المحتوى الرئيسى

نوميديا لطارق بكاري... هلوسات الاسم والهوية

03/17 02:10

«نوميديا»، رواية الكاتب المغربيّ وأستاذ الادب العربيّ طارق بكاري (1988) المدرجة ضمن القائمة القصيرة للبوكر، تحيل، في الغالب، إلى ذلك النمط من الأعمال السردية النفسانيّة التي يتأسّس فيها السرد، في العمق، على خطاب الأنا/ الذات المأزومة. بهذا المعنى، تكون مجمل التقنيات اللغوية والأدوات السردية وشخوص العمل وثيماته الرئيسية، مجيّرة لتحفيز ذلك الحفر أو ذلك الخطاب الذاتيّ.

على أنّ الذاتيّ في سردية خطاب الأنا المأزومة يعتبر جاذباً للشخوص المركزية حول هذه الأنا، في كل الأحوال، إلى مناخها الشعوريّ البالغ الخصوصية. إنه، بمعنى من المعاني، يستلبها بالمزاج الواحد. مزاجٌ لا يُدخل المتلقي بأيّ تفاوتات شعوريّة بين فصل وآخر، بل يمكن القول إن نوميديا، هي أقربُ إلى أن تقيم المتلقيّ على نفسٍ متوتر، ثابت نسبياً، ومهجوس بتأويل الاسم والدلالة وتكوين اشتقاقات موازية لحال الراوي المشغوف، المنفيّ والعائد التائه في آن، إلى مكان طفولته بنصيحة معالجه النفسيّ.

مَن هو أوداد أو مراد (اسم آخر منحه اياه الحسين الذي ربّاه بعد خروجه شبه مطرود وملعون من إغرم إلى المدينة)؟ قد تكون إحدى مسودات حبيبته جوليا ك. هي التعريف الأقرب إلى هذا اللقيط الذي وجد عند إحدى النواصي في ليلة شؤم. تقول جوليا ك.: «مراد كان رجلاً معداً للموت سلفاً، أو على الأقل هكذا فكرت أول ما قرأت ملفه.. كان ضباباً كثيفاً ومظللاً لا تجد اللغة مدخلاً لافتضاضه أو فهمه، لكنه كان رجلاً حقيقياً. كلّ ذنبه أنه اختار الحياة لكن ما نفع الحياة إذا كانت أسباب الموت قد اختارته! كان مراد أو أوداد أشبه بقرص أسبيرين فوّار في كوب ماء تحامته الحياة (وأكلت منه أيضاً). وكان هو في كل هذا يضمحل ويتلاشى إلى أن اختفى فجأة» (ص.417).

يتأسّس الثراء السردي عند بكاري في نوميديا على تلك اللغة التي تقلّب طبقات الشعور الجارف بالحيوات الدائرة (علاقات حبّ) على وجوهٍ تبقى مشدودة إلى تقنية وصفية محكمة هي بالنتيجة نبرة الأنا في تصريف حدوسات الخيانات والشك والشغف والموت الدافقة بكثافة. في هذا الحيّز، تخرج المقاطع السردية الكثيرة، وتحديداً تلك التي تصف العلاقة العاطفية الجسدية بين الراوي و «جوليا ك.» أو «نضال» عن دائرة التنميط إلى كونها سبلاً شتى لتفتيح شرايين السرد أو تزخيمه خدمة لهذا السرد في توصيل المتلقي إلى تعميق فكرته أو تأويلاته الحثيثة عن أناه أو عن نوميديا الاسم والدلالة. «نوميديا تلتحم بي عاريين والماء يشطرنا نصفين، فوق الماء، عادت شفاهنا للالتحام مرة أخرى وإن بحرارة ونزق مضاعفَين، تحت الماء كنا متداخلين نسقط ما تبقى من ملابسنا ولم أكن خائفاً لا عليها ولا على زبانية الظلام (...) أما هي ففي ذروة لذتها هزت رأسها عالياً كأنما تتأمل ملاكاً شارداً، واشتدّ شهيقها وزفيرها معاً. في لحظة مبهمة، شعرت أن شيئاً ما قد انكسر بيننا». (ص. 292).

قد لا تعكس نوميديا، بالمطلق، لوحة الثقافة الأمازيغية غير أن السرد يبقى في كل تقاسيمه مشرّباً بمناخات تلك القرية الأمازيغية وحكائياتها وأنماط السكان الغرائبية في التواصل والتعرف، باللعنات أو الأولياء ومن خلالها، على الحياة. وبالمستوى نفسه لا تقدم نوميديا واقعاً سياسياً مغربياً بالمعنى العميق الذي نجده في روايات تكون الوقائع السياسية مفصلية فيها، ولكنها تقدم في سياق بناء الأنا السردية موقفاً جذرياً في ما يتصل بتيارات العنف الدينيّ.

تبقى نوميديا، ولو بعد إقفال السرد، ثيمة غامضة هي أقرب إلى كونها حباً جارفاً أو شغفاً للراوي أوداد (الوعل بالامازيغية) أو هيَ جنية الجبل في قرية «إغرم» المغربية النائية أو أنها تلك المليكة الأمازيغية القديمة أو السيدة الفاتنة الخرساء... إنها، في كل حال، مفتاح السرد السحرانيّ أو نسيجه الخافت والجارف في مجمل مفاصل الرواية. وهي، بهذا المعنى، كاسم وقصة أو كذكرى وصلة بالطفولة والمنبت، تحيل بدهياً إلى قدرة الراوي على تشريبها السردَ، عبر هلوسات سريعة غائرة أو صرخات شهوانية أو مقاطع عند سفح الجبل، بطريقة سوف تعيد القارئ مراراً وتكراراً إلى مربع الراوي الداخليّ. مربّعٌ لا يكاد يحايث الواقع حتى ينزلق به السرد إلى هوة السؤال الأصلي/ سؤال الهوية والصلات العميقة بالمحيط والأشياء.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل