المحتوى الرئيسى

الضمير الوطني

03/18 02:26

لبنان وفلسطين في ضمير ميشال اده وفي فكره وهو يقارب هذين البلدين من موقع حضاري وإنساني لا شعبوي وبخاصة مسألة حق العودة للفلسطينيين

إشكاليٌّ هو التنكُّب لِفهْمِ عِلاقَةِ ميشال إدّه الأبويَّة الجليَّة والمتماسكة والرؤيويّة والاستراتيجيّة بلبنان ـ القضيَّة وفلسطين ـ القضيَّة. والتنكُّب الإشكاليُّ كامِن في أنَّ هذه العِلاقة الأبويَّة لميشال إدّه مع لُبْنان وفلسطين بقِيَت عصيَّة على التشوُّه والتَّشويه، كما الالتِباس والتلبُّس، حتَّى في أَحْلَكِ المَراحِل التي أصَرَّ فيها البَعْضُ على تثبيت أنَّ ثمَّة بعضاً في لُبْنان هوَ ضِدُّ فلسطين، وأنَّ ثمَّة بعضاً في فلسطين هو ضِدُّ لُبنان. لطالما أدهَشَني ميشال إدّه بِصَلابَتِهِ في الدِّفاع عن لبنان الرِّسالة، ولطالما أذهَلَني بعُمقِه الموسوعيّ المبدئيّ والبراغماتيّ في الإصرار على حقِّ فلسطين بالقِيامَة واللّاجِئين الفلسطينييّن بالصُّمود للعَوْدة إلى دولتِهم وأرضِهم.

دهشتي وذُهولي تضاعفَا حِيْنَ، وبِدَعْوَةٍ من دار سائر المشرق ومؤسِّسه وصاحِبه الإعلاميّ والباحِث الصَّديق أنطوان سَعْد شرَّفني معاليه بالمُشاركة في ندوتين حَوْل دراسةً أعدَدْتُها تحت عنوان «تصوُّر حُلول عملانيَّة لقضايا اللَّاجئين الفلسطينييّن في لبنان / وجهة نظر مسيحيَّة»، إذ أصْغَيْت إليه كما الجميع بتأنٍ، خُصوصاً أنَّه أبرز سلسلة وثائق ومعلومات تُشيرُ إلى أخطبوطيَّة الطُّروحات الدَّوليَّة لِتَصفية القضيَّة الفلسطينيَّة وتوطين اللّأجِئين حيثُ لجأوا، عاتِباً على غِياب سياسَةِ مواجَهَةٍ عربيَّة استراتيجيَّة في هذا السِّياق. والإضافة الأهَمّ رغم ذلك كانت استمرارُهُ في دّعْوَةِ اللُّبنانييّن جميعاً ـ من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ـ (على الرّغم من سقوط هذين التَّصنيفين الأيديولوجيّين)، دعوة اللُّبنانيّين جميعاً لِفَهْم العَقْل الإسرائيليّ العدوانيّ للبنان وفلسطين معاً، واعتِبار المعرِفة والفِكر عُنْصُراً مؤسِّساً في أيِّ مُقاوَمَة. فَهِم ميشال إدّه برؤيويَّة المقاومة الفلسطينيّة فاعِلَة ميدانيَّاً في فلسطين، ولبنان مُقاوَمة فاعِلَة بتعدُّديَّتِه ونَمُوذجِه الحضاريّ لِينتصِر ويُناصِر فلسطين.

لبنان وفلسطين في فِكْر ميشال إدّه ضحيَّتان، وتصادُمُهما في مواجهاتٍ دمويَّة كان خطأً تاريخيَّاً بَلْ قِصر نظر، ناهيك بالعَوامل الإقليميَّة والدَّوليَّة التي أجَّجت هذا التَّصادُم. وفي تقديره أنَّهُ آن أوان الانتِفاضة على منطِق الضحيَّة لِفَهْمِ جَوْهَر المقاومة. رفضُ لبنان التَّوطين انتِصارٌ أخلاقيّ للقضيَّة الفلسطينيَّة. ومَسَار المقاومة الشَّعبيَّة الفلسطينيَّة، وأحَدُ أعمِدَتِها اليّوْم المدّ الدّيموغرافيّ تأكيدٌ على الانتِصار الوجوديّ لا الحدوديّ للقضيّة الفلسطينيّة، وبالتالي انتِصارٌ للبنان التعدُّدي الدّيموقراطيّ.

ولبنان وفلسطين في فِكْرِ ميشال إدّه مُقاومتان نقيّتان بعيدتان كلّ البعد عن أن تكونا وَرَقتَي مُقايضة أو مُفاوَضَة أو مُسَاوَمَة. ففلسطين مُقاوِمةٌ بنبض شبابها. ولبنان مُقاوِمٌ بنبضِ شبابه. فلسطين ولبنان مُقاومَتان لإيّ إجْهاض لمركزيّة القضيّة وعُروبة الأحْرار. ومَن يُتابَعُ مُقابلات ميشال إدّه يَشْعُر بِكَم أنَّ الحريَّة والدّيموقراطيّة والعيش معاً تشكِّل ضمانةً لإجهاضاتٍ حاول فَرْضها كثيرون، إمّا لعدوانيّة وإمّا لغاياتٍ في نَفْسِ يَعْقوب.

ولبنان وفلسطين نموذجان حضاريّان أوَّلاً في التَّعايش ما بين الدّيانات الثَّلاث اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، من هُنا إصرارُهُ على تنزيه اليهوديّة عن الصهيونيّة، والمسيحيّة عن المُحافظين الجُدُد، والإسلام عن الاستِغلالات التَّكفيريّة والجهاديّة على حدٍّ سواء. ونموذجان حضاريَّان ثانياً في رَفْضِ السُّلْطة الأحاديَّة، والتأكيد على أنَّ مُقاوَمَة إسرائيل قائمةٌ في نَقْضِ أحاديَّة هويّتها الثيوقراطيّة، وهُنا بيتُ القصيد.

