المحتوى الرئيسى

غزوة بروكسل

03/26 22:06

الأحداث المهمة فى هذا الأسبوع كثيرة، مما يثير حيرة كتاب المقال الأسبوعى أمثالى، فهل أكتب عن تعديل وزارى وضع الحقائب الاقتصادية فى يد خبراء مقبلين من القطاع الخاص، وهى خطوة فى الاتجاه الصحيح لكسر جمود وعقم الجهاز البيروقراطى؟ أم أكتب عن التطورات المتسارعة فى الملفين السورى واليمنى، وفى كليهما تطورات سياسية مهمة تفتح الباب لحل سياسى من نوع ما؟ أم أكتب عن هجمات الإرهاب فى بلجيكا التى تؤكد أن الوقت ما زال طويلاً حتى تنكسر الموجة الراهنة من العمليات الإرهابية؟ أم أكتب عن تطورات قضية الشاب الإيطالى ريجينى التى دخلت فى مرحلتها الأخيرة، فإما يصدق الطليان رواية الشرطة المصرية عن الحادث وتنتهى الأزمة، أو تظل الشكوك قائمة والأسئلة مطروحة، فيدفع شعب بأكمله ثمن أخطاء حفنة من ضباط الشرطة وآخرين من رؤسائهم لم يقرأوا صفحة واحدة فى كتاب إدارة الأزمات.

بعد الاستشارة والاستخارة اخترت الكتابة عن هجمات الإرهاب فى عاصمة الاتحاد الأوروبى. لا حصانة لأحد ضد الإرهاب. هذا كلام كتب وقيل كثيراً، وما حدث فى بروكسل لا يمثل سوى دليل جديد على صحته. فالمجتمع الحديث فيه الكثير من نقاط الضعف التى لا يمكن تحصينها جميعها ضد الإرهاب. فالإرهاب يضرب المطارات والطائرات، كما يضرب ملاعب الكرة والمقاهى وقاعات الموسيقى ومحطات القطارات وشبكات الاتصال والطاقة، ففى عرف الإرهابيين أى هدف غير محصن مستباح طالما كان أثر الاعتداء عليه يتجاوز حدود ضحايا الهجوم المباشرين ليؤثر فى حياة عدد أكبر بكثير من الناس، وهو ما تضمنه شبكات الارتباط الوثيق والاعتماد المتبادل التى يقوم عليها المجتمع الحديث، وتضمنه أيضاً وسائل الإعلام الحديثة التى تتكفل بمضاعفة أثر العمل الإرهابى عدة مرات، وما تضمنه ثالثاً طبيعة الدولة الحديثة من حيث مسئوليتها عن أمن ورفاهية كل مواطن من مواطنيها.

السؤال الذى يبقى معلقاً بلا إجابة هو السبب الذى أغرى شباناً مسلمين، مولودين فى بلاد أوروبا نفسها التى يخاطر مسلمون آخرون بحياتهم من أجل الوصول إليها طمعاً فى الأمن وفرصة العمل، ما الذى أغرى هؤلاء الشبان على الإضرار بأمن بلاد نشأوا فيها؟

الفقر والتهميش والعزلة الاجتماعية هى أشهر الحجج التى يسوقها كثيرون لتفسير العدوانية والكراهية التى يحملها هؤلاء الشبان تجاه بلادهم. لا تبدو هذه الحجة مقنعة بالنسبة لى. فلا دليل هناك على أن الإرهابيين يأتون من أكثر فئات المجتمعات الأوروبية فقراً. صحيح أن أبناء الأقليات يميلون للعيش فى جيتوهات مغلقة عليهم، ولكن هذه الجيتوهات نفسها كانت مطلباً وملاذاً للجيل الأول من المهاجرين المسلمين الذين تجمعوا فى أحياء ومدن محددة للتمتع بدفء العيش وسط مسلمين آخرين يشاركونهم الثقافة والدين، أما الحكومات الأوروبية، وبفضل مزيج أفكار اليسار والليبرالية الأوروبية المحدثة، فقد منحت للجيتوهات شرعية التعددية الثقافية ونسبية القيم والمعايير وحرية الجماعات فى اختيار طرائق العيش التى تحلو لها، وهو فى كل الأحوال حل أكثر معقولية وأقل كلفة من محاولة إجبار المهاجرين على الاندماج فى المجتمع الأوسع، ومن لا تعجبه حياة الجيتو فله أن يخرج منه إن أحب، فالمجتمع والقوانين تضمن له ذلك.

الفقر والعزلة الثقافية هى سمة مشتركة بين جماعات الأقليات من المهاجرين المقبلين من كل بلاد الدنيا إلى بلاد أوروبا، ويبقى السؤال قائماً لماذا شباب المسلمين وحدهم، دون غيرهم من شبان الأقليات الأخرى، هم الذين يتورطون فى الإرهاب؟ من الواضح أن المتورطين فى الإرهاب من الشباب المسلم لا يمثلون سوى أقلية ضئيلة جداً، ولكن حتى هذه الأقلية الضئيلة لا نجد مثيلاً لها بين أبناء الجاليات غير الإسلامية، الأمر الذى يؤكد أن الفقر والتهميش الثقافى بحد ذاته لا يمكن أن يكون كافياً لظهور التطرف والإرهاب، وإلا كنا وجدنا إرهابيين بأعداد مماثلة بين أبناء الأقليات الأخرى. فالفقر والتهميش ليس سبباً كافياً لخلق الإرهاب، وإنما هناك شىء ما يتعلق بالإسلام كفيل بتحويل مشاعر الفقر والتهميش المشتركة بين عموم المهاجرين إلى تطرف وإرهاب لا يظهر سوى بين شباب المسلمين وحدهم.

الأيديولوجيات والتفسيرات المنغلقة التكفيرية المتطرفة التى باتت شائعة بين المسلمين هى العامل الفريد الذى نجده عند المسلمين ولا نجده عند غيرهم، وهى تفسيرات تحظى بشعبية كبيرة، وتتشابه فى كثير من الجوانب مع تفسيرات أخرى للإسلام تتمتع بالشرعية الفكرية والأخلاقية بين عموم المسلمين، ويعتبرها البعض تيارات معتدلة، رغم أنها تؤكد على تميز المسلمين وكراهية الأغيار من غير المسلمين، حتى وإن «جبنت» عن أن تطرح القتل والإرهاب كنتيجة منطقية لكل الكراهية التى يروجون لها بين الشباب.

عندما تنفذ الأيديولوجيات المتطرفة إلى عقول ونفوس بعض الشباب، فتجد فيها آثار حياة الجيتو، وتجد فيها أيضاً شباباً ولدوا وتربوا فى أوروبا، وتشير سيرة أغلبهم إلى شبان لم يصلهم التدين إلا مؤخراً بعد فترة أطول عاشوها متمردين على القانون فكان بعضهم جانحاً له سجلات إجرامية، وكان بعضهم متمرداً ضد الخلفية الثقافية التى أتوا منها فكان منهم من قضى فى حياة اللهو فترة طويلة من عمره السابق. عندما تجتمع هذه العناصر الثلاثة: «أيديولوجيا التطرف وآثار حياة الجيتو وروح التمرد»، يحدث الانتقال إلى خانة التطرف والإرهاب.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل