المحتوى الرئيسى

إنجي همام تكتب عن: «فيلم نوارة».. الكادحون وحدهم من سددوا فاتورة الربيع العربي.. أما الكبار ففروا بأموالهم وأنفسهم

03/28 11:44

أخيرا وبعد طول انتظار نزل إلي دور العرض المصرية "نوارة"  هذا الفيلم الذي انتظرته طويلا لكن مع الأسف واكب ذلك مروري بوعكة صحية إثر تقلبات الجو ففكرت إرجاء مشاهدته قليلا حتى تتحسن حالتي بعض الشيء فلم يطاوعني وجداني ورغبتي الشديدة في مشاهدته وخشيت أن يشتد المرض أكثر فيضيع مني الفيلم ، تشجعت ونزلت بعد أن أقنعت نفسي أن العرض سيكون غاية في المتعة حيث أنه من نوعية أفلام المهرجانات التي لا تجلب ولا تجذب الجماهير المصرية الحاشدة فستكون القاعة هادئة وقليلة العدد مما يساعد على أكبر قدر من الاستمتاع دون ضوضاء وجلبة أطفال وشباب تنغص على المشاهد متعته، ذهبت لحضور حفل السابعة وعندما وقفت لقطع التذاكر فوجئت أن الصالة "كومبليت" وكانت صدمتي بقدر سعادتي لأنه وأخيرا أصبح لأفلام المهرجانات جمهور ولهذا كانت هذه المقدمة الطويلة.

اضطررت للانتظار بالقرب من قاعة العرض لحضور الحفل التالي ولم أتفاجئ هذه المرة عندما وجدت الصالة أوشكت على اكتمال العدد وكان كل ما أفكر به كيف سيستقبل الجمهور العرض، في الحقيقة ساد القاعة صمت شبه تام طوال مدة عرض الفيلم وحاولت مليا أن أفهم ردة فعل الجمهور فلم أفلح تماما فلم يشعر البعض بالملل كما يحدث أحيانا ويتركون الفيلم في منتصفه ويغادرون لكنني لم أجد الحماسة التي تمنيتها حيث ينفعل الجمهور ويغضب ويسب ويلعن ما آل إليه حالنا بعد كل هذه السنوات من قيام الثورة التي هى موضوع الفيلم ولا حتى دارت اشتباكات بين مؤيد ومعارض، كان حظي الشخصي مع جمهور منصت في صمت، أما عن الفيلم فهو جزء من عالم المبدعة "هالة خليل" الكاتبة والمخرجة التي تجول بنا أعمالها في عوالم النساء بطموحاتهن وأحلامهن بتحدياتهن الصغيرة والكبيرة ولكنها في هذا الفيلم ذهبت لفتاة من قاع المدينة فتاة من الكادحات ملح الأرض تنقسم حياتها إنقسام تام حيث تعيش في عالمين متناقضين كل التناقض عالم الفقر المدقع المحروم حتى من قطرة المياه بالمعنى الحرفي للكلمة وعالم الثراء الفاحش والدلال والنعيم التام غير أنها لم تكن تنتمي إلا إلى العالم الأول فحسب أما العالم الثاني الذي تقضى فيه نصف يومها أو يزيد فكانت تشاهده عن قرب ودورها قائم على خدمة هذا العالم الآخر ليس إلا .

 حكاية "نوارة" هي حكاية تلك الفتاة المكافحة التي تعيش مع جدتها وتربطها علاقة حب بشاب نوبي رغم أنها فتاة "جوربتيه " كما تقول لها أمه التي أقتنعت بها بعد عشرتها لهم لأنها أثبتت كم هي أصيلة وصاحبة واجب ، من أول مشاهد الفيلم تبدأ قصة كفاحها اليومي حتى قبل تتر البداية في مشهد تحمل فيه نوارة "جراكن المياه"  الضخمة التي تقوم بملئها يوميا حيث تسكن في منطقة لم تكن تصلها المياه بشكل طبيعي في البيوت بل على كل السكان ملء المياه من صنبور عمومي بعيد ثم حملها إلي منازلهم لقضاء حاجاتهم اليومية ، تنطلق بنا "هالة خليل" في شوارع المدينة في ربيع 2011   كما كتبت علي شاشة العرض عند بداية الأحداث تنطلق مع البطلة في رحلتها اليومية بعد ملء المياه حيث تذهب مع خطيبها لزيارة والده بالمشفى الذي لم يقبله بعد حيث لا توجد أسرة خاليه فتخفيه حكيمة المشفى "مؤمنة" - المتحكمة في العنبر الذي يريد دخوله - في دورة المياه حتى إشعار آخر !

بعد مشاهد موجعة وصادمة وصادقة كل الصدق في طرقات المشفى تهرول "نوارة" في الشوارع من وسيلة مواصلات لأخرى حتى تصل إلى مقر عملها في المجمع السكني الفاخر والبعيد كل البعد عن شوارع نوارة مكانيا وإجتماعيا وماديا ، تعمل نوارة في خدمة أسرة ثرية من أصحاب النفوذ في دولة مبارك وهي مهنة قد ورثتها عن والدتها التي كانت تخدم نفس الأسرة قبل أن تموت ، حلم "نوارة" كسائر أحلام البسطاء في هذه الفترة الزمنية الخادعة التي تصور فيها الشعب المصري أنه قد هزم الفساد وكل ما بقى له أن يسترد حقوقه المنهوبة طوال عقود من الزمن ،تحلم نوارة مع جموع البسطاء بالحصول على مئتي ألف جنيه كسائر المصريين كحق لكل فرد في أموال مبارك المهربة خارج البلاد ولا تخجل وهى تحكي أمنياتها البسيطة لسيدها ورب عملها "محمود حميدة" أحد رجال دولة الفساد الذي كان على قناعة تامة أن القانون لن يطول رقبته لذا لن يفر خارج البلاد كسائر رفاقه ولكنه وبعد قرار نقل مبارك من شرم الشيخ إلي مستشفى القبة العسكري للتحفظ عليه ومحاكمته يصدق الرجل أنه لم يعد لديه بد من الفرار.

 من هنا تبدأ رحلة تحول حياة نوارة كتوابع لتغير حياة أسيادها فما الفقراء إلا تابعين حتى في مصائرهم هكذا قالت الأحداث ، أحلام نوارة البسيطة المتمثلة في توصيل المياه لمنزلها الفقيركسائر الناس دون معاناتها اليومية في حمل المياه ومساعدة خطيبها في إجراء الجراحة العاجلة لوالده المريض وشقة صغيرة جدا تضمها وذاك الخطيب الذي عقد قرانه عليها منذ خمس سنوات ،أحلام طالما أجلتها لضيق ذات اليد و عندما تصورت نوارة أن الحظ قد ابتسم لها أخيرا بعدما أهدتها سيدتها "شيرين" عشرون ألف جنيه كهدية زواج شريطة أن تحرص مسكنهم طوال مدة غيابهم دون أن يشعر أحد بهذا الغياب كانت هذه الهدية وبال عليها ، فالشرطة التي لم تفلح في الإمساك بكل فاسد هارب اتهمت نوارة بسرقة هذه الأموال وتحفظت عليها وكانت نهاية الفيلم التي أخبرتنا بمنتهى البساطة والوضوح أن الكادحين وحدهم هم من دفع فاتورة الربيع العربي أما الفاسدين فقد هربوا بأموالهم وأنفسهم ولم يتمكن أحد من الإمساك بهم ،

 من المشاهد المؤثرة والدالة في الفيلم مشهد يجمع نوارة بزميلة لها في نفس التجمع السكني الذي تعمل به حيث كانوا يستقلون سيارة تنقل الخدم داخل المجمع السكني وترى نوارة فتاة صغيرة جدا بصحبة زميلتها فتسألها عنها فتخبرها الزميلة أنها إبنة أختها وقد تركت المدرسة بأمر والدها فجاءت بها معها لتساعدها في العمل وتدربها على مهنة تأكل منها في المستقبل تبدو علامات الدهشة عل  نوارة التي ترى نفسها من جديد في تلك الصغيرة التي ترث مهنة خالتها كما ورثت نوارة من قبل مهنة والدتها فترى التاريخ يعيد نفسه ولكن كيف ومن المفترض أن تاريخا جديدا يكتب الآن !!

 من أروع ما أعجبني في هذا العمل هو الاختيارات الواقعية للمخرجة التي صورت كل مشاهد الفيلم تقريبا في أماكن حقيقية ، بدء من الشوارع التي تمشي بها البطلة في مشهد البداية حاملة "جراكن المياه" مرورا بكل الشوارع ووسائل المواصلات التي تستخدمها البطلة في حياتها اليومية ، حتى المشفى والعنبر المهمل المتسخ المكتظ بالمرضى والفوضى وكذلك حجرة جدتها الصغيرة مسكنهم المكون من غرفة واحدة ويتشاركون دورة المياة مع باقي سكان العقار تلك الحجرة التي يعيشون فيها مساء وتصبح مقر عمل جدتها حيث تبيع الفلافل لسكان الحي من نافذتها الصغيرة ، وكذلك المنزل الصغير لخطيبها وعائلته كان منزلا حقيقيا وورشة تصليح الأجهزة الكهربائية التي يملكها خطيبها كانت أيضا حقيقة ، كل ذلك دلل على واقعية وصدق العمل وكذلك حرفية وتمكن المخرجة التي لم تستعين باستوديهات مغلقة ولا مدينة إنتاج إعلامي بشوارع فارغة وكومبارس في الخلفية ، كل شيء كان حقيقي جدا الزحام والمرور والفقر الطاحن في أماكن لا يعرفها إلا من يقطنها .

أما عن أداء الممثلين فيعنيني بشدة الإشادة بأدوار كل من "محمود حميدة" "شيرين رضا" "رجاء حسين"  "شيماء سيف" فبرغم قصر حجم الدور إلا أن كل منهم كان مؤثر غاية التأثير في العمل بحيث يخرج المشاهد وهو يذكرهم جيدا بكل كلمة أو حتى أداء صامت لأي منهم ..

أهم أخبار فن وثقافة

Comments

عاجل