المحتوى الرئيسى

العدالة الثقافية

03/13 22:12

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والحديث لم يتوقف فى مصر عن ضرورة تحقيق «العدالة الاجتماعية»، وكان المقصود بها، معظم الوقت، تضييق الفجوة بين الفقراء والأغنياء، والقصد هو تيسير السبل أمام الفقراء للعيش الكريم.

مثقفون ومفكرون وسياسيون وأحزاب ومسئولون كبار تناولوا مسألة العدالة الاجتماعية على هذا النحو، أى عدالة اقتصادية ومالية فى الدخول بما يعين الفقراء على مواجهة أعباء الحياة، ولعل بند الدعم الذى تقدمه الحكومة سنوياً فى مجالات عديدة جاء فى هذا الباب، وإن لم يكن يذهب كاملاً للفقراء.

وأتصور أن من يقرأ رائعة طه حسين «المعذبون فى الأرض» التى نشرها فصولاً فى مجلة «الكاتب المصرى» منذ سنة 1945، وظهرت ككتاب طبع فى بيروت سنة 1947، يتأكد من هذا المعنى والفهم للعدالة الاجتماعية.

سوف نلاحظ -مثلاً- أنه لم يرد فى ذلك المجال الحديث عن العدالة بين الرجل والمرأة فى المجتمع، تركت هذه المسألة للجماعات والحركات النسائية وبعض المصلحين، وكأن إزالة الظلم الإنسانى والاجتماعى الذى تعرضت له المرأة، تاريخياً، ليس شأناً من شئون العدالة، ولم يرد فيها كذلك الحديث عن العدالة بين الأجيال، والحاصل أننا فى كل مرحلة كنا نجد جيلاً يحاول الطغيان ويقطع الطريق على المقبل بعده أو يلغى وجود من سبقه ويزيحه نهائياً، وهكذا عشنا حيناً بين الكهول الأوغاد -بتعبير نجيب محفوظ مطلع الثمانينيات- أو شباب جاحد بذىء -طبقاً لبعض الأوصاف- حيناً آخر، فيما شكل، فى بعض الفترات، تجريفاً اجتماعياً وإنسانياً حقيقياً لقدرات المجتمع والدولة، فضلاً عن إضعاف الذاكرة الوطنية بطمس إنجازات وأسماء بعينها، وأحياناً مراحل تاريخية بأكملها.

طوال هذه العقود لم نتحدث ولم يرد ذكر للعدالة الثقافية، نحن نفتقد العدالة الثقافية لأسباب تاريخية يتحملها جميع الأطراف تقريباً، وما يمكننا الحديث فيه -الآن وفى هذا المقال- العدالة فى تقديم الخدمة وتوزيع المنتج الثقافى، والحاصل أن العاصمة، ومنطقة وسط البلد منها، أى القاهرة الحديثة، احتكرت معظم المؤسسات الثقافية، وظلت خدماتها مقتصرة فى الكثير من الحالات على أبناء العاصمة، ففى القاهرة يقام سنوياً «معرض القاهرة الدولى للكتاب» منذ سنة 1969، ثم يقام هامش له بعد ذلك فى الإسكندرية، وتبقى المدن الكبرى بمصر بلا معارض حقيقية للكتاب، معرض يخص كلاً منها، ويقام إلى جواره نشاط وبرنامج ثقافى لمبدعى وكتاب تلك المدينة أو المنطقة، وكأن الكتاب وما يتعلق به خاص بالعاصمة فقط، صحيح أن أبناء الأقاليم يأتون فرادى وجماعات إلى معرض القاهرة، لكن ما الضير أن يكون لكل مدينة معرضها أو معارضها الخاصة؟!

الشىء نفسه ينطبق على أفلام السينما، تعرض -أولاً-فى دور عرض القاهرة، وبالكاد فى الإسكندرية، وبعد أن تسحب يبدأ إرسالها إلى المحافظات، يمكن أن يعرض الفيلم فى بعض المحافظات بعد عام أو عامين من عرضه بالقاهرة، والكل يرتضى ذلك، وبمعنى أدق لا ينتبه إلى دلالاته.

الأمر أخطر بالنسبة للأوبرا، تأسست الأوبرا المصرية زمن الخديو إسماعيل، وكان إسماعيل باشا يقيمها ترافقاً مع الاستعداد لافتتاح قناة السويس سنة 1869، وكانت القاهرة، ويجب أن تظل، هى مقر دار الأوبرا المصرية، فى الميدان الذى يحمل اسمها إلى اليوم، ثم احترقت فى بداية عهد الرئيس السادات، على النحو المأساوى المعروف، وظللنا بلا أوبرا، حتى أعاد اليابانيون بناءها فى مكان آخر، مكانها الحالى، وباسم آخر هو المركز الثقافى القومى، وفى السنوات الأخيرة تم تحويل مسرح سيد درويش بالإسكندرية، إلى فرع لدار الأوبرا بالإسكندرية، وفرع آخر فى دمنهور، وفى الشهور الأخيرة تم الشروع فى تأسيس دار أوبرا الأقصر، لتكون داراً كبرى مستقلة توازى دار الأوبرا فى القاهرة، وهناك كذلك دار أوبرا بورسعيد على وشك الافتتاح هذا العام، وعلى هذا النحو، هناك الآن مسرح فى مدينة المنصورة يجرى إعادة ترميمه وتطويره ليصبح فرعاً لدار الأوبرا بالمنصورة، ومسرح آخر على هذا النحو فى مدينة طنطا.

وقد يتصور البعض أن دار الأوبرا تعنى الرفاهية وتعنى الثراء، وأنها لفئة محدودة من المواطنين، واقع الحال أن هناك إقبالاً كبيراً من المواطنين على دار الأوبرا المصرية، ولم تعد مقاعدها تكفى الجمهور الذى يريد المشاهدة والاستمتاع، وعادة ما تنفد التذاكر وتبقى طوابير راغبى الحجز ممتدة، يحدث ذلك فى القاهرة وفى الإسكندرية وفى دمنهور، يضاف إلى ذلك أننا، إذا أردنا أن ندخل الحداثة التى تأخرنا عنها كثيراً، فلا بد أن يكون ذلك بالفنون وبالأفكار.

الأفكار، عادة، لا تصل بسرعة وكثيراً ما تجد مقاومة، فضلاً عن أنها تحتاج إلى مجتمع تخلص من الأمية ويقبل بهمة على القراءة، وهذا ما لم يتحقق إلى اليوم، لارتفاع نسبة الأمية، فضلاً عن أسباب أخرى، يكفى القول إن معظم الطبعات من الكتب فى مصر والعالم العربى لا تتجاوز 3 آلاف نسخة، وفى حالات ليست قليلة يقف المطبوع عند ألف نسخة، تنفد فى عدة سنوات، أما الفنون فتصل إلى الجميع وسريعاً، لنتذكر أن الفترة التى عاشتها مصر بلا أوبرا، شهدت هجرات كوادر فنية مصرية وعالمية كانت موجودة من خلال الأوبرا، وانتشرت تيارات وجماعات التشدد.

ومن المهم التذكير بأن دور الأوبرا أخذت فى الانتشار بالمنطقة، هناك دار الأوبرا السلطانية فى مدينة مسقط بعمان، وهى دار تدعو إلى الفخر، ويتوجه المواطنون العرب من الدول الخليجية المجاورة إليها، وهناك دار أوبرا فى دبى، من المتوقع أن تفتح هذا العام، وأعلم أن هناك تفكيراً فى المملكة العربية السعودية للشروع فى بناء دار أوبرا بالرياض.

ومع انتشار التعليم الجامعى فى مصر، هناك جامعة فى كل محافظة من محافظات الصعيد، بنى سويف بها أكثر من جامعة، ومن ثم فإن هذا الجمهور من المتعلمين يحتاجون زاداً ثقافياً وفنياً يتجاوز القسمة غير العادلة التى ارتضيناها لعقود، وهى أن مصادر الثقافة والفنون الرفيعة تكون بالعاصمة، وتكتفى الأقاليم فى أفضل الأحوال بالثقافة الجماهيرية، ولأسباب كثيرة، منها سوء التوظيف لعدة عقود، والانعزال داخل الأقاليم، لم تتمكن الثقافة الجماهيرية من القيام بدورها، فضلاً عن أن أماكن كثيرة لم تصل إليها الثقافة الجماهيرية أساساً، عدد قصور الثقافة فى مصر كلها 99 قصراً، ليست كلها فى أفضل أحوالها، فبقيت المحافظات مرتعاً لدعاة التشدد، وبات من الضرورى إعادة النظر فى تلك القسمة غير العادلة، وفوق ذلك فإن الجامعات الإقليمية لم تقم بدورها كاملاً من حيث الانفتاح على المجتمع والانخراط فيه، فضلاً عن تقديم الثقافة والفنون الحديثة، فكان أن صار بعضها منتجعاً لاحتواء وتفريخ جماعات التشدد.

ما يخص عملية نشر الكتب وتوزيعها، وما يتعلق بفنون الأوبرا، يمكن أن يقال عن جوانب الثقافة والفنون الأخرى فى مصر، وهى عديدة ومتميزة.

افتقاد العدالة الثقافية خلق حالة من التركيز على العاصمة، وبات أبناء الأقاليم ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم مهمشين، إذا كان هناك كاتب يريد أن يُعتمَد وأن يدخل الحياة الثقافية، فعليه أن يعيش بالقاهرة، وينشر كتابه بالقاهرة، وإلا لا يصبح كاتباً، هذه الحالة خلقت تفرقة بين نوعين من الكتاب والمثقفين: كاتب ومثقف هو من يقيم بالقاهرة، وآخرون يحملون مسمى «كتاب الأقاليم»، واستسلم الأخيرون لتلك التسمية وراح بعضهم يطالب بما يشبه «الكوتة» أو المحاصصة فى عمليات النشر والعمل الثقافى بالعاصمة.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل