المحتوى الرئيسى

المختبر المضيء

03/18 02:26

مع مؤسسي الاستقلال إلى مصادفة نكسة فلسطين إلى المفكرين اليهود إلى الماركسية إلى الإسلام إلى المارونية الصلبة كان ميشال اده مختبر الإنسان اللبناني المضيء ونموذجه الحي

أعطته التجربة بقدر ما أعطاها. كان العطاء المتبادل سخياً دافقاً من النبع الأصيل. إنها تجربة لبنان كما فهمها ميشال إده وكما جسّدها أكثر من أي شخص آخر ربما. فهمها حين قدر له أن يقف يافعاً على المشارف. فطابت له رؤية لبنان من تلك الأعالي، وما عاد يقبل يوماً بالنزول عنها. فلبنانه محفور في الضمائر قبل الخرائط، والذي يمتد على مدى آفاق الرحابة والعطاء.

من ذلك العمق ومن تلك الرؤية تدرّج التزام ميشال إده اللبناني. كان من حظه أنه أفاق على الولادة الاستقلالية لكيان تنقل بين الأجيال والعهود، بين مكنونات التاريخ وتقلباته وفصوله الحافلة بالإشراقات والمآسي. من موروثات العثمانيين التي لا يستهان بها، الى الإرث الفرنسي الثقافي والقانوني والتربوي والإداري، وجد ميشال إده أمامه كل تلك الروافد وهو بعد على مقعد الحقوق، قبل أن ينطلق في المهنة ويصادف أول ما يصادف، تلك الحرية التي جعلها طول حياته، عنوان تحركه الكبير، ومدخل كلمته في كل كلام.

إنه آمن بالبوادر الأولى المشجّعة تلك ولا يزال. فخبرها شخصياً مع المؤسسين، مع ميشال شيحا وبشارة الخوري أول الأمر، قبل أن يكتشف الطرقات اللبنانية المفتوحة أمامه. وما أكثرها وما أوسعها. فأراد ولوجها كلها، بلا حدود.

كان المختبر الإنساني فيه يتكوّن على هدي الموروث والمستحدث، وهي تزاحمت في ذلك الشرق المتحول، لتجعل من ميشال إده الإنسان المتميز بالفكر والقلب، قبل أن يدخل عالم السياسة والعوالم الأخرى المتنوّعة على نحو ما تتيحه الحياة للمقبلين عليها بحماسة وفرح.

وصادفته مأساة فلسطين أول ما صادفته، فدخلت في ضميره ولا تزال. فبدأت الحدود تتسع أمامه. وأقبل باحثاً في الحركة الصهيونية وفي مصالح العلاقات الدولية، ولكن أيضاً في أعمال المفكرين اليهود، أينما كانوا في عالم الشتات. والتقى بالماركسية فأدخلها في مختبره الفكري دون أي حرج متوقفاً أمام معضلة القوميات التي لم يجد لينين لها حلاً. كما غاص في الإسلام عقيدة وتاريخاً ليغدو خبيراً فيه وفي سيرة النبي محمد. وكانت رفقة القديس بولس من مداخله الأساسية الى المسيحية التي يسرد فيها مقاطع واسعة من الأناجيل ومن عظة الجبل، ويتحدث فيها بفرح وعمق مع نجله البكر سليم، الذي ضاعف الوزنات وحولها مصدراً للعطاءَات المتنوعة.

وغلف ميشال إده كل ذلك بالمارونية الصلبة، التي جعلها صخرته. فارتكز عليها وارتكزت عليه. فاعتبر مدنياً في مصاف البطاركة. فحمل عصاه وراح يبحث عن الموارنة في ديار الانتشار، لا بل عن المسيحيين ككل، واضعاً إياهم جميعاً تحت راية مار مارون، وبرضى منهم فرمّم الكنائس وأنشأها. وكانت لكاتدرائية مار جرجس المارونية وسط بيروت مكانة خاصة في قلبه منذ طفولته، فلم يحسب أي حساب لإعادة ترميمها، يوم جمع شخصيات مارونية في منزله فالتزموا جميعاً وأجزلوا العطاء، وأجزل هو، ولا يزال.

إنه أقبل على السياسة من تلك الخلفيات، بخاصة مع صديقيه الرئيسين شارل حلو والياس سركيس، اللذين أوكلا إليه حقائب وزارية. وكذلك في عهد الرئيس الياس الهراوي ومع صديقه الرئيس رفيق الحريري. فأسس وزارة الثقافة والتعليم العالي عام 1922. وهو يعتقد أن منصب الرئاسة، الذي اقترب منه بجدية أكثر من مرة، لا يكمن فقط في الصلاحيات الفعلية التي لم تكن كلها لتمارس، بل في مميزات رئاسة الدولة ورمز الوحدة، وقدوة القيادة، من ذلك المركز السامي، الذي يتطلّب من شاغله، الحكمة والتجرد والقدرة على استيعاب الجميع، وفق رؤية منطلقة من الواقع وخصائصه ومصالحه العليا.

إذ لم ينفصل ميشال إده يوماً عن واقع الأحداث والمستجدات داخلياً وعربياً. فيقدم على التشاور مع بعض أصدقائه، مستعيناً بذاكرة متقدة وبمخزون من المعلومات يؤهله لربطها بالحدث وباستخلاص النتائج. دون أن يصاب يوماً بإحباط المتسائلين أو المترددين. فلم يخف يوماً على لبنان، حتى في ظل الحروب التي عصفت به، ولا في ظل التطورات الأخيرة في بلدان الشرق العربي المحيطة بلبنان.

ولكن «تحية» السفير إليه في هذه الظروف بالذات تخفي أكثر من توق الى ذلك اللبنان. تُخفي الهاجس على الحماية في زمن حرائق الشرق العربي، واقتراب الذكرى الأولى لاتفاقية 1916 التي وزعت مناطق النفوذ فيه والتي يتوقع البعض نهاية حقبتها. إنها بالحقيقة تنطوي على تلك الرغبة الدفينة في نفوس العارفين بأن لا شيء يحلّ محل تلك التجربة المضيئة في السماء الشديدة السواد حالياً.

ميشال إده وأمثاله هم من حملة تلك الراية، والراية يجب أن تبقى مرتفعة. فهو النموذج الحي لها. للبنان القادم من التاريخ بوجه البهاء، لبنان الكبير كما يراه هو وليس كما تحدّد عام 1920، لأنه كان كبيراً دائماً جغرافياً وإنسانياً، ذاك الذي رآه من خلال قممه وشطآنه ومدنه العظيمة وسهوله الواسعة كالزمان، وبخاصة تلك الوديان والكهوف المختبئة في ثنايا الدهر التي احتضنت المناسك والصوامع وأدعية الرهبان على طول الأجيال. ودون أن يغيب عن وجدانه بالطبع، الكلمات العربية الأولى المطبوعة في مطابع الأديرة، ولا «المسوح التي صانت الفصحى»، ولا تلك القلوب المذهبة لبطاركة الأمس، ينحنون في المساء على الصفحات المغطاة بالشمع والدمع.

كــل ذلك أدركه ميشال إده في اختباراته وقــناعاته وآفاق المعرفة اللامحدودة التي جعلت اهتماماته على مدى ما يتيحه التطور، في حب الاطلاع والاكتشاف، لا يستبعد أي مجال في ما تقدمه الأحداث سياسية كانت أم فكرية أم اقتصادية أم رياضية. وهل للثقافة من حدود؟

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل