المحتوى الرئيسى

أشرف السركي يكتب عن التجربة الموسيقية العربية وتطور الموسيقى العالمية: النيانس العربي

03/15 10:26

يتميز الغناء والموسيقات المختلفة للشعوب بطبيعة تراكمية عمرها من عمر الحضارات الانسانية نفسها تكونت عبر مئات بل آلاف السنين من الابداع، الذى اتصف بالتنوع الخاضع لظروف كل جماعة بشرية مهما صغرت او كبرت ، هذا التنوع كان له اسباب طبيعية انعكست على الانسان المبدع، فتكونت انسقة غير محدودوة من الملامح التى ميزت كل جماعة عن غيرها، واعطتها شخصيتها الخاصة، وهذه الجماعات تشاركت في الركائز الاساسية التى يبنى عليها هذا النوع من الفنون مثل فكرة الايقاع والمقامات والالة الموسيقية واللغات واللهجات المختلفة المرتبطة بمختلف شؤون الحياة اضافة إلى الهجرات والفتوحات وحركة التجارة عبر القارات مما احدث عملية احتكاك وامتزاج دائمة بين البشر وكذلك المبدعين، ورغم ذلك ظلت لكل جماعة شخصيتها الخاصة والمتأثرة بطبيعة المكان والبناء الروحي لكل جماعة قد ساهمت كل الثقافات الانسانية فى تمايزها على اثراء التجربة الموسيقية بلا شك.

 فقد حدثت طفرات نظرية نتيجة تراكم التجربة الذاتية علي مستوي الممارسة  لكل حضارة وواكبتها  تطورات فى صناعة الالات وعلاقات الانتاج وتطور الافكار والعلاقات الانسانية  بشكل عام  تبعها تطور فى عملية الخلق الموسيقى والغنائى.  وحدثت انتقالات نوعية على المستوى العالمى وذلك فى الانتقالات الحضارية العظمى فمن العصر الفرعونى الذى أرسى فيه المصريون الأعمدة الاولى لعلم الموسيقى ثم العصر العربى متجاورا و متفاعلا مع الثقافات المعاصرة والمجاورة مثل الفارسية والتركية والهندية والافريقية والاوروبية وقد ارسى العرب عبر دولهم المتعاقبة وما وصلت اليه سلطتهم من ممالك غطت الجزء الاكبر من العالم المعروف وقتها الاساس الثانى للطفرة السالف الاشارة اليها حيث ارست مراسيها اخيرا فى اوروبا (الاندلس) واعطت المبدع الاوروبى الاساس النظرى و العملى الذى بنى عليها الطفرة الاخيرة التى تعد و بلا تحفظ امجد و اعظم ما ابدعته البشرية فى تاريخها حيث تشارك كل البشر جميعا فى خلق هذه النهضة العظمى فكما كانت التجارب الفنية لكل جماعة عبر التاريخ تخصها بشكل اساسى فان موسيقى عصر النهضة لاول مرة اوجدت فنا يعنى كل الجماعة البشرية ( مثل ما حدث بعد ذلك فى المسرح و السينما ) .            

وهنا نجد انفسنا امام السؤال الاهم اذا كانت الحضارة الاوروبية فى جانبها العلمى والمادى قد نجحت فى تغيير شكل الحياة على كوكب الارض بل تسعى الى تجاوز الكوكب الى عوالم اخرى خارجه فلماذا رغم جبروت وعزم انجازاتها الهائلة لم تسطيع ان تجعل الحضارات الاخرى والاقدم ان تتخلى عن ثقافاتها و تتبنى الثقافة الاوروبية الجواب هو ان البناء الروحى للشعوب الشرقية قد توحد لدرجة التماهى مع ثقافة هذه الشعوب ، بل ان هذه الفلسفة الروحية كانت مصدر الالهام والاساس النظرى لفكرة الجمال التى استقرت عليها هذه الشعوب حتى اليوم بل فى الوقت الذى وصلت فيه الحضارة الغربية للذروة لا تنفك الثقافة الشرقية هى الاخرى فى ذروة الابداع المذهل و الهائل بل ان الغرب بدا يعيد حساباته و يتجه الى الثقافات الشرقية ينهل منها ويروى عطشه بل انه يحاول ان يصبح جزء منها . 

كلمة  نيانس هذا التعبير الفرنسى  يعد اكثر التعبيرات الموسيقية شمولا لمجمل الطرائق والحركات اللحنية والتناوب بين الدرجات المختلفة من السرعة والبطء والقوة والضعف و( الكريشندو والدمنوندو والاكسنت والليجاتو) وما الى ذلك من المسميات والطرق الكثيرة فى الاداء الغربى حيث اتفقت اوروبا علي القاموس الايطالى في الاسماء ناهينا علي اختراع النوتة الموسيقية الذى نقل الموسيقى إلى ما اصبحت عليه اليوم، والغرب متفق علي كل ما وصل اليه من علوم موسيقية بشكل نهائى متضمن فى الاكاديميات الغربية فى مراجع وقواميس تدرس ويستخدمها المحترفون واستخدامنا لهذا التعبير مجازيا لان هناك للشرق العتيد نيانس خاص به بل لكل حضارة شرقية النيانس الخاص بها و نحاول فى عجالة اعطاء بعض ملامح للنيانس العربى على سبيل المثال ويمكن القياس عليه فى فهم النيانس الهندى والتركى والايرانى والصينى ......الخ .

 ولكى نقوم بذلك يتوجب ان نبدأ من نقطة مشتركة بيننا و بين الحضارة الاوروبية والتى سنجدها فى  الفترة التى سبقت خروج العرب من الاندلس حيث كانت الموسيقى والغناء تقع فى خط موسيقى واحد على المستوى الشعبى والكلاسيكى والدينى فى اوروبا و آسيا وافريقيا حيث تعتمد فكرة الثراء اللحنى على مقومات مشتركة وهى تعدد المقامات والايقاعات وإلى أن بدأ عصر النهضة الاوربى حيث بدأت الكنيسة عندما اخترعت آلة الاورغن فى جعله الآلة التى تصاحب الغناء فى الكنيسة ومن هنا نشات البوليفونية (التعدد الصوتى)، التى شكلت طفرة هائلة فى تاريخ الغناء والموسيقى.

 ولان البوليفونية كانت تجسيد لعلمى الهارمونى والكونتر بوينت فقد وجد العلماء انه لا بد من تعديل ترددات النوت الموسيقي للسلم الموسيقى كى يحدث الهارمونى فعلا  لان المقامات الغربية الموروثة بمقاساتها لم تكن تصلح للتوفيق بين نغماتها لعدم ثباتها مما دفع العلماء لتثبيتها بمعنى ان يصبح لكل نوتة موسيقية في السلم الموسيقي عدد من الترددات الثابتة واصبح هناك ما يسمى بالسلم المعدل ومن ناحية اخرى تم اختصار كل المقامات لمقامين فقط هما الكبير والصغير لاحتوائهما على كل الانماط النغمية التى توافق السلم المعدل.

على هذا الاساس بنت اوروبا تراثا موسيقيا هائلا على مدى 400 سنة انهت به اوروبا علاقتها بشكل كامل بتراثها قبل عصر النهضة وان تناوله مؤلفوها الكبار فذلك بعد ان اخضعو هذا التراث للقوانين العلمية المستحدثة (وتجلي هذا فى عصر الموسيقى القومية والتي اعتمد عليه المؤلفون المصريون في صياغة موسيقانا التراثية) وظل الغناء والموسيقات الشرقية مستمرة حتى الان بشكل كامل  فى المجال الدينى والشعبى والالى والكلاسيكى يستخدمون عدد هائل من المقامات (وصلت 153 مقاما) باتوان غير ثابتة بمعنى أدق فهى لا تخضع للسلم المعدل فالمقام هو  الحرف ولذلك نطلق على الحرف الواحد والسلم تسمية مقام فالتون الشرقى يتمتع بحرية فى الشكل والمضمون ولنا ان نتامل التون فى القران والغناء الكنسى فكل حرف موسيقى له ما لا نهاية من التجليات فى موقعه من الزيادة و النقصان وأشكال التناول غير المحدودة  وفى علاقتها بما قبلها وما بعدها من اتوان وذوق المقرئ أوالمغني فى الكنيسة فى هذه اللحظة عكس التون الغربى فالتون الغربي جزء من حالة توافقية يتحول فيها لقطعة من السيراميك، أو قالب البناء ولا يصبح له وجود الا من خلال البناء الهارمونى ، و من هنا يمكن تصور الكارثة التى حلت بالثقافات الموسيقية الشرقية من جراء استخدام الاورج و الجيتار الكهربائي الاثر المدمر الذى حدث للمقامات اضافة الى ( الكوالتى ) و هو طبيعة الاصوات البشرية و الالية الموروثة في شكل كل هذا المنتج البشري الموروث و الذى استقر  فى الوجدان العربى فقد صنعت هذه الالات المتوحشة حاجزا بين التراث الطبيعى و وجدان الاجيال الجديدة ، هذا الكوالتى احتفظ به الغرب الذى اخترعه كاساس لشخصية موسيقاهم الكلاسيكية اليا و بشريا. 

أهم أخبار فن وثقافة

Comments

عاجل