المحتوى الرئيسى

صرخة رضوى الأخيرة لحياة الأوطان

03/20 18:31

“كنت أسير في الطريق برفقة صديقين عندما غربت الشمس.. فجأة غدت السماء حمراء لها لون الدم.. توقفت وملت على السور .. وقد غلبني إرهاق لا يوصف .. كانت ألسنة اللهب والدم تمتد على الزرقة المسودة لمياه الخليج، واصل صاحباي السير، وبقيت واقفا أرتجف من شدة الخوف .. ثم سمعت صرخة الطبيعة هائلة وبلا نهاية”

ورقة صغيرة ألهمت الفنان العالمي إدفار مونش ليبدع لوحته الشهيرة “الصرخة” 1893 ولم تجد أديبة مصر الراحلة عن عالمنا مؤخرا أبلغ منها تعبيرا عن صدماتها التي تواكبت مع محنة وطن مقهور .

مذكرات رضوى عاشور لم يتسن لها مطالعتها والدفع بها للناشر، تركتها مكتوبة على لوح حاسبها قبل أشهر من رحيلها عنا1 ديسمبر 2014 ، وهي التي ظلت تحكي للعالم يوميات عربية بصوت مفعم أمومة وأستاذية معا .

وتعتبر “الصرخة” هي الجزء الثاني من مذكرات رضوى عاشور التي حملت اسم “أثقل من رضوى” وصدرت عن دار الشروق عام 2013، وقد رصدت خلالها رحلتها العلاجية المريرة خارج مصر وداخلها مع مرض السرطان وقد قدر أن تتزامن مع ثورة مصر الأولى 2011 لخلع نظام مبارك ثم الثورة الثانية ضد الرئيس محمد مرسي والتي انتهت بتولية حاكم عسكري للبلاد.

حفظت رضوى أسماء الشباب الضحايا وصورهم، لم تسجلهم كأرقام جوفاء بنشرة إخبارية متعجلة، كانت تدرك أن وجعهم لابد وأن يهز أركان البلاد ويغير مصائرها

وفي عز الهموم، لا يفوت رضوى الحكاءة الماهرة أن تعيد إليك بسمتك بعد أن وجدتك تبكي ألما، فهي تشعر أن نشر اليأس . خيانة لن تتحملها، وإن سعت لإخفاء موجات اكتئاب حادة ابتدرتها بشهورها الأخيرة . تقرر أيضا أن ترفه عنك فتأخذك ، لمتاحف العالم التي تأملت لوحاتها وتماثيلها وكأنها تزيح انثيال أفكارها القلقة عن الموت الذي يتربص بها كل لحظة، وللعلم فقد كتبت هذه المذكرات بينما كانت تقضي أوقاتا عصيبة بمستشفيات جراحة الأورام بأمريكا وكندا ومصر

رضوى تخاطب قراءها وكأنها على خشبة مسرح، تقول : هل فهمت أم تحتاج مزيدا من الشرح؟! اسمعني عزيزي القاريء وعزيزتي القارئة، تتحدى هذا الذي “برطم” غاضبا من سردها لسير نساء تأثرت بهن، وكأنه يريد أن تكون الهيمنة للرجال في الواقع وعلى الورق!

وبخفة ظلها المعهودة تقبض رضوى على الأمل رغم الألم، هل تتصور مثلا أن يشبه أحدهم القفص الحديدي المثبت بالرأس لدعم رقعة جراحية من أثر ورم بالمخ، بتاج نيرون المصنوع من خيرة فضل “السباكين” ؟! أو أن تعترف هي نفسها بأن حسها الموسيقى ضعيف فتستطيع تصدير النشاز بسرعة مذهلة

مذكرات رضوى لم تتعد الـ175 صفحة من القطع الصغير، ولكنها تغني وتشي بالكثير .. وكأنها قد قررت ترك وثيقة للأجيال القادمة عن سيدة شجاعة حاربت اليأس والمرض ، تماما كما تفعل مصر . تخلل الفصول الـ25 فصلان فارغان، وضعت رؤوس أقلامهما ولم يمكنها قدرها من مواصلة الكتابة، وكانت قد قررت قبل رحيلها بثلاثة أشهر أن تكف عن التدوين احتراما لـ”حرم الكتابة” !

“أسوأ ما في المرض أنه يكسر الكبرياء .. عبارة لسعد الله ونوس المسرحي السوري الكبير والذي تستدرك رضوى على حديثه فتقول : لا يا صديقي أسوأ ما في المرض أنه يربك ثقتك بنفسك فيتسرب إليك الخوف من أنك لا تصلح، ولن تستطيع . !

كانت رضوى تكتب سيرتها الذاتية بانهماك شديد، تعلم أن الوقت ليس بصالحها، تدون كل تفصيلة بمراسلاتها لأطباء الأورام بأمريكا والدانمارك، مئات التقارير وصور الأشعة والأقراص المدمجة، وتفاصيل مؤلمة لعملية تركيب رقعتين بديلتين لعظام المخ ، عبر جراحتين معقدتين للغاية، تنتهي كل منهما بغيبوبة تفيق منها بأعجوبة، وبدا بعدهما أنها كمن يحارب طواحين الهواء بلا أمل!

وستجري رضوى جراحة أخيرة للورم الرابض بتلافيف المخ ويكون رده أعنف فينتشر بثلاث بقاع بالمخ يتعذر بعدها على أقرب الأطباء إليها وهما د. أكمل وزوجته د. عزة بالدانمارك أن ينصحاها بمواصلة تلقي أي علاج كيميائي أو إشعاعي أو حتى جراحي، وأن تكون الرسالة : استمتعي بكل دقيقة قادمة بأفضل صحة ممكنة

في ظل نقاهة الجراحة تحن رضوى للماضي، تستعيد أبيات محمود درويش، الشاعر الفلسطيني الفذ، وهو على فراش المرض يقول :

وهم يخيطون لي كفنا بخيوط الذهب

رأيت بلادا تعانقني بأيد صباحية، كن

وهي لا تبارح أمتها ، فتتخيل أنها تحتسي القهوة مع زوجها الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي فوق قمة جبل الطارق والذي أبدعت بظلاله ثلاثيتها الشهيرة عن غرناطة . وذات يوم ترى نفسها بين نساء امازيغ تغزلن نسجية القدس ، وهي بالمناسبة “ليست للبيع”.

تعلن رضوى بصراحة امتعاضها التام من سياسات الرئيس محمد مرسي رغم أنها انتخبته بإرادتها لمواجهة احتمال وصول أحمد شفيق للحكم ، وهو آخر رئيس حكومة بعهد مبارك وابن نظامه البار، وقد كرست رضوى الجزء الاول من سيرتها لتبيان فساد نظام مبارك وما تبعه من محاولات رجاله للبقاء بالسلطة وكيف تدهور حال البلاد كثيرا قبل الثورة وبعدها ، وكيف راحت دماء الشهداء هباء .

نزلت رضوى مظاهرات 30 يونيو أملا بإجراء انتخابات مبكرة واختيار رئيس جديد للبلاد بعد أن تأكد لها أن نظام الإخوان لا يعمل باتجاه اهداف الثورة، ولكنها صُدمت بشدة من كم الدماء التي أريقت لفض اعتصامي رابعة والنهضة، صرخت : ما الداعي لكل تلك الأكفان ؟! ومتى يتوقف التدمير الممنهج لأحلام الشباب؟!

تتألم رضوى لضحايا تصادم قطار المجندين المصريين البسطاء، وضحايا على الجانب الآخر من النشطاء المحتجزين بسيارات الشرطة الزرقاء، وقد وثقت أيديهم جميعا وحبسوا بعلبة حديدية قاسية في عز الحر، ولوقت طويل، فمات من مات منهم وقضى الباقي نحبه بفعل قنبلة مسيلة للدموع ألقيت عمدا بينهم! تتذكر رائعة كنفاني “رجال في الشمس” وهم فلسطينيون لم يدقوا الجدران، تعبير رمزي عن الانتفاضة.

تتساءل الكاتبة: ألم يكن من الأجدر أن نموت قبل أبنائنا ؟ ! .. تتابع عن كثب ما تلا ذلك من أحداث مؤسفة كفض مظاهرات الطلاب بالجامعات وإسقاط العشرات قتلى ومصابين ، والتربص بكل النشطاء والثوريين والرافضين للممارسات التي تحدث على الأرض والتنكيل بهم وهو ما تسميه رضوى بـ”يوميات موت معلن” للجامعة والحياة بمصر .

من هؤلاء يبرز علاء عبدالفتاح، وهو نجل الناشط السياسي الكبير د. سيف الإسلام عبدالفتاح والقيادية د. ليلى سويف، اسرتان تلخصان مسيرة مصر النضالية ، وقد كُتب عليه كما كتب على أبيه من قبل أن يذوق مرار الاعتقال والسجن مرات ومرات بعيدا عن أسرته وأبنائه وهم يكبرون .

تحوي سيرة رضوى مراسلات كثيرة بين علاء وأسرته، معظمها نشرته شقيقته منى على صفحتها الإلكترونية، والمراسلات تشي بهم ثقيل ، فهو يتساءل عن معنى الثورة والنضال في بلد كل من فيها يفاوض، حتى على الدماء! وما الذي سيربحه حين يحرم من حضن ابنه في عز حاجته إليه ؟!

تقول : كانت الثورة بمجرياتها اذن مدرسة هائلة تقدم كل لحظة التربية والتعليم السياسيين لكافة طوائف الشعب وتؤمن لهم انتقالا سريعا من الانزواء عن الفعل السياسي إلى المشاركة فيه والانهماك وتصدر أعداد هائلة من الاطفال الذين استهواهم الدرس ما يعطي المشروعية لتمردهم على سطوة اي سلطة قابضة .

لم يتسن لرضوى عاشور أن تكتب عن ألبومات الصور فتستنطق ذكرياتها، لكنها تتذكر حين كانت طالبة الماجستير بالستينات، تنطلق بخفة فوق سلالم دار الكتب بباب الخلق، تتأمل زخارف المصاحف المطعمة بماء الذهب وتستوحي منها شخصية الوراق الذي يموت بحرق مخطوطاته في “ثلاثية غرناطة” . وستكون تلك السلالم شاهدة على الإرهاب الذي أتى على الدار إثر تفجير مبنى مديرية أمن القاهرة .

صورة أخرى لا تنساها رضوى لابنها البار الشاعر تميم ، وهو يسعى لإسعادها بشتى الصور ولأخذها برحلة للمجر، فيما كان هناك صغيرا يسعى لأمان بين أسرة حرمت من دخول مصر .

تسترجع رضوى صور نساء حفرن أخاديد عميقة بحياتها، وأولاهن فاطمة موسى والدة ليلى سويف وجدة الناشط علاء عبدالفتاح، وكانت أستاذة للأدب الإنجليزي ، أشرفت على رسالة رضوى للماجستير بدأب وكانت تطرق بابها فجأة للاطمئنان وتتواصل مع أطباء كي ينقذوا حياتها. وظلت على حالها جدة طيبة لأسرة ممتدة تجاوزت مع الوقت رباط الدم فشملت أسرة رضوى عاشور .

تتذكر رضوى أسرة علاء عبدالفتاح التي تتسيدها نساء فاعلات ، وقد بعثن برسالة واضحة أن الخوف لن يلتهم حلمهم أبدا

أما الرائدة النسائية لطيفة الزيات فقد جمعتها بها صداقة تسميها عبر “أسلاك شائكة” فهي امراة مكافحة وكانت ثورية تهتف من على المنابر ضد السياسات الغاشمة للقصر والاحتلال. وقد أثرت ساحة الحياة بروائع الفكر والأدب ومنها “الباب

ومن المهمشات، تستدعي رضوى الدادة وديدة السودانية التي مات ابنها عنها، كانت تأتي للأطفال بالهدايا التي تلتهم عادة مرتبها كاملا، ولكنها تسعد بسعادتهم، وقد أصروا على الاحتفاظ بمصاغها واخرجوا قيمته رحمة لروحها .

جدتها لأبيها أيضا من بين نساء تتذكرهن رضوى، وكانت فاطمة أبوصالح ريفية من عائلة ميسورة ومحافظة لا تخرج فيها النساء “ربات الخدور”، وقد عرفت فيها صفات نساء مصر قديما فهي تنتظر رمضان بلهفة شديدة ودموع وتكتحل وتتعطر وتوزع الحلوي المخبوزة بالعيد، ولكن هذه السيدة بعدما تقدم بها العمر وانشغل الأبناء صارت كشجرة ذابلة تنتظر السقوط

هذه السيدة تشبه أيضا سكينة البرغوثي والدة زوجها ، نموذج للمراة الفلسطينية المثابرة تحكي ما جرى لبلادها من أكثر من نصف قرن، قصفوا بيتها فتنقلت بين عدة مدن فلسطينية لا تكاد تحصيها عددا، وبصحبتها حطام قليل وأربع رجال أحسنت تربيتهم، وكانت ماهرة بفنون الحياكة والزراعة ، وحين انتهى بها المآل للعاصمة الأردنية عمان، قررت أن تستزرع أمام شقتها الصغيرة حديقة غناء. لم تكن رضوى تعرف أنهم حين قرروا بيع الأرض واقتلاع الأشجار الوارفة التي تفننت بزراعتها للزينة والمأكل، أنهم كانوا يقتلعونها من الحياة!

أما عزيزة عمة رضوى فهي ذات الطابع الريفي والتي عبرت من خلالها عن موروث التمييز ضد المرأة، وتذكرت عمتها علية وقد انفصلت عن زوجها وحرمت من أطفالها ثم ربت بنات زوج ثان رحل عنها، ورغم ذلك ظلت معطاءة محبة تسع الجميع بقلبها.

ولا يمكن لرضوى أن تغفل والدتها “مية” وقد درجت ببيت عريق؛ فوالدها سفير مصري سابق بباكستان ، رجل حقوقي ضليع ، ومع ذلك حرمها من التعليم بالجامعة ، وتتذكر كيف كانت أمها محبة للرسم والعزف والأشعار.. لا تنسى لوحة أهدتها لتميم عليها أبيات لدرويش :”خسرت حلما جميلا .. خسرت لسع الزنابق/ وكان ليلي طويلا .. على سياج الحدائق/ وما خسرت السبيلا .. ما خسرت السبيلا “

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل