المحتوى الرئيسى

«الولايات المتّحدة للحبّ» للبولندي توماس فاسيليفسكي.. سبايا عثرات الغرام

03/29 01:07

للسينما ضمير. به، ساجلت بلا هوادة مناقب إنسانية وحياتية متضاربة الجذور والجذوات. عبره، حاججت قيماً متبدِّلة، تبدأ بصبابات إنسانية، وتنتهي بفناءات قدرية. هناك إجماع متعاقب على أن البحث عن توازنٍ لم يحدث بين عالم يتعجّل انقلاباته، وسينمات تسعى إلى رصد درامي جسور وإختراقي لحيوات بشر مغلوبين بمصائرهم، حرّضت انحياز أجيال من مخرجين إلى حداثات سينمائية، ديدنها تثوير منهجيتها وتعميق نهضويتها، من دون التخلي عن مرجعيات أساسية، خُطَّت على مدى مئة سنة من ألق مجيد.

عليه، كرّست نصوص تأسيسية لما يمكن تسميته بـ»سينما السينما»، أيّ السيرورة (أو الولادات) الدائمة للتجديد ومشاكساته. إنها سلالات مباركة من تمرّد عقلاني، أولويته اليوم الحفاظ على نيّات سينمائية توثق خطوباً تتناسل حولنا، وتلتزم البحث عن قناعات خلاصيّة جماعية لنوائبها. أرقى نماذجها ما قدّمه البولندي توماس فاسيليفسكي في عمله الروائي الثالث «الولايات المتّحدة للحب» ـ الفائز بـ»جائزة أفضل سيناريو» في الدورة الـ66 (11 ـ 21 شباط 2016) لـ «مهرجان برلين السينمائيّ الدوليّ (برلينالة)» ـ الذي رسم عوالم مغتمّة عبر مشهديات مضلَّلة بلون رماديّ حياديّ، كوسيلة جمالية أخّاذة وضاغطة في وصفِ راهنٍ سافلٍ، تحوّلت فيه نوازع كائناته إلى مضاربات مريضة، ترتكبها بحثاً عن صبوات وحنو مهزومين مسبقاً.

تُرى، ما الذي يجعل 4 نساء، هنّ أغاتا وأيزا وريناتا ومارزينا، مهووسات بشهواتهنّ؟ أبسبب عزلاتهنّ الشخصية، أم إن روح الشر زحفت على أرواحهن من خارجٍ توتاليتاريٍّ غاشم، علّمهنّ كبت مهجهنّ خشية عقاب وفضيحة وصدود عاطفي جارح؟ أين تقع «جمهورية» خلاصهنّ، ضمن وطن «جديد» نزع رداء بروليتارياً، وحمل عصا رأسماليٍّ وافد: أبتلصص، أم خديعة، أم إنتقام؟

افتتح توماس فاسيليفسكي (مواليد العام 1980) نصّه، المغرق بتوريات مسيّسة بليغة، بمشهد جلسة جماعية لجيران يحتفلون بعيد ميلاد العام 1990، وهي سنة مُجيَّرة سياسياً إلى حقبة النقابي وخصم الشيوعية العنيد ليخ فاونسا، إثر تسنّمه دفّة البلاد كأول رئيس منتخب. بيد أن أولوية الشريط لا تهتمّ بتواجد إشارات أو مرجعيات إلى حكمه، بل أصرّت بحصافة على تأويلات محيط جليدي شبه ميت لعمارات سكنية مشادة ضمن عراء قاحل، صوّره أوليغ موتو بزاوية مرتفعة، محيلاً إياه إلى جهنم أوروبي، سبق أن شهد محارق كثيرة. ففي العرف الدرامي، يكون ذلك المحيط بمثابة سجن رمزي لمشاعر محاصرة بكيدياتها. تلتف يومياتها بأسلوب سردي إرتجاعي لولبي (فلاش باك)، ناسجة صُوَراً مقيتة لخراب أرواح، يُفترض بها انتزاع حريتها من طغاة إيديولوجيات جامدة، لكنها وجدت نفسها في معتقلات شخصية، صنعت فيها كل امرأة منهنّ أغلالها على حدة.

هؤلاء النسوة، بأعمارهن المختلفة، سبايا فاشيات اجتماعية. ينثرن خطايهن في كلّ مكان. أولهنّ الزوجة الشابة أغاتا (جوليا كايوفسكا)، التي تعشق بصمت قسّاً شاباً يدير بإيمان عميق أبرشية محلية، تطارده خلال صلواته، وتتلصّص على جسده العاري أثناء استحمامه. ينعكس هذا الهوس على علاقتها بزوجها وابنتهما الغافِلَين عن «خيانتها». كَمَن الحب وغدره من طرفها في أن رجل الدين لا يحقّ له شرعاً ارتكاب الزنا. حينما يردِّد جملاً ذات إيحاءات إنجيلية حول الحب، على شاكلة: «هل يقودنا الحبّ، وماذا يعطينا؟»، و»الحبّ أقوى مما سمعناه في المواعظ»، نرى أغاتا كدراكولا أنثوي يتراجع مرعوباً أمام ضياء صليب، ألحّ على ناموسه وبأسه، لنراها لاحقاً تتوسّل زوجها كي يضاجعها بحميميّة جسديّة، وتتوسّله بلوعة: «مسّ جسدي، أرجوك مسّني»، متخيّلةً في شبقها الشاب الآخر، وهو يعتصر ضميرها وإثمها، في أحد أعنف مشاهد الفيلم.

يعلن انهيار أغاتا الأخلاقي عن هوان صادم، يستكمل دورته مع الشخصية الثانية مديرة المدرسة إيزا (ماغدلينا تشيليتشيكا)، التي تعشق طبيباً دفن زوجته للتو. تحتال هذه المرأة ذات الشكيمة على أعراف اجتماعية، منتهزة ضعف الرجل، وتغويه بعلاقة جنسيّة. أرادها (هو) عابرة بسبب ابنته، فيما سعت (هي) إلى أن تكون معبراً لزيجة تُنهي عزوبيتها الإرادية الطويلة، بسبب هيامها «الأخرس» به على مدار 6 سنوات. حين تتمسّك بغوايتها قائلة: «سأفعل كلّ ما تريد»، يعنّفها الطبيب، مشرِّعاً نافذة شقّتها، آمراً إياها ببرودٍ قاتل: «اقفزي إذن». أمام جبنها، تنكفىء المكلومة، كاشفة عن خسران نهائي، يتكلّل لاحقاً بجماع جنسي عابر مع شاب، يعظِّم من عار حماقاتها عندما يعلن عن هويته كأحد طلابها السابقين، الذين تعرّضوا لعسفها، وها هو يحقّق انتقامه. لن يشفق مخرج «ناطحات سحاب هائمة» (2013) على بطلته، حين «يفترض» أنها تشهد غرق ابنة عشيقها، وهي إحدى طالبات مدرستها، في بحيرة متجمّدة، إذ لا تحرك ساكناً لنجدتها. هذه أرجحية درامية تطرح تساؤلاً موجعاً: أهو انتقامها المبيَّت، أم الوجه الحقيقي لخسَّتها الشخصية؟ تتجلّى هذه الإحتمالية بلؤمٍ نادرٍ في حكاية هيام العجوز ريناتا للشابة مارزينا، الساعية إلى شهرة ناقصة التحقّق في سوق الإعلان التجاري، عبر مقايضة جنسية مع مُصوِّر فوتوغرافي، لا يأخذ حظوظ نجاحها بجدّ. تعيش الأولى وحدتها على الرغم من محيطٍ هادرٍ حولها (عملها في مدرسة الحي)، ومثلها تساكن الثانية نكوصاً اجتماعياً على الرغم من انخراطها في عملٍ جماعي هو الرقص الرياضي (إيروبكس) في نادٍ محلي. ترتكب العجوز خدعاً طفولية لـ»الإيقاع» بجارتها من دون نجاح. فالقدر لن يغفر لكائنٍ لا يملك عزّة نفسه وطهارتها.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل