المحتوى الرئيسى

يوسف عزت يكتب: الظلم الذي أصاب أهل سوريا (1)

03/16 10:36

تستيقظ من نومك على سريرك الدافئ، فيأتيك صوت زوجتك مناديا أن أستيقظ فالفطور جاهز، وأولادك ينتظرونك.

تنتهي سريعا من تناول الفطور، وتستعد للخروج إلى عملك، تقبل زوجتك قبل أن ترحل، تهرول إلى عملك وأنت آمنً مطمئن، وتنتظر أن يمر اليوم سريعا حتى تعود إلى أحضان زوجتك وأولادك وبيتك الدافئ.

تخيل معي، أن تستيقظ فلا تجد منزلا آمنا، أو لا تجد زوجتك وأولادك، والمصيبة الأكبر أن تستيقظ فلا تجد وطنا.

في ١٥ مارس عام ٢٠١١، انتفض الشعب السوري على غرار الشعب التونسي والمصري، مطالبا بالحرية والعدل، لم يطالب بسلطة أو جاه، ولكن طالب بحلم بسيط أن يعيش في وطنه سوريا بكرامة متنفسا نسائم الحرية وأمن بقوة القانون العادل، وإذ به يفاجئ أن الحلم تحول إلى كابوس، والكرامه تحولت إلى مهانة ومذلة على حدود كل دول العالم، ونسائم الحرية تحولت إلى روائح البارود، وقوة القانون العادل تحولت إلى قوة السلاح، والبراميل المتفجرة.

من المؤلم أن تفقد عزيزا عليك، ومن الصعب أن تفقد عملك، ولكن المصيبة والصعوبة الحقيقية أن تفقد وطنا كان وطنك.

وطن أضحى أضغاث أحلام، أو ذكريات تحكيها لأولادك حول نار مشتعلة في باحة إحدى مخيمات اللاجئين.

كان الله في عونكم أهل سوريا.

ورغم كل ما يحدث في وطني مصر، إلا أنه واجب على كل إنسان حر يمتلك بعضا من الضمير أن لا ينسى أهل سوريا، الذين عانوا أشد معاناة بسبب ثورة حرية، تحولت إلى حرب أهلية مموله من كل دول العالم.

أحدثكم اليوم عن معاناة  أهل سوريا الشجعان، أو كما يقولون هم القبضايات، أحدثكم عن تجربة من خسر وطنا اغتالته مطامع السلطة، وجاء إلى وطن جديد عله يجد ما فقده في وطنه الأصلي، ولكن هيهات، فسوريا تعيش في قلوبهم.

في أكتوبر عام ٢٠١٥، فاز مرشح الحزب الليبرالي الكندي جستن ترودو على منافسه هاربر رئيس حزب المحافظين، وكانت من أهم وعوده أن يفتح أبواب كندا لـ ٢٥ ألفا من اللاجئين السوريين قبل نهاية عام ٢٠١٥، وقد كان، وها أنا أنقل إليكم تجربتهم وشهادتهم على الأحداث لعلها تكون نافعة للعالمين.

تعرفت عليه صدفة عندما كنت أحتسي قهوتي الصباحية، في إحدى مقاهي كندا المنتشرة في كل شوراعها، كان يجلس في الطاوله التي بجانبي، ظننته لأول وهلة تركيا، لبياض بشرته ولون عيونه الخضراء.

كنت أتحدث مع زوجتي في مصر على الهاتف المحمول، فنظر إلي وابتسم، وحياني بإشارة من يده، رددت إليه التحية، وأنا منشغل عنه بمكالمتي.

وما أن انتهيت من المكالمة، حتى أتاني مرحبا معرفا نفسه بأنه “أخوك بسام من سوريا”، وشرح لي أنه من المجموعة الأولى التي أتت إلى كندا، بناء على وعد رئيس الوزراء الكندي.

رحبت به بحرارة، وسألته عن أحواله وعن تجربته في كندا، وكانت إجابته مقتضبة، فيما يخص أمور وظروف هجرته من سوريا.

ولكن تغير الأمر كثيرا، عندما قلت له تشجيعا ليتحدث معي، أنني كاتب في جريدة مصرية إلكترونية، وأريد أن أكتب مقالا عن معاناة السوريين.

تطلب الأمر بعض الصبر مني، حتى أنفكت عقدة لسانه، وبدأ في الحديث، وسأترك في السطور القادمة المجال لـ بسام كي يحكي حكايته، ولن اتدخل في حديثه إلا في حدود كتابة ما قاله باللهجة السورية إلى اللغة العربية الفصحى:

“يا سيدي، أنا شاب سوري، من حلب بسوريا، لا أدري أن كنت قد شاهدت ما حل بحلب من خراب ودمار، كنت أشاهد منذ يومين فيديو ألتقط بكاميرا داخل طائرة صغيرة بلا طيار تحوم حول منطقة حلب.

تركت حلب وهي مدمرة، ولكن الفيديو كان يعرض أنقاض ما كانت يوما مدينة يشار إليها بالبنان، مدينة مدمرة خالية من الأحياء، اللهم إلا بعض الكلاب الجائعة رماها حظها العثر في تلك المدينة الميتة، أو ربما تكون كلابا منزلية دفن أصحابها تحت الركام.

ولله بكيت كما لم أبك من قبل، فتلك الأنقاض، كانت حياة لي ولملايين غيري، في البداية كنت أحلم بالحرية والعدل الذي أفتقده في بلادي، ولكن ومن حيث لا ندري تحول الأمر إلى حرب دموية، أستخدم فيها الجميع كل الأسلحة، ولم يعد أحد يهتم بكم روح أُزهقت، أو كم طفل أصبح يتيما، أو كم أم أضحت ثكلى، أو كم زوجه ترملت وهي على أعتاب الشباب، وكل ذلك من أجل ماذا؟ من أجل جنون اسمه السلطة!

فقدت أبي وأمي وأخوتي كلهم، أمام عيني، كنا نظن أن لن تضربنا الطائرات في الليل، ولكن في خضم الجنون الذي سيطر على الجميع، لم يعد هناك منطق في أي شيء، أغارت على منطقتنا طائرات النظام في منتصف الليل، كانت أسرتي كلها مجتمعه في المنزل، وكنت أنا في الخارج، أسهر مع إحدى اللجان الشعبية التي تحمي منازلنا.

تخيل معي يا صديقي، أن تقف على بعد مترات قليلة من بيتك، وأنت تراه يُقذف ببراميل متفجرة، ترى المنزل يسقط محترقا، وتسمع صراخا مختلطا، لا تفرق بين الأصوات، لكنك على يقين أن إحدى تلك الصرخات خرجت من أمك أو أختك أو أخاك، تستبعد أن يكون مصدرها أبوك، لأنك لم تره يصرخ أو يبكي من قبل.

كنت أتمنى الموت، وكدت أجن، لماذا أنا؟، لماذا ماتوا وبقيت أنا؟! وقفت مشدوها أمام المنزل المحترق، ودعوت الله -مخلصا- أن يقبض روحي مع من رحلوا، ولولا تكبيل مجموعة من أهل الحي لي، لكنت قذفت نفسي في النار.

لم أتحمل بعدها المكوث في سوريا، أتممت الزواج من قريبة لي، وأخذتها، ورحلت إلى الأردن، وكنت حزينا على سوريا، ولكن كنت متفائلا أن أجد في الأردن ملاذا، ولكن لم أجد إلا المذلة.

لن أحكي كيف دخلت إلى الأردن، ولكن سأذكر لك شيئين، حتى تتخيل الأمر، دفعت تقريبا كل ما أملك على الحدود حتى أستطيع العبور، وكدت أن أقبل قدم ضابط من الضباط حتى لا يغتصب زوجتي، ولولا ستر الله ووصول زيارة من الأمم المتحدة إلى الحدود، لكنت فقدت زوجتي، وربما نفسي.

وصلت إلى الأردن، كلاجئ، لا كضيف، كانوا يأخذوننا إلى مجموعة من الخيام مقامة في صحراء غبراء، لا يوجد بها أي خدمات، وكان وعدهم لنا أن تلك إقامه مؤقته لن تدوم أكثر من أيام، ولكنها دامت عاما بأكمله.

كنا نزيد عن خمسة آلاف، كلنا لا نحمل أموالا، ولكن ربطتنا المصيبه التي أحلت بوطننا، وأجبرنا على البقاء لأجل من تبقى من أهالينا على أن نعمل ونفكر.

أقمنا حمامات عموميه للرجال والنساء، لم تكن حمامات آدميه بالمعنى المفهوم، لكنها أدت الغرض، عينا على حمام النساء حراسا ليلا ونهارا، حتى نبعد عنهم أصحاب النفوس الضعيفة.

قررنا أن نعمل، فمنا من كان يزرع، ومنا من كان يخبز، ومنا من خرج إلى المدينة القريبة ليعمل سباكا أو نجارا أو حتى سائقا، وعملنا جميعا بتناغم كبير، ونجحنا في أن نجعل المخيم، سوقا للمدن التي حولنا.

أنشانا فصولا تعليمية، للأطفال، لأن على المستوى الرسمي، كان لأولادنا الحق في التعليم في المدارس الأردنيه، ولكن على أرض الواقع، لم يسلم أولادنا من التحرش والاضطهاد، وتطوع من كان مدرسا في سوريا أن يدرس لطلبة المخيم.

وفي خضم تلك المعاناة، رزقني الله بمولودة أسميتها لجين، ولكن ولدت لجين عليلة.. ثقب في القلب، وكانت حالتها تستدعي تدخلا جراحيا سريعا قبل بلوغها العام، وإلا فقدتها.

لم تقبلني المستشفيات الحكومية الأردنيه، والمستشفيات الخاصه كانت تطلب أرقاما، لو بعت أجزاءا من جسدي ما كانت لتكفي تكاليف العلاج.

كان قلبي ينخلع في اليوم مائة مرة، مع كل مرة تبكي ابنتي، فيزرق وجهها معلنا عن عدم تحمل قلبها حتى بكائها، أو مع دموع زوجتي التي لا تتوقف إلا أمامي، ولكنني كنت أرى آثار دموعها التي حفرت بوضوح قناة عميقة على وجنتيها.

اعلم أنني أطلت، لكن تحملني فما بقي عندي إلا القليل، أتاني صديق بخبر أن السفارة الكندية تستقبل طلبات هجرة، وتعطي الأولوية للأسر والمرضى.

وقد كان، لم يمر على وجودي هنا سوى ثلاثة أشهر، ثلاثة أشهر فقط، تغيرت فيها حياتي تماما، فبعد وصولي إلى كندا بأربعة أيام، حُجزت ابنتي في المستشفى، ولم تخرج إلا وهي معافاة تماما، أسكن في شقه بها كل الكماليات، أتعلم أنا وزوجتي الإنجليزية، أقبض معاشا يحفظ لي حياة كريمة.

وأسبوعيا، يأتيني أطباء نفسيين وأسر كندية، ليعرفوننا على البلد، وليساعدوننا على تخطي ما حدث، والاندماج السريع في وطننا الجديد.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل