد كثيراً من نصوص النفاق والتزلُف البغيض سواء فى قصائد الشعر أو مقالات الرأى أو مانشيتات الصُحف. ولأن ماكينة الطباعة سجلت لنا آراء وشهادات كثير من المُثقفين فى طُغاة ومُستبدين فإن الإفلات من محكمة الضمائر صعب، فالكلمات فى زمن التكنولوجيا الرقمية مُسجلة والمواقف لا يُمكن إنكارها.

يحكى الكاتب الكبير يحيى حقى فى كتابه «خليها على الله» قصة الشيخ أبوالنصر شاعر منفلوط الشهير والذى انتهز زيارة الخديو توفيق للمدينة ووقف بين يديه مُنشداً قصيدة طويلة فى مديحه، ويبدو أن الخديو تعب من الوقوف لسماع القصيدة التى بسبب طولها ملَّ الحاضرون، فسأل الشيخ عن عدد أبيات القصيدة فرد بأنها 99 بيتاً فسأله عن سر عدم إتمامها المائة بيت فرد الشيخ المنافق إنه البيت الذى ستضيفه أفندينا، ففهم الخديو مغزى ذلك وأمر ببناء بيت كبير ومنحه للشيخ على الفور.

وربما كانت المدائح دفعاً إلى استبداد كثير من حكام الشرق, فهذا مصطفى كمال أتاتورك الضابط التركى الذى يُحرر تُركيا من براثن الخلافة يحقق انتصاراً فى حرب تركيا واليونان فيكتب عنه أحمد شوقى أمير الشعراء قصيدة عصماء يقول فيها: «الله أكبر كم فى الفتح من عجبِ/ يا خالد الترك جدد خالد العربِ» ولا يلبث أن يتحول «أتاتورك» إلى ذئب طاغ وينقلب على دولة الخلافة ويعدم جميع معارضيه ويتحول مُستبد كبير.

ويكتب أمير الشعراء فى ذم البطل العظيم أحمد عرابى إرضاء للخديو عباس حلمى فيقول: «صغارٌ فى الذهابِ وفى الإيابِ/ أهذا كل شأنك يا عرابى». وتمر السنوات ويشاء الله أن يسترد أحمد عرابى حقه بعد عقود من وفاته لأنه لم يذهب من مصر صاغراً ولا عاد إليها بعد سنوات المنفى صاغراً.

وهذا الشاعر على الجارم يكتب فى إحدى قصائده عن مولد الملك فاروق كأنه مولد النبى عليه السلام فيقول: «أى يوم سعدت مصريةٌ/ كانت فى وادى الأمانى حلما/ مولد الفاروق يوم بلغت/ راية الإسلام فيه القمما». وكان طبيعياً بعد ذلك أن يصبح فاروق ملكاً فاسداً ضعيفاً لا يعنيه الشعب ولا يهتم بأمره.

وقد غنى الموسيقار محمد عبدالوهاب أغنية «الفن» التى كتبها الشاعر صالح جودت ومدح فيها الملك فاروق فى بعض أبياتها، وعندما قامت ثورة يوليو حذف ذلك المقطع من الأغنية.

وكان من اللافت أن ذلك الموسيقار العبقرى ساهم بشكل غير مباشر فى صناعة طغاة النيل فغنى بصوته للملك فاروق، ولمحمد نجيب، وعبدالناصر والسادات.

ومَن يُطالع صحافة مصر فى الأربعينيات يستغرب من كم التدنى الذى أبداه البعض حُباً وولهاً وتعظيماً وتفخيماً للملك فاروق، فلما رحل أطلقوا عليه صفات الملك الفاسد و«زير النساء» ولاعب القمار. إن واحداً من الموضوعات الشائعة التى تُطالعنا بها مجلة الاثنين فى أحد أعدادها موضوع على صفحة كاملة يحمل عنوان «السيد الفاروق مليك مصر والسودان ثبوت نسب جلالته إلى السلالة النبوية الشريفة». وفى متن الموضوع نقرأ الآتى «تشرف بمقابلة حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك المعظم بقصر القبة العامر فى الساعة الخامسة مساء أمس فضيلة السيد محمد الببلاوى نقيب الأشراف وسعادة حسين الجندى باشا وزير الأوقاف السابق ورفعاً لجلالته تقريراً عن تحقيق نسب جلالته والقرار الذى اتخذته نقابة الأشراف بهذا الشأن». وتضمن الموضوع تفصيلاً لاتصال نسب الملك فاروق بالنبى عليه الصلاة والسلام.

وفى الصحافة القديمة إعلانات لا حصر لها تُقدم التهانى والأمانى للمليك المفدى وبعض تلك الإعلانات من مشاهير المال فى ذلك الوقت مثل صيدناوى وموصيرى والرشيدى غيرهم. ومن المُير للسخرية أن تتضمن مجلة الدعوة الصادرة عن الإخوان فى إصدارها الأول بداية الخمسينيات تهنئة للملك فاروق بعيد جلوسه على العرش فى الصفحة الأولى من المجلة قبل قيام ثورة 23 يوليو بأيام قليلة.

أما عبدالناصر فقد ساهمت الآلة الإعلامية الحصرية التى شكلتها ثورة يوليو فى تحويله من ضابط إلى سياسى ثم إلى زعيم ثم إلى «آخر الأنبياء العرب» على حد زعم نزار قبانى. وقد تسابق الفنانون والشعراء على تقديم أغان فى تمجيده استأثر بغناء الغالب منها عبدالحليم حافظ وكانت سبباً فى احتلاله قمة الغناء فى مصر رغم أنه لم يكن المطرب الأفضل، لكنه كان الأذكى بتعبير الكاتب مفيد فوزى فى كتاب «صديقى الموعود بالعذاب».

وغنى عبدالحليم لعبدالناصر أغنية «صورة»، ثم كرر اسم عبدالناصر فى معظم الأغانى الوطنية مثل «ذكريات»، «السد العالى»، «ناصر يا حرية»، «فوازير» وهو ما دفع الموسيقار كمال الطويل إلى مخاصمة حليم تماماً حتى لا يشارك فى تلحين أغانى تمجيد شخصى.

وكانت مدائح الصحف للزعيم الشاب جمة لدرجة أن كثيراً من الكُتاب والمُثقفين تحولوا بأنفسهم إلى رُقباء ذاتيين حتى لا تمر من بين أيديهم كلمات يُمكن أن تؤول فى خانة الانتقاد. وقد كشف جانباً من ذلك الكاتب الراحل فتحى غانم فى كتابه المهم «معركة بين الدولة والمثقفين» الذى يرسم الخطوط العريضة لدولة الخوف والتزلف خاصة أن وسائل مُعاقبة الخروج عن القائد العام تتراوح بين الضرب والإهانة مثلما حدث مع السنهورى باشا فى مجلس الدولة وقد تتخطى ذلك إلى الإعدام مثلما حدث مع سيد قطب والذى كان يوماً من الأيام صديقاً مُقرباً من عبدالناصر ومدافعاً عن ديكتاتوريته.

وفى الواقع لم يكن عبدالناصر سوى حاكم شاب أصاب فى أمور وأخطأ فى غيرها، لكنه عاش يقينا فكرة الزعيم الملهم، والقائد المثالى واتضحت نرجسيته بشكل مبكر فى ميدان المنشية عام 1954 وهو ما زال وزيراً للداخلية عندما أطلق عليه محمود عبداللطيف رصاصاً فصرخ فى الميكروفون: «إذا مات جمال عبدالناصر فكلكم جمال عبدالناصر»، ثم خرجت منه عبارات عفوية كشفت إحساسه وتصوره عن نفسه عندما قال «أنا جمال عبدالناصر الذى علمتكم العزة والحرية والكرامة».

أما السادات فعلى الرغم من انحنائه لتمثال عبدالناصر أوائل حكمه وقراراته الإصلاحية إلا أن استمرار التصفيق له بعد الحرب والسلام حوله إلى «طاووس» بتعبير الدكتور محمود جامع فى كتابه الشهير «عرفت السادات»، وكان كثيراً ما يُردد أنه آخر الفراعنة العظام. وإذا كان حليم قد غنى لناصر كثيراً فإنه غنى أيضاً للرئيس السادات الأغنية الشهيرة «عاش اللى قال الكلمة بحكمة فى الوقت المناسب» وهى أغنية ركيكة الكلمات ولا تحمل أى تصوير إبداعى، وقد نقل البعض أن كمال الطويل رفض تلحينها مما دفع عبدالحليم إلى الاستعانة ببليغ حمدى بدلاً منه.

واللافت أن كثيراً من الكتاب والصحفيين الكبار تحولوا إلى أكف تصفيق دائم للرئيس السادات وكتب مصطفى أمين بعد الإفراج عنه من السجن سنة 1974 أولى مقالاته بعد تسع سنوات من الغياب ولم يكن غريباً أن يكون المقال فى مدح الرجل مؤكداً «أن من حق هذا الرجل أن يطلق على عهده عهد العبور. عبور مصر من الظلمات إلى النور. من الظلم إلى الحرية».

وقد وصل الامر بالشيخ الشعراوى أن رد على استجواب فى البرلمان عندما كان وزيراً للأوقاف قوله إنه رفع الأمر إلى من لا يسأل عما يفعل وكان يقصد الرئيس السادات، وهى إحدى السقطات التى يأخذها البعض على الشيخ رحمه الله.

وفى تصور الدكتور محمود جامع فإن مقالات المديح المتكررة فى الصحف لحكمة وعبقرية ووطنية الرئيس السادات التى كان يقودها على حمدى الجمال وموسى صبرى وعبدالستار الطويلة وأنيس منصور أدت إلى تحويله إلى طاووس وجميع معارضيه لا يفقهون. كل ذلك دفع السادات دفعا لنهايته المأساوية بعد قرارات اعتقالات سبتمبر التى ختمها بالآية الكريمة «ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا...» وسقط الرجل وسط جيشه برصاص مصرى.

ويذكر الكاتب الكبير محمد العزبى فى كتابه الأخير «الصحافة والحُكام» كيف كانت نهاية كثير ممن سخروا أقلامهم لإرضاء أهل السُلطة موجعة ومُحزنة سارداً كيف مات الكاتب على حمدى الجمال رئيس تحرير الأهرام السابق، بعد «قرصة ودن» سريعة من السادات. إنه يخبرنا بأن السادات عيّن «الجمال» رئيساً لمجلس إدارة وتحرير الأهرام عام 1975 ليصبح رقيباً على كُتاب اليسار الذين يخاصمون الرئيس. وفى يوم ما اتصل الرئيس السادات بالرجل مُعنفاً: كيف يكتب الكاتب «فلان» ما كتب، ثُم كال له الشتائم وكأنه خادم له، وبعدها بأيام سافر السادات إلى باريس ودعا رؤساء التحرير معه عدا «الجمال» الذى سارع إلى نائب الرئيس حسنى مبارك يسأله إن كان السادات غاضباً منه، فأخبره بأنه لا يظن ذلك ونصحه بالسفر إلى باريس على نفقة الأهرام، وبالفعل حمل الرجل حقائبه وهبط إلى نفس فندق رؤساء التحرير المصاحبين للرئيس، لكنه فشل فى الحصول على غرفة لعدم وجود اسمه ضمن الوفد المرافق. ثُم اضطر رئيس تحرير الأهرام إلى أن يحمل حقائبه مرة أخرى ويعود إلى القاهرة مُتعباً حزيناً قبل أن تفاجئه أزمة قلبية لتُنهى حياته.

أما مبارك فقد حاول فى بدايات عهده الظهور بمظهر الرجل المتواضع البسيط وكانت من أشهر مقولاته «الكفن مالوش جيوب». وفى رأى الكاتب البريطانى الشهير روبرت فيسك أن مبارك كان نموذجياً حتى النصف الثانى من الثمانينيات وكان كثيراً ما يلتقى برجال المعارضة ويجرى اتصالات بهم مثل الدكتور حلمى مراد، وفتحى رضوان ثم بدأت مظاهر الفرعونية تبدو عليه، وتغيرت نظرته إلى الشعب بسبب مدائح النفاق وعرائض الإشادة والتى وصلت بأحد رؤساء التاريخ أن يكتب «إن مصر ولدت يوم مولد مبارك».

وكان مصير كل من ينتقد أو يعارض الرئيس مبارك مخيفاً حيث تعرض الكاتب الراحل جمال بدوى للضرب فى وسط الشارع لأنه تجرأ وكتب يوماً مقالاً بعنوان «أصابت امرأة وأخطأ الرئيس» كما تعرض كل من مجدى حسين وعبدالحليم قنديل لممارسات شبيهة لنفس السبب.

ويذكر الزميل صلاح الرشيد فى كتابه «المنافقون فى عهد مبارك» طبعة مدبولى أن مكتبة «أبجدية» بوسط القاهرة نظمت ندوة بعنوان «مبارك فى عيون الشعراء»؛ التى تتناول الكتاب الذى أصدرته الهيئة المصرية العامة للكتاب عقب محاولة اغتيال مبارك فى أديس أبابا عام 1995؛ حيث ألقى الشعراء نحو 62 قصيدة لمدح مبارك فى شهر واحد، وجمعت الهيئة هذه القصائد فى ديوان حمل اسم «مبارك فى عيون الشعراء» طبعته هيئة الكتاب وكتب الدكتور سمير سرحان رحمه الله فى مقدمه الكتاب: «خفقت قلوب الشعراء لعودة الرئيس مبارك سالمًا من غياهب المؤامرة وعودة مصر سالمة معه، وعندما ينشد شعراء مصر فى حب مبارك فإن القلوب تهتز والأفئدة تهفو إلى صانع الخير والحق والجمال». وتضمن الكتاب قصائد عدد من الشعراء فى مقدمتهم الشعراء فاروق شوشة ومحمد التهامى ومحمد أبودومة والدكتور عبدالعزيز شرف.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل