المحتوى الرئيسى

أزمة السدود الإثيوبية والتحول نحو الهيمنة

03/28 18:44

نشر موقع "بداية" مقالا لأستاذنا حلمى شعراوى فى 17 مارس الجارى، تحت عنوان "رؤية المجتمع المدنى الإثيوبى لمياه النيل"، وقد أعلن الكاتب فى مطلع المقال أنه يركز على الجوانب غير الفنية، مستعرضا أحد الكتب الإثيوبية باسم الموارد المائية عابرة الحدود فى حوض النيل "Trans Boundary water Resources in the Nile Basin"، والكتاب له عنوان فرعى هو: "دعم انخراط المجتمع المدنى فى مبادرة حوض النيل – مناقشات منتدى حوار المجتمع المدنى الإثيوبى ديسمبر 2005".

وبعد أن يعرج المقال حول مقولات هذا الكتاب وقراءات أخرى فى الصحافة الإثيوبية فى الشهرين الأخيرين، يخلص والقول هنا على لسان أستأذنا حلمى شعراوى إلى: أنى لم أقرأ فى الأدبيات الإثيوبية، أنواع الصراخ الذى أتابعه فى مصر وإنما أجد مجتمعا مدنيا يتحرك لخدمة قضاياه، و"مشروعا قومياً" يعتمد إلى حد كبير على أهله، رغم فقر إثيوبيا الشديد فى الزراعة والغذاء والتنظيم الأهلى نفسه..!"

وفى الحقيقة فقد وجدت أن هذه الصياغة، مع إطلاق وصف "الصراخ " على ما يكتب وينشر فى مصر حول أزمة سد النهضة، فى الوقت الذى ينظر فيه الكاتب بعين التقدير لما يقول إنه المجتمع الإثيوبى وتعاطيه مع قضية مياه النيل، أمر مثير للدهشه، لا سيما فى هذا الظرف الذى دخلت فيه أزمة السدود الاثيوبية منعطفا خطيرا، يحمل تهديدا مباشرا لمصالح مصر المائية، وينذر بتداعيات أخرى خطيرة فى المستقبل القريب، خاصة وأن التعنت الإثيوبى الهائل والهادف إلى الهيمنة، والذى يحطم كل الأعراف والقواعد وأطر التعاون، واضح تماما، ولا صلة له بكل الجهود والاسانيد والحجج التى استعرضها أستاذنا منسوبة للمجتمع المدنى الإثيوبى..

وأذكر هنا فى هذا السياق، أننى كنت قد دعوت فى وقت مبكر، وبالتحديد فى نوفمبر 2011، إلى حلقة نقاشية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية عن أبعاد أزمة المياه فى حوض النيل وتأثير السدود الاثيوبية على مصر؛ لمناقشة ورقة عمل رئيسية كان قد تقدم بها الدكتور نصر علام وزير الرى الأسبق. وقد حضر اللقاء عدد كبير من أساتذة وخبراء المياه والزراعة والقانون والعلوم السياسية والتاريخ وكان على رأسهم الأستاذ حلمى شعراوى.. وجاء فى ورقة الدكتور علام أنه فوجئ حين تولى الوزارة بأن هناك سدا "تكيزى" كان قد تم إنشاؤه على نهر عطبرة وأن ذلك جرى بموافقة مصرية فى عهد الدكتور محمود أبوزيد وبتكتم كامل، حتى أن أحدا فى مصر لم يسمع بهذا السد.. وكان رد فعل الحاضرين ومن بينهم الأستاذ حلمى هو التعبير عن الدهشة والاستغراب.. والشاهد من هذه الواقعة أن كل تفاصيل قضايا المياه والمبادرة المشتركة كانت تتم فى طى الكتمان إلى أن انفجرت فى وجوهنا فى ٢٠١٠ بعد خروج الدكتور محمود أبوزيد وزير الرى الأسبق من الوزارة فى مارس 2009، وبعد أن كانت الفأس قد وقعت فى الرأس .. وقبلها كانت المبادرة المشتركة التى قدمها البنك الدولى قد استغرقت ١٠ سنوات وكان يقال حينها ، إن الأمور كلها على ما يرام ولم يتبق على إنجاز الإطار القانونى سوى ٥℅ .. وقد كنت حاضرا واستمعت إلى الدكتور أبوزيد فى أكثر من مناسبة، وفى لقاءات رفيعة المستوى (إحداها بحضور وزير الخارجية الأسبق أبوالغيط) يهدئ من قلق الحاضرين والمتسائلين .. ثم تبين أن هذه الـ ٥ ٪ تمثل (روح مصر وحياتها) وهى الموقف من الاتفاقيات السابقة والحقوق التاريخية ومبدأ الاخطار المسبق.. والأدهى ما ظهر لاحقا من أن المبادرة المشتركة لم تكن إلا فخا لتكتيل كل دول المنابع وتغيير وتجاوز كل الاطر القانونية المستقرة لصالح اوضاع جديدة وتطورات كبرى تتعلق بالتحول من اعتبار المياه حقا الى عتبارها سلعة .. وكما هو معروف نتج عن ذلك أزمة عنتيبى والتوقيع المنفرد .. ومعروف أيضا أن إثيوبيا هى الفاعل الرئيسى فى التحريض على التكتل والتشدد والتوقيع المنفرد إلى جانب أوغندا التى تلعب دور الظهير لإثيوبيا فى قضايا المياه وغيرها، ولا يخفى أهما معا (إثيوبيا وأوغندا) يلعبان أدوار الوكالة للولايات المتحدة فى القرن الأفريقى وفى منطقة البحيرات، ويظهر ذلك جليا فى الهيمنة على الصومال ومحاصرة أريتريا واحتواء جيبوتى..

مؤدى السطور السابقة أن التغيرات التى تحدث الآن بدءا من المبادرة المشتركة ثم تطورات اتفاقية عنتيبى والتوقيع المنفرد ، وما تلى ذلك من أزمة السدود الإثيوبية هى محصلة تحركات مخططة بعيدة المدى وذات أبعاد إقليمية ودولية، وأن الرغبة الإثيوبية التاريخية فى السيطرة على مياه النهر ظلت قائمة منذ قرون وعقود، ولكنها تجد الفرصة الآن فى ظل التغيرات، ويظهر ذلك جليا في مجمل السياسات والاوضاع التى تتشكل الآن فى القرن الأفريقى وشرق أفريقيا.. على الناحية الأخرى فإن حالة الغياب والموات وتحول مؤسسات الدولة المصرية إلى ما يشبة الإقطاعيات والجزر المنعزلة فى العقد الأخير من عهد الرئيس الاسبق مبارك، ساهمت بدورها إلى حد كبير للغاية فى فتح المجال أمام هذه التغيرات السلبية، حيث لم تكن هناك رؤية كلية ولا استراتجيات واضحة ولا قراءة واعية لما يحدث من حولنا.. وفى السياق نفسه انخفض التنسيق والتشاور بين المؤسسات المختلفة للدولة المصرية إلى حد مفجع، وسادت المنافسات التى يغلب عليها طابع الشخصنة ومقولة "أنا ومن بعدى الطوفان".. وقد يحين الوقت المناسب لسرد بعض الوقائع الباعثة على الدهشة التى كان كاتب السطور شاهدا على بعضها وسمع بعضها الآخر من مصادر موثوقة.

ولكن وبالرغم من كل ذلك فإن تعاون مصر فى مبادرة حوض النيل وموافقتها على سد تكيزى، وموافقتها أيضا على دراسة مشروع "سد بوردر" الذى تحول لاحقا إلى "سد النهضة" بعد رفع سعته التخزينية إلى خمسة أضعاف السعة المقررة.. لم يجد التقدير او رد الفعل المناسب، ربما لأنه كان عملا مجتزأ، ويبدو أنه كان يتم عبر وزارة الرى وحدها وليس جزءا من استراتيجية متكاملة تتواكب وتتجاوب معها مجمل تحركات الدولة المصرية تجاه ملفات المياة وحوض النيل. وبالتالى لم يؤثر ذلك بأى شكل على خلق صورة إيجابية لمصر أو يخفف من غلواء إثيوبيا واندفاعها نحو ما تنفذه الآن من توجه نحو الهيمنة على مياه النيل، بعد أن وجدت فرصتها الذهبية فى عدم استقرار مصر منذ ثورة يناير وحتى الآن. بهدف استخدام هذه الهيمنة لاحقا فى حصار مصر والتضييق عليها، ودعم تحول إثيوبيا إلى مركز قوة فى شرق أفريقيا، من بين أهدافه ومهامه الأساسية إقصاء مصر وتطويقها سواء لحساب إثيوبيا نفسها أو لحساب القوى الاقليمية والدولية الداعمة للمخططات والتحركات الاثيوبية. وبناء على ما سبق فان القضية ليست هى حاجة اثيوبيا الى التنمية او للطاقة .. فمصر تعترف لاثيوبيا بهذه الحقوق ، بل وتعرض المساعدة ، ولو كانت هذه هى الاهداف الفعلية لاثيوبيا لكان من السهل الوصول الى حلول وسط ، فكل ما تطلبة مصر وتلح عليه أن يكون ذلك وفقا

لمبدأ " لا ضرر ولا ضرار "، ولكن لا حياة لمن تنادى. حيث الرد الدائم هو الكذب والخداع والمراوغة، ومن المعروف ان سد النهضة طبقا للهدف ( المعلن ) وهو توليد الطاقة يعد" over sized " " أى أن حجمة مبالغ فيه جدا بشهادة الامريكان والاوروبيين أنفسهم.. وقد بذلت مصر كل الجهود الممكنة للتفاوض واعلان مالالبو فى يونيو 2014 الذى تنصلت منه اثيوبيا ، ثم اعلان المبادئ الذى وقع فى الخرطوم فى مارس 2015 ، وخطاب السيسى امام البرلمان الاثيوبى .. ومع ذلك تصر اثيوبيا على تجاهل اليد الممدوده للتعاون والتفاهم ، بل يبدو ان هذا يدفعها الى المزيد من المضى قدما ، حيث اعلنت عن البدء فى سد ثان .. وسوف يلىه ثالث ورابع .. وبالتالى فالقضية فى أبعادها الكلية لا تتعلق بالمنطق او الحوار او المصالح المشتركة او التفاهم .. ولا تتعلق كذلك بالمجتمع المدنى الاثيوبى او التحركات االمحمومة فى الداخل الاثيوبى للتعبئة ضد مصر .. فهذ قضايا تؤخذ فى الاعتبار وتساعد السلطة الاثيوبية القائمة على التماسك من خلال فكرة تسويق مصر كعدو .. غير ان القوى الدافعة الحقيقة والمحركة للاحداث لا تكمن هنا .. اذ ان هذه العوامل قائمة منذ القدم وكانت حاضرة حتى فى ظل اوج علاقة مصر باثيوبيا فى عهد عبدالناصر وقيادة هيلاسلاسى .. والشاهد ان هناك سعيا جارفا مسنودا بقوى اقيمية ودولية ( لاهداف شتى ) لفرض امر واقع جديد ، سوف تختلف التفاعلات كلها من بعده .. اما عن المجتمع المدنى فيقول استاذنا ان اثيوبيا سوقت وجهة نظرها بالحديث عن الجفاف والحاجة للتنمية والتعاون وليس الصراع .. وعن نقل السكان كمداخل للدفاع عن موقفها فى قضايا المياه .. فهل السدود التى تبنيها اثيوبيا الان سوف تحل قضية الجفاف ؟ .. ان اثيوبيا نفسها لا تدعى ذلك ولا تزعمه .. اما قضية نقل السكان ، فمعروف ومتداول طبعا انها احد استراتيجيات السيطرة على اقليم بنى شنقول ، الذى هو ليس اقليميا اثيوبيا من الاصل ( مثله مثل الاوجادين) ، وان الغرض الحقيقى هو التاثير على التركيبة الاثنية للاقليم والقضاء بشكل جذرى على مطالبات سكانه وعلى حركة تحرير بنى شنقول. يختتم استاذنا بالقول ان ما يفعله المجتمع المدنى المصرى يتسم بالصراخ .. وليسمح لى بالاختلاف مع هذا الوصف .. فجزء لا بأس به ممن يتابعون قضية المياه وازمة السدود الاثيوبية فى مصر بالنقد والتحليل يقدمون رؤى موضوعية ويشرحون مواطن الخلل ويشيرون الى الاهداف الخافية والتداعيات المنتظرة ، ويحللون المواقف وينبهون الى اوجه التقصير .

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل