المحتوى الرئيسى

جمهورية الأعداء لنادين أبو زكي... الرجل الذي اخترق الريح

03/25 02:38

كتاب نادين أبو زكي الجميل عن نزيه خاطر هو تكريم لصديق لا يجعل منه أيقونة ولا رمزاً، نزيه خاطر الذي خاض حروباً ثقافية وزاوج بين الثقافة الشاملة وسهوة الحياة لم يترك أسرة ولا أولاداً ولا كتباً

لم تكن تربطني بنزيه خاطر علاقة خاصة أو صداقة وثيقة، ليس بسبب فارق السن أو اختلاف النظرة إلى الفن، والشعر على وجه الخصوص، وهي فوارق لا تحول دون بناء العلاقات الشخصية وتوكيد عرى الصداقات. ولكنني كنت أحاذر الاقتراب من الرجل الذي أحاط نفسه بهالة من الغموض، وحرص على إسدال ستار ملغز بينه وبين معظم عارفيه من المشتغلين بالثقافة، عدا قلة لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليد الواحدة من الأصدقاء المقربين. وهو الحذر نفسه الذي انتابني إزاء رفيق شرف الذي لم يدفعني الافتنان بسحر رسومه ولوحاته إلى الاقتراب منه واقتحام عزلته في المقهى، خشية أن يفسد مزاجه الصعب إعجابي بأعماله ومنجزه الإبداعي. ومع ذلك فلا أستطيع ادعاء غياب الكيمياء الشخصية بيني وبين الناقد الذي كان يتهيّبه الرسامون والمشتغلون بالمسرح والفن إلى حد غير مسبوق. ذلك لأنني عرفت كيف أنظم اختلافي معه، وهو المنحاز في الشعر إلى حساسيته الفرنسية المتصلة بالقطع مع الماضي والذهاب إلى أقصى حدود المغامرة التعبيرية، وكيف أصغي إليه باهتمام زائد وهو يثني على بعض ما أكتبه، فيما يسدد ملاحظات قاسية إلى البعض الآخر، داعياً إياي إلى التخفف من كل إرث والتمرد على الآباء في الطريق إلى اكتشاف اللغة والعالم.

كان نزيه خاطر مزوداً بكل ما يحتاجه البشر لامتلاك الكاريزما التي تجعلهم محطاً لأنظار الآخرين وإعجابهم من جهة، ومحطاً لسخطهم وكراهيتهم وخوفهم العدائي من جهة أخرى. وهو لم يكن يمانع في ذلك بأي حال، بل كان يرى في السجالات والحروب الثقافية الضروس التي يخوضها مع الآخرين برهاناً دافعاً على عافية الثقافة وحراكها الحيوي، فيما كانت تضجره المحاباة والتملق وإخضاع النقد لمنطق المجاملات والعلاقات العامة ومراعاة المصالح المتبادلة التي تحوّل المدينة وثقافتها إلى مستنقع آسن. لهذا كاد نزيه أن يكون طرفاً أساسياً وفاعلاً في معظم حروب الحقبة الممتدة من أواخر خمسينيات القرن الماضي إلى أوائل الألفية الثالثة. وكان من ناحية ثانية عاصفة من الشبق والولع بالحياة مختزلة في جسد. لذلك لم يكن بمستطاعه أن لا يكون ما كانه في حياته، وأن لا يصرف طاقة نفسه الفائضة عبر ذلك التربص الشهواني الذئبي بالمرأة ووجوه الجمال الأخرى، أو عبر تسديد حواسه باتجاه الألوان والكلمات وحركات الأجساد على خشبات المسارح، وصولاً إلى الشعر الذي كان، في تقديري، أضعف الحلقات المعرفية لدى خاطر المحصن بثقافة موسوعية عالية، وبمنبر جريدة «النهار» الذي كان قادراً من خلاله على تكريس فنانين مبتدئين، كما على خلع فنانين مكرّسين عن عروشهم.

في سني حياته الأخيرة هدأت أعاصير نزيه خاطر إلى الحدود التي بدا معها شخصاً آخر غير الذي كانه في عتوّ يفاعته وشبابه. وقد بلغ انكسار روحه الذروة حين تزامن إخراجه المفاجئ من منبر الجريدة التي وهبها حياته برمّتها، كما فعل شوقي أبي شقرا وأنسي الحاج وعصام محفوظ، مع اعتلال خطير في وضعه الصحي جعله يوزّع وقته بالكامل بين منزله في الحمراء وطاولة صغيرة في مقهى الكوستا، تتيح له أن يتذكر مجد الهورس شو الذي أقيمت الكوستا على أنقاضه، وأن يكسر عزلته المريرة بالتحدث إلى بعض من تبقى من أصدقائه القلائل. وفي تلك الحقبة بالذات اقتربت من نزيه وشاطرته العديد من الجلسات التي كشف من خلالها عن عذوبة في نفسه لم تكن من قبل بادية للعيان. بدا نزيه رقيقاً وأبوياً بكل ما للكلمة من معنى، فيما أنفاسه المتقطعة كانت تكشف عن خرابه الداخلي، الذي لم ينل رغم ذلك من ترفعه وكبريائه المزمنين. ولم يكن حديثه المكرر إذ ذاك عن رويسة النعمان، قريته في الجبل اللبناني، وعن عائلته ومعارفه هناك سوى تعبير واضح التمهيد لعودته الأخيرة إلى أرض بداياته الأم، وعن رغبته في المصالحة مع المحيط الذي انشق منذ صباه عن عاداته وتقاليده وموروثه الثقافي.

أول ما لفتني في كتاب نادين أبو زكي «نزيه خاطر جمهورية الأعداء» هو عنوانه الغريب والصادم وغير المتوقع. ورغم أنني أعرف، كآخرين كثر، مقدار ما أثاره نزيه خلفه من غبار المعارك وما «أفلح» في تحقيقه من عداوات، إلا أن عنوان الكتاب لا يشي كثيراً بما يتفجر في داخله من طوفان المشاعر الآهلة بالوفاء لأحد أكثر نقّاد الفن سجاليّة واحتفاءً بالاختلاف. أعترف في هذا السياق بأنني أقبلت على قراءة الكتاب بشيء من التوجس والفتور، لشعور مسبق لديّ بأن العمل لن يكون في أحسن أحواله سوى عمل أرشيفي عادي تتخلله تقارير عن الكاتب الراحل مستقاة من أقوال وآراء أصدقائه أو خصومه. غير أن ما وقعت عليه كان تكريماً من نوع خاص للمثقف الإشكالي الذي بدا لعقود عدة جزءاً من صورة بيروت وروحها المشرعة على التجدد والاختلاف والمغامرة. ولا يحتاج المرء إلى كبير جهد لكي يفتتن بالكتاب ويتابعه بشغف بالغ منذ صفحته الأولى وحتى غلافه الأخير. فعلى مدى ما يزيد عن المئتين والعشرين صفحة لن يحس أحدنا بالملل أو تراجع منسوب الحماسة أو ترهل اللغة، أو تأجيل القراءة إلى وقت لاحق. ففي هذا البورتريه النادر الذي ترسمه أبو زكي لشخصية خاطر يتضافر السرد الإخباري مع الحوارات المتقطعة وتعقب السيرة وشهادات الأصدقاء والخصوم، والوقوف على الظلال المتعاكسة للحيوات الغزيرة التي اجتمعت في رجل واحد. وهو ما يكشف عنه قول نزيه للمؤلفة: «أظن أن جسدي يعيش في حيوات متعددة وأزمنة متعددة وأماكن متعددة. إننا نسافر في الجسد نفسه ونبدّل جسدنا، في المخيلة نفسها ونبدل مخيلتنا، وفي اللغة نفسها ونبدل اللغات».

قد يكون الرحيل هو «التيمة» الأساس التي تتكرر دائماً على لسان نزيه خاطر وفي مقالاته ومحاوراته. وهذا الرحيل لا يتجسد فقط عبر الجغرافيا الواسعة التي تلقفت خطى الكاتب وهو يتنقل من خلال عمله في «النهار» بين عاصمة وأخرى، بل عبر ضجره من الإقامة في لغة واحدة أو موقف واحد أو مقاربة واحدة للأشياء. وعلى طريقة كونديرا يعترف خاطر للمؤلفة بأنه أينما حل يتملكه حنين الترحال إلى مكان آخر. والآخرون بدوا بالنسبة إليه جواز سفر إلى «الهناك» حيث يريد أن يرى نفسه في مرايا غريبة وغير مألوفة. لهذا السبب أيضاً كان يدفع المرأة التي يعشقها إلى تبديل نفسها لتتحول إلى خلافها كل صبيحة. وإذا يئس من تحقيق ذلك تركها إلى سواها. وهو لا يتردد في الإعلان عن خساراته العاطفية التي تسببت بها مزاجيته المفرطة، أو عن القول «هجرتني نساء كثيرات، وأحببت النساء أكثر مما أحببتني». والأجمل من هذا البوح النبيل هو الربط بين شغف الرحيل والانتماء الريفي للناقد المحارب الذي يقول في مكان آخر «إنني ابن ضيعة، وفي كثير من الأحيان، حين تهب الريح أرتدي ملابسي وأخرج. أشعر إذ ذاك بأنني أخترق الريح، لأن الريح في ضيعتي مذهلة، لا تكل ولا تمل. ولقد اخترقت الحياة مثلما كنت أخترق الريح في ضيعتي».

سيكون من الصعب أن يُختزل كتاب نادين أبو زكي عن نزيه خاطر بصفحات قليلة أو أفكار قليلة. ومع ذلك فإن كل ما يتفرع عن تلك الشخصية المركّبة من وجوه العيش ومسالكه يتجمع في كلمتين اثنتين هما «شهوة الحياة». ففي كنف هذه الشهوة العارمة يولد عشق الناقد الاستثنائي للفن، رسماً ومسرحاً وسينما وموسيقى وصولاً إلى الشعر الذي لا يحتل موقع الصدارة بين أولويات الكاتب الراحل. وفي كنف هذه الشهوة أنّث نزيه كل ما وقعت عليه عيناه، ورأى إلى المدن أشكالاً وتجليات مختلفة لأنوثة العالم. أما بيروت فظلت بتنوعها وفضائها الحر وشوارعها ومقاهي رصيفها ولغاتها وطقسها الشهواني، حبيبته وعشيقته التي تحسن الانقلاب على نفسها كلما ركنت إلى صورة أو أسلوب: «أعتقد أنني مغرم ببيروت لأن بيروت تتبدل في كل ساعة. إنها ليست مدينة متحركة بل مائية. أنت في المدينة مثلما تكونين في البحر عندما تسبحين. بوسعك المضي في جميع الجهات وجسدك دائماً هو الذي يطفو. بيروت بحر يطفو المرء على سطحه».

لم تحاول نادين أبو زكي، في كتابها الرائع، أن تجمّل صورة «بطلها» الراحل، كما يفعل الكثيرون بعد موت أصدقائهم. لم تحوّله أبداً إلى أيقونة أو أسطورة، بل انحازت إلى الحقيقة بوجهيها الأبيض والأسود، كما بالألوان الأخرى التي تتوسطهما. وحين تحدثت عن ثقافة خاطر الواسعة أو عن قدرة قلمه الماكر على تكريس فنانين يحبهم وتنصيبهم نجوماً في عالم التشكيل، وعلى تحجيم آخرين وكسر شوكتهم بقسوة، فهي لم تكن تجافي الحقيقة في شيء. لا بل إنها حاولت بذكاء أن تجد رابطاً ما بين برج العقرب الذي يقع الكاتب في فلكه، ولسعاته النقدية التي أصابت بسمّها الكثير من المشتغلين بالفن.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل