المحتوى الرئيسى

سيدات «المشغل»: فى البداية خفنا من المعدات الضخمة.. وبعد كده اتعودنا عليها

03/26 11:21

أجسادهن ضعيفة تتوارى خلف ماكينات الخياطة، لا يهبن مقصاً ثقيلاً، يتجاوز حجمه كفوفهن الصغيرة، أو إبرة ذات سن حاد، ربما تفتك بأصابعهن القصيرة فى أى لحظة، يجلسن على كراسى قريبة من الأرض، ويمسكن بأمتار القماش الأبيض، ليتحدين نظرات السخرية والانتقاص من قدراتهن بـ«تى شيرتات» أنيقة، باكورة إنتاجهن فى تصميم الأزياء.

«نسرين»: المحلات مفيهاش لبس يناسبنا.. وبنشترى من محلات الأطفال.. و«صباح»: ماشفتش الشارع غير مرتين قبل الجواز.. ونظرات الناس ما بترحمش

سيدات فى أعمار مختلفة بدأن مشوارهن فى التفصيل بخوض دورة تدريبية مدتها 15 يوماً، نجحن خلالها فى اكتساب مهارات وأسرار الحرفة، تحدين خوفهن من اقتحام المجال العصى أحياناً على الأسوياء، ممن لا يعانين من قصر القامة، التقينا مع «نسرين حامد»، مسئولة المرأة والطفل بجمعية الأقزام المصرية، وإحدى المتدربات، حيث كانت تبدأ فى خياطة قطعة قماش بعد أن أتمت مهمة القص.

«كان نفسى أتعلمه من زمان بدل ما أنا بدفع فلوس لبسى مرتين»، تقولها «نسرين» التى روت لـ«الوطن» معاناة القزم فى شراء ملابسه: «المحلات مفيهاش لبس مناسب لأحجامنا، ولا فيه محلات متخصصة لينا، وعشان نشترى قطعة لازم نوديها لترزى عشان يظبطها قبل ما نلبسها، وفيه ناس بتشترى من محلات أطفال».

لا تنكر «نسرين» خوفها من التعامل مع ماكينة الخياطة وملحقاتها فى بداية مشوارها: «أول ما قعدت على الماكينة ورفعت اللسان خفت، أصل الصُباع كله قد كده، ولو دخل تحت الإبرة مش هلاقيه»، لم تقتصر معاناتها على الإبرة، إنما اصطدمت بحجم وثقل مقص التفصيل، وجزمت أنها لا يمكنها الإمساك به وليس القص: «دلوقتى بقيت أقص 5 تيشيرتات على بعض».

بمرور أيام قليلة قطعت «نسرين» وزميلاتها شوطاً كبيراً فى «التفصيل»، بفضل جهود المدربة «ناهد»، التى تعاملت معهن بحب وصداقة: «كانت بتقول لنا كل ما تحبى الماكينة هاتحبك وهاتديكى أكتر، ولو اتنرفزتى عليها مش هتوصلى لحاجة».

«هالة»: احترفت الفن لمدة 15 سنة.. وبحلم أعمل أتيليه يضم أزياء مختلفة

«نسرين» زوجة وأم، وهى ترى أن الزوجة القزمة تتحمل أكثر من مثيلتها السوية، فتتحامل على نفسها وتحاول أن تثبت نفسها فى البيت وخارجه: «عمرى ما قصرت فى بيتى، عندنا سيدات كتير حمواتهم بيقولوا مش حاسين بفرق بينها وبين أى زوجة عادية، أصل إعاقتنا من عند ربنا مش بإيدينا، أنا مثلاً أخويا توأمى طويل، ورغم كده عمرى ما حزنت».

تأمل «نسرين» فى نجاح المشروع وتوسعه لضخ إنتاج كبير من ملابس الأقزام، وغيرهم من الأسوياء، بعد أن يتم تدريب باقى الأقزام فى فروع الجمعية المختلفة بالقاهرة والمنيا وسيناء وباقى المحافظات، مناشدة رجال الأعمال وأصحاب المصانع دعم مشروعهم، خاصةً أنهم ما زالوا يمولون أنفسهم ذاتياً على مدار الثلاث سنوات الماضية: «اللى قادر بيدفع 50 جنيه واللى قادر أكتر بيدفع، لدرجة إننا بنجمع من بعض إيجار مقر الجمعية».

يوم «صباح عبدالمجيد»، يبدأ فى الخامسة صباحاً، تصطحب كرسياً معها إلى المطبخ، لتقف عليه وهى تعد طعام الإفطار، ثم توقظ زوجها وابنها وابنتها لتناوله سريعاً للحاق بميعاد العمل والحضانة، ثم تتوجه إلى المشغل لتقضى وقتاً ممتعاً فى التفصيل ينتهى بقرب موعد الحضانة.

عباءة سوداء كانت «صباح» ترتديها، وبسؤالها من أين اشترتها، أجابت: «مش بلبس إلا العبايات، ولأن مستحيل ألاقى واحدة على مقاسى، بادخل محل عبايات عادى واختار اللى عجبانى، وأروح لترزى يظبطها عليَّا»، الأمر الذى جعلها ترحب بفكرة تعلم التفصيل لتساعد نفسها وأسرتها، وأصحاب نفس ظروفها.

«عايدة»: كنت قلقانة من المقص التقيل والترابيزة العالية والدواسات اللى مش بطولها

معاناة كبيرة يعيشها الأقزام فى مصر، روتها «صباح»، لا يجدون فرص عمل، يقبلون بمهن لا تتناسب أحياناً مع إعاقتهم: «واحد زميلنا شغال نجار مسلح عشان وراه بيت وأسرة والتزامات»، بخلاف السخرية الدائمة من هيئتهم، وملاحقتهم بالنظرات، ما جعلها تفضل عدم الخروج من المنزل: «قبل ما أتجوز ماشفتش الشارع إلا مرتين بالظبط، كان العيال بيضحكوا عليَّا وكنت بتكسف، خاصة إن أنا الوحيدة فى عيلتى اللى قزمة.. كنت بقعد على السلم لوحدى وأعيط، لحد ما اتجوزت، وبقى جوزى بيحمينى من الناس، ويزعقلى لو رفضت أختلط باللى حوليَّا».

تفتخر «صباح» بتجربة زواجها: «جوزى شخص عادى مش قزم، هو كان من محافظة الإسكندرية، وأنا من القاهرة، فى يوم شافنى على سطوح بيتى وقال لجيرانى أنا عاوز أخطب البنت دى، وقتها عيلتى كلها رفضت إلا أمى، واتحدتهم كلهم وارتبطت بيه»، الزواج الذى أثمر عن ولادة ابنتها «حنين»، التى تعانى من نفس إعاقتها، وابنها «سيد» الذى نجا من الإعاقة، وورث صفات والده. «أول مرة جيت الجمعية وتعرفت على الأعضاء كان يوم عيد الأم، كانوا عاملين حفلة وفرحت بوجودى وسطهم، يومها أهدونى بأحلى طقم كاسات»، تقولها «صباح» التى أمسكت بالقماش مجدداً للانتهاء من تفصيل القطعة سريعاً قبل مجىء موعد انصراف ابنتها من الحضانة.

«هالة حمدى»، تبلغ من العمر 41 عاماً، لكنها تبدو أصغر كثيراً، بسبب هيئتها الأنيقة وملابسها التى تحاكى خطوط الموضة، ومن بين المتدربات حظت بالإجماع على لقب الأمهر فى التفصيل: «سهل وممتع، ونفسى فى المستقبل يكون ليَّا أتيليه خاص بأزيائى».

مهن كثيرة حاولت «هالة» اقتحامها، فشلت فى معظمها: «اشتغلت فى شركة للخزف والصينى، فى أول أسبوع كنت بتعرض لأسئلة سخيفة، زى انتى عندك كام سنة.. انتى كده ليه، ماقدرتش أستحمل وقدمت استقالتى، لكن رئيس القسم شجعنى وساندنى واشتغلت فترة، لكن اضطريت أسيبه بسبب ظرف صحى».

شهادة الـ5% حالت دون قبول «هالة» فى كثير من الوظائف، فلم يكن من السهل استخراجها فى الماضى، لتقرر إطلاق العنان لموهبتها فى التمثيل والاستعراضات، حيث شاركت فى أكثر من عمل مسرحى على مدار ما يتجاوز الـ15 عاماً، مثل مسرحية «الأميرة والصعلوك»، وسعدت بالتعامل مع الفنان الراحل نور الشريف، كما شاركت فى «السلطان الحائر» بطولة محمد رياض وحنان مطاوع، وكل من «عالم أقزام» و«كوكب سيكا» على مسرح الطفل.

عودة إلى التفصيل، الذى تنظر إليه «هالة» باعتباره التحدى الأكبر فى حياتها: «لقيت المقدرة واحدة بينا وبين غيرنا العاديين، فلو قعدوا على الماكينة ها يطلعوا إنتاج نفس اللى قدرت أعمله»، بخلاف تحدٍ آخر تستعد له، بالزواج من شخص عادى «طويل»، فقد كانت دائماً تتمنى ألا تتزوج من قزم حتى يكون أمامها فرصة لإنجاب طفل طبيعى، لا يمر بما عانته فى حياتها.

«باترون» من ورق الجرائد و«ترابيزة» مرتفعة و«دوّاسات» يصعب على الأقزام الضغط عليها، أخذت تتأملها «نيفين عبدالله»، فلم تكن تتخيل أن تتعلم يوماً ما التفصيل، أو تخرج من بيتها من الأساس، وهى التى تفشل فى عبور الطريق وتتعثر أثناء صعود وسائل المواصلات، أو حتى تتخطى درجة رصيف، وتكاد تفقد حياتها فى تلك اللحظة.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل