المحتوى الرئيسى

تحرير العقل لدى د. جابر عصفور: في تجديد الخطاب الديني

03/20 21:59

الباب الذى خصصه د. جابر عصفور فى كتابه «إلهام تحرير العقل»، يمثل محور معزوفة الكاتب، وتناول خلاله العلاقة بين الثقافة والدين، وذلك من خلال عدد من المنطلقات يمكن إبرازها فيما يلى:

1- أن التفكير فريضة إسلامية وفق عباس محمود العقاد.

2- الحق فى الاجتهاد والخطأ.

ويستعير الكاتب مقولة صديقنا المشترك د. محمود حمدى زقزوق "أن حرص الإسلام على ممارسة العقل لكل وظائفه التى أرادها الله كان هو السبب وراء الحرص على إزالة كل العوائق التى تعوق العقل عن ممارسة نشاطاته. ومن أجل ذلك رفض الإسلام التبعية الفكرية والتقليد الأعمى، وقضى على الدجل والشعوذة والاعتقاد فى الخرافات والأوهام وأبطل الكهانة. كما ركز الإسلام على المسئولية الفردية. وحرر الفرد من أى سلطة دينية أو دنيوية". (د. محمود زقزوق: هوامش على أزمة الفكر الإسلامى المعاصر ص12، ومشار إليه فى "تحرير العقل" ص 231).

إن المعنى سالف الذكر الوارد فى كتاب د. محمود حمدى زقزوق، وتسرى عليه دلالات كلمة/ اصطلاح ثقافة بالمعنى الواسع، أى "مجموع القيم والأفكار وأشكال الإبداع الفردى والجمعى المادى وغير المادى التى ترادف الوعى الاجتماعى من ناحية، وأسلوب الحياة أو رؤية العالم من ناحية موازية" (انظر تحرير العقل ص 232)، وهو التعريف الذى اختاره د. جابر عصفور لمعنى الثقافة. وفى هذا الإطار درس العلاقة بين الدين والثقافة على النحو التالى:

أولًا: الموازاة بين الدين والثقافة.

الأول يقوم على التفسير والتأويل الذى يتماشى مع مصالحهم واحتياجاتهم، وهو ما يتمثل فى الفكر الدينى (ص233).

الثانية: بوصفها بنية موازية من الأفكار والقيم والممارسات، وكلاهما قد يحدث فيهما تضاد أو صراع بين المكونات فى بعض المراحل التاريخية (ص234). لا سيما مراحل التغيير الجذرى أو التحولات العنيفة، والعمليات الفكرية الحادة، أو ما تسمى بعمليات التحديث المادية (ص234)، وتؤدى إلى الحداثة الفكرية من هنا تنقسم ثقافة المجتمع إلى قسمين متضادين:

قسم أقرب إلى الطليعة الثقافية تقف فى صف الجديد وقسم مقابل يلوذ بالقديم، لأنه ألفه وتعود عليه، وترتبط مصالحه باستمراره. وهو ما يؤدى إلى انقسام فى الثقافة وصراع بين طرفيها المتضادين. (أهل الجديد فى مواجهة أهل التقديم، وأهل النقل فى مواجهة أهل العقل كلاميًا وفلسفيًا).

ثانيًا: ماهية التجديد الثقافى والفكرى

السؤال الذى نطرحه هنا هل التجديد الثقافى والفكرى هو تعبير عن عمل عقلى أم التطور فى البنى المادية الاقتصادية والتقنية يؤدى إلى تغيرات بعد ذلك فى البنى الاجتماعية والثقافية، القيم والرؤى والممارسات، ومن ثم التغير الثقافى، وفى العقل والفكر الدينى الذى يعتمد أساسًا على بيئة سوسيو- اقتصادية، وتقنية تتسم بقدر نسبى من التسامح والانفتاح تؤدى إلى تحدى بعض الأفكار والمعتقدات الوضعية والممارسات الذهنية السائدة، وتدفع بعض رجال الدين والمفكرين إلى نقد بعض الأفكار الوضعية، والمرويات البشرية، والممارسات الذهنية السائدة، وتطرح أسئلة جديدة، وتسعى عبر التأويل  إلى البحث عن إجابات تتوافق مع أسئلة مجتمعها وعصوره واحتياجاته.

المشكلة الأساسية فى علاقة الثقافة بالدين فى مصر، تتمثل فى رأينا فيما يلى:-

1- ازدواجية النظام التعليمى بين التعليم المدنى الحديث والتعليم الدينى والإسلامى والمسيحى، والأخطر هو التداخل بينهما على نحو أدى إلى تبرير المناهج والمواد التعليمية الحديثة من خلال أسانيد وشروح دينية، بعضها وارد فى صلب هذه المواد على نحو يجعل النظريات والمفاهيم والأفكار الحديثة تعتمد فى مشروعيتها على الدينى على الرغم من التمايز فيما بينهم، وكرس ذلك المدرسون، والمدرسات من ذوى الاتجاهات الدينية السياسية المحافظةـ وفشوا الأفكار التكفيرية والثنائيات الضدية حول الحلال والحرام، وغيرها فى غير مجالها فيما بينهم.

2- عدم التمايز بين الدينى ومؤسساته وسلطاته، وبنيته وبين بنيات الثقافة العالمة والوسيطة، التى تعتمد على البنى الحداثية العقلانية، كمقاربات فى التفكير ومناهج، ونظريات ومقولات وممارسات عقلية وتأملية وبحثية، فى حقول العلوم الاجتماعية والفلسفية والقانونية والسياسية، والآداب والفنون، وبين المقاربة الدينية ومجالها وحدودها. هذا الخلط بين الوضعى والميتاوضعى فى غالب الخطابات الدينية، ومحاولة تديين مقاربة الثقافة العالمة كبنى وممارسات وإنتاج، هو تعبير عن سعى غالب رجال الدين ومؤسساته وجماعاته السياسية، لفرض هيمنة عقائدية وفقهية ولاهوتية وافتائية على الثقافة العليا.

يكرس هذا المنحى دعم السلطة السياسية -أيا كانت- لفقهاء السلطان ومبررى ولاية المتغلب السنى، والتحالف بينهما هو الذى يعطى هؤلاء التمدد، وخلطهم بين المعايير والقيم الدينية، وبين التخييلات الإبداعية والفنية، أو الإنتاج العقلى والبحثى الحديث.

3- التحول إلى الحداثة العليا بتعبير هابرماس، أو ما بعد الحداثة وفق إيهاب حسن، وليوتار أدت إلى إعادة خلط عديد من الأمور والحقول، ومن ثم تداخل الدينى مع الوضعى بحثًا عن إجابات لأسئلة وإشكاليات المعنى بعد سقوط السرديات الكبرى بتعبير جان فرنسوا ليوتار.

4- التداخلات بين الدينى والوضعى، والدينى والريفى فى المثال المصرى يعود إلى ظاهرة الاستقطاب الحضرى المشوّه والرث، كنتاج للهجرة من الأرياف إلى المدن وتزايد أعدادها منذ أوائل عقد الستينيات من القرن الماضى، على نحو ارتفعت معه معدلات ترييف المدن، والأخطر ترييف ثقافة المدينة والعلاقة مع الفضاء الدينى وقيمه وسلوكياته وذمته.

الحداثة هى ابنة المدن وثقافتها، وحركة التصنيع وعلاقاته وثقافته مع تراجعه منذ عقد السبعينيات من القرن الماضى، أدى ذلك إلى خلط وتداخل بين ثقافة المدينة، وثقافة الأرياف التقليدية التى تمددت داخل المدن، وبين الوافدين إليها، حيث سيطر نمط من التفكير الخرافى والأسطورى والماورائى ذو الطبيعة الجبرية التى تعتمد على تفسير الظواهر اعتمادًا على سطوة الطبيعة والأساطير، على إعمال العقل، ومن ثم تسييد التقليد والمألوف والعادات والقيم المحافظة.

5- تمدد الثقافة الريفية وأبناء الأرياف ومحمولاتهم وممارساتهم الذهنية وقيمهم التقليدية المهجنة بين الموروث الدينى الوضعى فى الأرياف، والمحافظة، إلى داخل غالب أجهزة الدولة وتركيبة النخبة السياسية الحاكمة فى ظل حكمى السادات ومبارك وحتى اللحظة الراهنة، وهو الذى يعطى بعضًا من التفسير للتلاحم بين السلطة السياسية الحاكمة والسلطة الدينية الرسمية، لا سيما فى أعقاب 30 يونيو 2013، والأهم حالة اللا مبالاة من بعض هذه الأجهزة إزاء بعض النزوع التكفيرى أو دعاوى الحسبة والازدراء الدينى، التى ترفع ضد بعض المثقفين، أو مطاردة بعض الروايات والقصائد.. إلخ والخلط بين الواقعى والتخييلى فى الإبداع.

6- أدت سياسات الانفتاح والخصخصة والعودة إلى اقتصاديات السوق المنفلت واتساع نطاق الفساد السياسى والإدارى والوظيفى إلى بروز ظاهرة عامة هى الأثراء بلا سبب، وانتقال بعضهم إلى مستويات ومكانة طبقية عليا، ومن ثم سعى بعضهم إلى توازن نفسى ما بين الأسباب غير المشروعة للتراكم الثروى، وبين الوضعية الطبقية الجديدة، ومن ثم وجد بعض هؤلاء فى بعض التفسيرات الوضعية الدينية أداة لتحقيق هذا التوازن، ومن ثم ساندوا بعض الدعاة الجدد. وخلط هؤلاء بين الدينى والمدنس، وبين بعض التفسيرات الغيبية الوضعية تبريرًا وسندًا لتوازنهم المفقود.

7- دور الحركة الإسلامية السياسية، والراديكالية، والسلفية والوهابية منذ منصف عقد السبعينيات، وتمددها الاجتماعى، وتوظيف السلطة السياسية للدين، وترك المجال العام لتحرك الحركة الإسلامية السياسية والسلفية، بل ومدّ نفوذها داخل أجهزة الدولة، والمؤسسة التعليمية فى مختلف مراحلها، سواء فى وضع المناهج أو التدريس.

8- توظيف السلطة السياسية للدين فى العمليات السياسية كمصدر للشرعية السياسية، وفى التبرير، والتوازن السياسى.

9- اتساع وانفتاح الأسواق الدينية الوطنية والإقليمية والكونية وتداخلها فى ظل سطوة السلفيات الإسلامية، والوهابية، وإيديولوجيات الجماعات السياسية الإسلامية، والإفتاء وحروب الفتاوى، وتسييس المذاهب الإسلامية أو المذهبية المسيسة، السنية والشيعية.

المتغيرات السابقة أدت إلى هيمنة الإنتاج الدينى الاتباعى والمتشدد والمتزمت على الإنتاج الثقافى والإبداعى، على نحو أدى إلى اختلاط وفوضى فى المجالات وعدم تمايزها.

ثالثًا: التجديد فى الخطاب الدينى: مدخل عام 

من هنا نستطيع فهم تعقيد أية محاولة أو سياسة دينية لتحرير الخطاب الدينى من الموروثات النقلية التقليدية والمحافظة، التى كانت تعكس أسئلة زمانها وسياقاتها وهموم المسلم آنذاك، ومن ثم تعد من قبيل الموروث الفقهى والتفسيرى الوضعى المرتبط بلحظات إنتاجه عمومًا، والاستثناءات للإنتاج الفقهى والتأويلى التجديدى تنظيرًا وتطبيقًا وممارسة، الذى يتجاوز حدود شروطه التاريخية، وغالبًا هذا الإنتاج التجديدى يبدو محدودًا.

من هنا التعويل على الجوانب الثقافية فقط لن يؤدى إلى تجديد الخطاب على النحو المطلوب، وفى الأجل القصير أو المتوسط، صحيح أن دور الثقافة فى التغيير من الأهمية بمكان، لكنه يحتاج إلى سياسة ثقافية ودينية جديدة، يتفاعل فيها الثقافى مع الدينى، سواء على مستوى تكوين رجال الدين أو مستهلكى الخطاب، إلا أن ذلك يتطلب توقيتات زمنية على المدى الطويل.

إن تطوير وتجديد السياسة الدينية والتعليمية والثقافية، تتطلب قرارًا سياسيًا يعتمد على رؤية وسياسة واستراتيجيات وآليات للعمل. فى هذا الإطار يمكن القول إن البدايات التأسيسية للتجديد فى الفكر والخطاب الدينى تتطلب اعتماد المبادئ التالية:

أولًا: فك اعتمادية الخطاب السياسى على الخطاب الدينى فى مجال الشرعية السياسية، وتوظيفه للدينى فى مجالات التعبئة والمساندة والدعم السياسى. وهو أمر يرتبط بضرورة التحول إلى الديمقراطية السياسية كنظام ومنظومة قيم وسلوك سياسى واجتماعى يؤمن بالحريات العامة، وعلى رأسها حرية الرأى والتعبير والإبداع، والحريات الشخصية، وحماية دولة القانون لهذه الحريات ومن يمارسونها.

ثانيًا: ضرورة تطوير النظام القانونى المصرى من الموروث الاستبدادى والتسلطى فى بعض نصوص القوانين السائدة، وعلى رأسها قانون العقوبات والإجراءات الجنائية، لا سيما النصوص التى تجرم ازدراء الأديان، والحسبة، وغيرها من النصوص المقيدة لحرية الفكر والتعبير والإبداع.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل