المحتوى الرئيسى

«الألم يشل القلم»

03/25 02:38

هكذا أجابني جورج طرابيشي في رسائلنا الأخيرة التي تبادلناها في شباط 2016، فباح لي بأن المأساة السورية جعلته لا يستطيع الخروج من صومعة اليأس والألم، وأن «الألم يشل القلم». وكان شديد الأسى لانفكاك أصدقائه، خصوصاً المشارقة، عن التواصل معه في منفاه الباريسي. وكم أفرحتني إحدى رسائله التي تراءى لي منها أنه بدأ يخرج من «صومعة اليأس والألم»، وأنه استعاد القلم وتغلب على الألم، وشرع في لملمة أوراقه، ويستعد لتوريق كتاب جديد. قال لي: «الصديق الصديق صقر، رسالتك بلسم، وهذا بالمعنى الحقيقي لا المجازي. فحال قراءتي لها مثنى وثلاث وجدتني أنفض عني غبار اليأس والألم، وأعود إلى فتح أوراقي التي كنت شرعت بكتابتها قبل أربع سنوات، ومدارها على دعوى الإعجاز العلمي للقرآن، وهي الدعوى التي أخذت في السنوات الأخيرة، كما تعلم، أبعاداً أيديولوجية «موسوعية» غير مسبوقة. وكنت قد حشدت مئات بل آلاف الشواهد، لا أغالي، بدءاً من مأزق المسيحية القروسطية أمام الفتوحات العلمية للعصر الحديث، ومروراً، بعد ذلك، بكل تفاسير القرآن لدى السّنة كما لدى الشيعة، وهو عمل كان سيقتضي مني زمناً لا يقل عن ذاك الذي كرسته لنقد الجابري. وكل ما آمله ألا تعود همتي إلى الخمود، ولا سيما إذا أخذت المأساة السورية أبعاداً أشد مأساوية بعدُ (...). لك دائم صداقتي في هذه الأيام التي انعدم فيها لدى المثقفين العرب ـ وخاصة المشارقة ـ وجود الصداقة (رسالته إليّ في 12/2/2016).

اعتقدت أنني فعلت أمراً ثميناً حين حفزت جورج طرابيشي على إمرة قلبه بالتوقف عن الوجيف، وأن يومئ إلى مشاعره بأن توقف الارتعاش المضني، وأن يستعيد القلم الذي يورق دائماً بين أصابعه فكراً ثاقباً ونقداً مدهشاً. لكن الموت دهمه، ودهم خبر رحيله كياني، وأورثني حزناً دامعاً، وكدت أقترب من «صومعة اليأس والألم» بعدما توهمت أن جورج طرابيشي سيهدي إلينا قريباً كتاباً جديداً.

جورج طرابيشي سحقته الآمال المجهضة والأحلام العاصفة، فاعتقد ان كتاباته في النهضة والتقدم والحداثة والتنوير والعلمانية والديموقراطية أوشكت أن تنقف أزهاراً، وبدا له كما لو أن القطاف قد حان، لكن رياح الإرهاب والتكفير ذررت أزهاره كغبار الطلع، وعلم أن ما يجري في بلاده سيؤدي، بلا ريب، إلى استبداد الماعز الخارج من كهوف تورا بورا أو من الصحاري القاحلة، بالمراعي البهية التي سقاها ببصر عينيه ومداد عقله طوال ستين سنة من التفكير والكتابة، وانتظر أن تُخرج هذه الأرض رياحينها، لكنها أخلفت وعدها وأقحلت، فانزوى في صومعته كأنه يردد: «نفسي حزينة حتى الموت».

كثيراً ما ردد جورج طرابيشي أن الحداثة الغربية صنعها الفلاسفة. أما إخفاق الحداثة العربية مسببة غياب الفلاسفة، ففي العالم العربي هناك مشتغلون بالفلسفة، ولا يوجد فلاسفة. ومع ذلك تطلع إلى تجديد النهضة العربية على قاعدة الولادة الثانية للنهضة كما حصل في أوروبا التي عاودت الإقلاع نحو الحداثة في القرن السادس عشر بعد سنين من الظلام. وبهذا المعنى فإن جورج طرابيشي كان، بحق، مرحلة فائقة الأهمية في مسيرة طويلة من التنوير والنهضة والتقدم ربما بدأت بشبلي الشميل وفرنسيس المراش وعبد الرحمن الكواكبي، صعوداً إلى منصور فهمي وسلامة موسى وطه حسين وعبد الرحمن الشهبندر وأدونيس. وهو، إلى ذلك، مثل كتاب موسوعي متعدد الأجزاء والفصول، على غرار مفكري عصر التنوير الأوروبي، إذ كتب في الأدب والنقد الأدبي، وفي الفلسفة والتحليل النفسي والدين والتاريخ والتراث والفكر والثقافة والسياسة والترجمة، فكان راهباً في صومعة الفكر التي أبقى جمرة المعرفة مشتعلة بين أصابعه. وجورج طرابيشي كان من ألمع أبناء جيله الذين خاضوا غمار التحولات الفكرية المتعاكسة بعد هزيمة عام 1967، حين راح كثير من القوميين يتحولون أفواجاً إلى الماركسية، وعندما شرع بعض الشيوعيين في التحول إلى القومية أمثال ياسين الحافظ الذي انفتل من الشيوعية إلى البعث ليحاول أن يمركس البعث على منوال صديقه الياس مرقص الماركسي ـ الناصري.

وهذا اليسار الحديث لم يظهر من داخل الأحزاب الشيوعية القديمة، بل من رحم الأحزاب القومية المضطربة. وفي هذا الشوط ساهم جورج طرابيشي في نقل التفكير القومي من الرومانسية والأيديولوجية إلى العقلانية. ولعل سجاله مع محمد عابد الجابري كان من أمتع السجالات الفكرية في مطالع الألفية الثالثة، وتمكن بمهارة صانع السجاد الحلبي من أن «يفصفص» مؤلفات الجابري («تكوين العقل العربي» و «نقد العقل العربي») وينزله عن مكانته المزوّرة كما برهن ذلك في كتابه المهم «نقد نقد العقل العربي»، حتى أن أحد الظرفاء راح يردد أن محمد عابد الجابري عبقري بلا شك، فقد كتب كتباً عدة تشكل معاً موسوعة كبيرة عن شيء غير موجود اسمه العقل العربي.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل