المحتوى الرئيسى

أشرف السركي يكتب: سيد درويش وبديع خيري ومدرسة الدراما الغنائية

03/23 13:13

حالت انتكاسة ثورة 19 دون استكمال مشروع سيد درويش في الدراما الغنائية التي حقق سيد درويش بتبنيه لها النقلة النوعية التي ما كان لها أن تنجح إلا بمحتوى قومي شأن اقرانه من المؤلفين الأوربيين والتي تحققت باستناده لقوالب الدراما كلغة تعكس رؤيته في ثورة 19التى سيطرت على كل اهتمامات المصريين حيث تراجع التطريب والمونولوج والطقطوقة وباقي القوالب الكلاسيكية عن مسايرة الظرف التاريخي وقد حاربت جميع الحكومات بعد 19 مدرسة الدراما الغنائية كأداة جديدة عكست نبض الشارع وعبرت بجلاء ولأول مرة عن فكرة الثورة رغم هزيمة الثورة العرابية وكانت لسان حال الشعب واداة من ادوات نضاله فما كان من الاستعمار والسرايا والرجعية الا ان تشوه تجربة الدراما الوليدة و صاحباها بديع خيري وسيد درويش.

 فلن ينسى التاريخ لمصطفى بيه رضا اول مدير لمعهد فؤاد الاول وقوفه في بهو المعهد والقاؤه النوت الموسيقية لاعمال سيد درويش على الارض وركلها بقدميه مع ما تلفظ به من رفض لهذا النوع من الموسيقى واتهامها بافظع الاوصاف حيث كان يمثل الثقافة الارستقراطية الرجعية والتركية.

 هذا الموقف تكرر بشكل آخر مع عبد الوهاب فهاجموه ايضا وكان سر هجومهم غير المبرر انهم استشعرو دماء سيد درويش تسري فى عروقه، ولم يكن هذا خاف عن عبد الوهاب وهو يري المسارح التى غنت للوطن وقد تحولت لكباريهات ورغم ان عبد الوهاب يعتبر الابن البكر للمدرسة الدرويشية الا انه استشعر باستحالة تبنى الافكار التي تبناها بديع وسيد اضافة الى ما احاطت به الارستقرطية من رعاية جعله يبدأ مشروع جديد يتمثل روحه الشيخ سيد الرومانسية ليبدع طربا مصريا خالصا جديدا به بعض مفردات الدراما من تصوير و تعبير نتيجة اكتشافه لقوانين الدراما و خاصة القومي منها فجاءت روائعه في كليوباترا والكرنك والجندول وغيرها وجاءت رائعته الفريدة مجنون ليلي من عبدالوهاب برسالة لكل معنى بالدراما أثبت فيها إيمانه الحقيقي بالدراما الغنائية المكتملة وتمكنه من ادواتها وان كانت لم تتمثل البعد القومي في موضوعها فلم يكن ذنبه فقد غابت الظروف التى تجعله يواصل مدرسة الشيخ سيد واهمها الحرية التى جعلت المبدع لا ينشغل الا بمحتواها القومى والذي حاربه القصر والاستعمار و الارستقراطية بشراسة ولذلك دعونا نتعرف على الدراما الغنائية:

 •   لا تعيش الدراما الا فى مناخ ديمقراطي ولذلك تتنحى فى الأنظمة الدكتاتورية والفاشية والدينية شأنها شأن الديمقراطية  فكلتاهما تقومان على التنوع و التعددية و بالتالي الصراع.

 • يجسد المسرح فكرة الدراما في كونها تتيح تفاعل او صراع بين افكار ممثلة في شخصيات تدير هذا الصراع علي خشبة المسرح و استدعي ذلك بالطبع مؤلفين يراعون ذلك من خلال روايات تتحقق فيها شروط الدراما و نشات الدراما المسرحية و هي ما تعنينا فى هذا المقام فى اوروبا ابان عصر النهضة ثم توازى معها ظهور مسرحيات غنائية شعبية تعرضها فرق متجولة تتناول قصص شعبية اصبحت اوبريتات صغيرة حيث بدات تستقر فى المدن وتعرض علي مسارحها و في ايطاليا بالذات حيث تطورت الاوبريتات و ظهرت الاوبرا فى مواجهة المسرحيات الدرامية التى تتناول موضوعات جادة و فى مواجهة الاوبريتات الشعبية الخفيفة ، فرض ذلك اوضاع طبقية كانت قد استقرت و شهد القرن التاسع عشر انفتاح مصر علي الثقافة الاوربية صاحبها هجرة اوربية كبيرة دعت اليها اتفاقية لندن للحد من طموحات محمد على و بذلك انتقلت جماعات من مختلف البلدان الاوربية و ضمت موسيقيون . 

• قامت انجلترا باحتلال مصر اخر القرن التاسع عشر و كانت تعد للبقاء فيها فحولت مصر إلى طريق ارادت به تدمير الروح المصرية الموروثة ومهد وجود الاجانب المتزايد وذهابهم الى كل ركن فى مصر الى تحقيق مخطط الاستعمار الانجليزى فى تغيير اهتمامات وتقاليد وعادات المصريين فى حياتهم اليومية والمزاج العام ومنها الغناء فشجعت على انتشار الملاهى التى دارت فيها اكبر مؤامرة على الوجدان المصري حيث استعانت الملاهى بسواقط النساء من المصريين والاجانب وانصبت اهتمامات المغنيين و المغنيات بتوافه الافكار فكان عصر انحطاط ما بعد الاحتلال اضافة الي الخمور والعاب القمار وسباق الخيل وبذلك اخترقت كل الفئات الاجتمتاعية. 

•         في هذا الزمن كانت اماكن السمر التي يرتادها المصريين في الريف هي الراوى علي الربابة و المناسبات الاجتماعية بكل اشكالها و الدينية من قرائة القران و الانشاد الدينى  الابتهالات و التوشيحات الدينية و الحضرة التى كانت تقام فى المساجد و المنازل و الصييطة وهم مغنون الريف العظام اما فى المدن و الحضر فكانت ايضا قهاوي بها شاعر الربابة و كان يجتمع فيها الصهبجية و هم حافظون للموشحات و اغانى التراث و منهم ظهرت مواهب بجانب العوالم الذين كانو يسكنو في اماكن خاصة بهم و يقومون باحياء حفلات العرس و مناسبات الحضر المختلفة و يتركز فيها الموسيقيين و كانوا يسمون بالاتية غير فرق الزار.

•     على الجانب الاخر كانت الطبقة المصرية الغنية تقيم حفلات ساهرة فى قصورها يغني فيها مشاهير المطربون قوالب غنائية مصرية تتميز بخصوصية تفرقها عن الغناء التركى من ادوار و موشحات و قصائد  حتى ان الخليفة فى اسطنبول كان يستضيف كبار المطربين للبقاء لبعض الوقت لاحياء احتفالات الخلافة .

• وفى نفس الوقت ظهرت مسارح فى روض الفرج و عماد الدين تعرض اوبريتات خفيفة للجمهور المصري و اثرياء الريف متاثرة بعروض الاجانب و خاصة الاوبرا حيث اختارو روايات من التراث ليحاكوا المسرحيات السائدة فى وقتها ولكنهم قدمو الشكل على المحتوي في طريقة التنفيذ حيث كانت طريقة الغناء فى هذه المسرحيات تقوم علي المنلوجات ذات المزاج الطربى فيستدعى ذلك توقف الحدث على المسرح حتى ينتهى الغناء فيعود الجزء التمثيلى مرة اخري و وصل الشيخ سلامة حجازي الى قمة الشهرة فى هذا الوقت . 

•دارت رحى الحرب العالمية الأولى وامتلأت القاهرة والإسكندرية ومدن القناة بجنود الامبراطورية البريطانية حيث امتلات ملاهى القاهرة والاسكندرية بهم طلبا للمتعة والتسلية مما استفذ المصريين. فى هذه الاثناء نشأ سيد درويش و تربى علي هذه الانتهاكات التى كونت وعيه الوطنى حتي سمع عنه سلامة حجازي و زاره و اسطحبه معه للقاهرة .

  • زار الشيخ سيد مسارح القاهرة و بدا عمله بها بنجاح كبير و بافكار جديدة استقاها من الغناء و الموسيقي التى استمع اليها فى الاوبرا و الكنائس المصرية و الاجنبية اضافة للمخزون الذى اتى به من الاسكندرية و بدات تجربته التى قدر لها الخلود عندما قابل الكاتب و الشاعر بديع خيرى فكان بديع المدرسة التى تعلم فيها سيد درويش و قدمت له الاجابات عن الاسالة الصعبة التي طاردته منذ الطفولة و كان وقتها زعماء الامة يناضلون من اجل الاستقلال و من هنا تزاملا معا فى انجاز اكبر مشروع غنائى عرفته مصر فى العصر الحديث و الذى جعل الدراما الغنائية المنطلق الذى يصوغ افكارهما و موهبتهما علي خشبة المسرح فالف بديع مسرحيات كتب لها غناء الشخصيات كل بلهجته و طابعه و كانت عبقرية سيد درويش فى تجسيد هذه الشخصيات فاكتشف عالم جديد تماما تتحاور فيه الشخصيات و المجاميع و الاوركسترا فجسد شخصية ابن البلد و الصعيدى و السكندري و المالطى و القبرصى و الطليانى و اليونانى و السودانى و النوبى والبدوى و اعتنى باغانى المهن المختفة و بذلك جعل من الشعب المصري بمختلف فئاته ابطالا لمسرحياته الغنائية و لذلك خلده المصريين رغم الانظمة المعادية للدراما • كانت البلاد تمور بالكفاح ضد الاستعمار فاختار بديع موضوعات تعبر عن طموحات الشعب و استعانت الفرق الاخرى بسيد درويش حتي جاء يوم كانت كل مسارح المحروسة تعرض مسرحياته الغنائية في نفس الوقت . و لم ينفرد سيد و بديع بمدرسة الدراما الغنائية بل كانو روادا لها و من وضعو اساسها الذى ظل يتفاعل مع كل مرحلة مرت بها مصر فى 26 اوبريت او اكثر و تاثر ملحنون عصره بما فعله مثل الشيخ زكريا احمد الذى توفي بعد ان لحن 56 اوبريت فيما بعد و الملحن ابراهيم فوزى و رغم معاداة نظام الحكم للدراما الا ان مدرسة الدراما الغنائية استمرت من خلال الاذاعة و السينما فيما بعد حيث انضمت لمسيرة الدراما مواهب كبيرة ما كان لها ان تثبت وجودها بدونها مثل محمود الشريف الذى ربط زواجه بام كلثوم بموافقتها علي بطولة المسرحيات الغنائية التى سيؤلفها و للاسف لم يتم الاتفاق فكانت خسارة القرن لانها كانت ستجدد امجاد مدرسة الدراما الغنائية و كذلك الملحن الاستثنائى الموهبة الاستاذ عبد العظيم عبد الحق الذى امتلك نكهة درامية في كل ما ابدع و يكفيه فخرا انه الوحيد الذى اختاره التلفزيون المصري فى اول انتاجه للمسلسلات في الستينات ليلحن تتراتها مثل الارض و الرحيل و الساقية و غيرها باعثا فيها روح مصرية فوضع اساس درامى تبعه فيما بعد الملحنون و قد تشارك كل من محمود الشريف و عبلد العظيم عبد الحق و عزت الجاهلى و زكريا احمد و غيرهم لسنوات في اثراء الاذاعة و السينما باعمال درامية ظلت حتى اليوم حية فى وجدان الشعب المصري . 

•      في هذه الاثناء كانت المدرسة التركية فى الموسيقى تتقاسم مع المدرسة المصرية النشاط الكلاسيكى و قد لعب القران الكريم و الغناء الصوفى و الغناء و الموسيقي الشعبية دورا عظيما فى الحفاظ على الشخصية المصرية فابدع قوالب تناسب مزاجه و حافظ على الروح المصرية في الغناء . 

•   انحسر دور المسرح الغنائي بمفهومه الذى اسس له بديع خيري و سيد درويش بعد ثورة 19 و تحول المسرح الى الكوميديا حتى اليوم بل اصبح اداة للتسلية و جاء ذلك علي هوي 23 يوليو فلم تجد انها ملزمة بتبنى اي مفاهيم في مجال الغناء غير ما هو شائع من الغناء العاطفى و الدينى و الذى تحول في جانب منه الى غناء وطني في المناسبات بتكليف من السلطة و كانت الحركة الثقافية خالية من رواد فى مجال الموسيقى الوطنية يدركو اهمية الدراما الغنائية فلم يروها الا فى برامج اذاعية و افلام و نسو تماما مرسح ثورة 19 اما الدارسين للتراث الاوربي فلم يكن في مقدورهم اكثر من ترديد تراث الاوبرا العالمية و نذكر

للراحل الدكتور الحفنى مجهوده فى اوبريتات سيد درويش هو و غيره من كبار الدارسين و لنا ان نتخيل مدى الخسارة الفادحة فى معاداة الحكومات بعد 19 للدراما الغنائية و قد بدا موسيقيون موهبون دراسة الموسيقي فى اكاديميات اوروبا و عندما عادو لم يجدو غير وظائف حكومية و كتابة الموسيقي التصويرية للافلام فهذه الطاقات الجبارة لو دفع بها الى المسرح لتحقق حلم سيد درويش و لكانت نهضة موسيقية حقيقية و لذلك نثمن دور الدكتور الحفنى المجيد في توزيع و تسجيل اعمال سيد درويش و الذى لم يتكرر و لكن عداء يوليو للديمقراطية حال دون تواصل عرض اعمال سيد درويش الا قليلا ( لن يغفر لها تسمية قاعة موسيقية باسمه ) فلم يسمح من الاساس بالسماح لمدرسة الدراما الغنائية من النهوض مرة اخري بانتاج  روايات على منوال و فلسفة الدراما المسرحية التى تبناها بديع خيرى و سيد درويش اعنى ان تكون ضمير الشعب  تعبر عنه فقد احتكر نظام يوليو ذلك و رفض ان يعيد الشعب علي خشبة المسرح مرة اخري و ظل حتى اليوم يحتله  .

•  من ناحية اخري ظل المسرح الغنائي فى ذاكرة الموسيقيين الوطنيين الدارسون فبرغم سيطرة المسرح الاستعراضى و فرق الفنون الشعبية فقد نجحو فى انتزاع اعتراف من النظام الذى تبنى المشروعات الفنية الغربية فى ان يعترف بما يسمى المسرح الغنائى و كان الاستاذ عبد الحليم نويرة مديرا لهذا  المسرح و كان متزوجا من شقيقة الرئيس السادات مما يسر له ذلك حيث كانت اول عروضه بالاوبرا . لكن كانت لمواضيع لا تمت للمزاج المصري و الواقع بصلة فمنها لرواياة فرنسية و اخري على نمط المسرح الكوميدى التجارى و قلما تحققت جماهيرية روض الفرج و عماد الدين لكن علي الاقل حققت اعتراف بمدرسة الدراما الغنائية المصرية رغم عدم استمرارها اكثر من سنتين 65_ 67 حيث توقف نشاط الفرقة بسبب الهزيمة ، فان لم تكن هذه لحظة الدراما الغنائية و رسالتها فمتى تكون ، فقد داهمتنا الهزيمة و عندنا مسرح غنائي فبدلا من التفاف كبار مبدعينا حوله استمر النظام في انهزامه امام الاعداء و اغلقه بلا عودة ( كما فعل بعد 5 يونيو في محاولته لامتصاص غضب الجماهير بتكوين لجان المواطنون من اجل المعركة و التى سرعان ما سرحها ) و كانت مصر في امس الحاجة الى سلاح الفن و الغريب انه  فى نفس الوقت استمرت فاعليات الثقافة الغربية المستقرة فى مصر من زمن الخديوى اسماعيل و ما ستجد فى عصر الثورة من اوركسترا سيمفونى و معهد الباليه و معهد الكونسيرفتوار الذى بنى بجواره قاعة سيد درويش وليس)مرسح) سيد درويش لعرض الحفلات الغربية و كان به الة اورغن رهيبة ( اكلتها الفئران بعد ذلك و تم تاجير القاعة للافراح بعد انتصار اكتوبر )  فكانت صورة لتاكل المشروع الناصري بسبب معاداته للحريات .

أهم أخبار فن وثقافة

Comments

عاجل