في كلِّ ما سبق يبقى ميشال إدّه ضميراً وطنيّاً مُشِعّاً في فَهْمِ أنّ لبنان يودّ أفْضَل صُمودٍ بحياةٍ كريمة للّاجئين الفلسطينيّين تحت سيادة الدَّوْلة حتَّى العّوْدَة، وكم بدا مُتناغِماً مع السَّفير المُخَضْرَم خليل مكَّاوي في تأكيد لبنانيَّتهما المتجذِّرة وعروبتهما الأَبْعَد من منمِّقات الشِّعارات الرنَّانة.

هناك مقاربة شعبويَّة لقضيّة اللّاجئين الفلسطينييّن وراء كل عناصر الخِطاب اللّبناني، دون تغييب عناصر التهويل والتسطيح واستقطاب الغرائز، وثمَّة عناصر مؤسِّسة لهذا الخِطاب على مستوى الواقع. الخوف من «مؤامرة التّوطين» لا يرتبط بالذاكرة اللبنانيّة بدايةً، بل بالذاكرة الفلسطينيّة، انطِلاقاً من إمكان اغتيال هذه المؤامرة لـ «حقّ العودة» المنصوص عنه في قرارات الشرعيَّة الدوليَّة، ومرجعيَّة مؤتمر مدريد، ومندرجات المبادرة العربيّة للسلام.

وهذا الارتباط الثانويّ بالذاكرة اللّبنانيّة يُبنى دوماً على البُعد الديموغرافيّ المذهبيّ من ناحية، أو على الرهبة من إمكان تكريس منطق الوطن البديل من ناحيةٍ أخرى. من هنا تبرز الارتجاليّة نافرة في مقاربة اللّبنانييّن لمسألة الخوف من التوطين من خلال غياب رؤيةٍ متماسكةٍ فعَّالةٍ ذات ديناميَّةٍ مقاومة، بالمعنى القادر على الفعل، أكثر منه الرفض الشعاراتيّ أو استِعراض العضلات، أو حتَّى إنتاج دوغماتيَّاتٍ مقفلةٍ للإبقاء على ستاتيكواتٍ نفعيَّةٍ تبدأ بقصر النظر ولا تنتهي بارتباطات أنظمة وخيارات محاور.

وهُنا أقراُ ميشال إدّه، وهي قراءة محاولة فيها من احتمالات النّجاح بِقَدْرِ الفَشَل، أقرأ المبادئ المكوِّنة في فِكْرِه لِعَلاقة لبنان بالقضيّة الفلسطينيّة وتحديداً اللَّاجئين على مستوياتٍ أربعة:

^ أوَّلاً، «العدل» بدل «التخويف»

«حق العودة» قضيّةٌ مقدَّسةٌ لشعب اقتُلِع من أرضه. لبنان استضاف اللّاجئين الفلسطينييّن، ولم يزل، على أرضه. شابت علاقته واللّاجئين الفلسطينييّن توتُّراتٌ وأخطاء متبادلة بلغت حد إهراق الدماء. منذ عام 2005، استُهلَّت عمليَّة تنقيَّة الذاكرتَين اللّبنانيَّة والفلسطينيّة. على اللّبنانييّن، وهم يُجمعون على رفض التوطين، أن يتأسَّس رفضهم على دعم حقّ العودة قاعدة عدالةٍ دوليَّةٍ وإنسانيَّةٍ، بدل أن يُختصر في اعتباراتٍ سكانيَّةٍ ومعادلاتٍ دينيَّةٍ.

^ ثانيّاً، «المسؤوليَّة» بدل «الديماغوجيا»

«حق العودة» مسؤوليّةٌ مشتركةٌ لبنانيّةٌ وفلسطينيّةٌ وعربيَّةٌ ودوليَّةٌ. وهذا يقتضي خطاباً واضح المعالم في الأنساق الثقافيَّة والإعلاميَّة والاقتصاديَّة والسِّياسيَّة والديبلوماسيَّة، لا ديماغوجيا شعبويَّة. والمسؤوليَّة المشتركة يُنتجها وعيٌ للمصالح المشتركة، لا استقطابٌ للمصالح الخاصَّة، أو تضييقٌ لرُقَع التفاعل من خلال استحضار ذكرياتٍ أليمة، او تحميل طرفٍ كلّ الأخطاء التي ارتُكبت. كلُّنا أخطأ، والمطلوب ذهنيَّةٌ مسؤولةٌ بدل الدوغماتيَّات المُدمِّرة.

^ ثالثاً، «العمل المشترك» بدل «استنفار الغرائز»

ثمَّة من احترف في لبنان استنفار الغرائز. وثمَّة مَن أتقن لعبة الهروب إلى الأمام. وثمَّة مَن استسلم لتحييد ذاته عن التطلُّع الى الملفَّات الشَّائكة. وثمَّة مَن يركن الى تقليديَّات استشراف الحلول. العمل المشترك من خلال مؤسَّسات الدولة الدّستوريَّة ومع عواصم القرار كفيلٌ بدعم «حقّ العودة». أمَّا القبضات المرفوعة والحناجر المدويَّة فغير كافية وحدها. لنقبض على العقول بدل الاستتار بعجزنا عن استيعابات وافدة إلينا.

^ رابعاً، «الإستراتيجيا الوطنيَّة» بدل «التكتيك السياسي»

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل