الربيع الأخير
«بشير العاني»، عبر صفحات الفيسبوك رأيت وجهه، للمرة الاولى، كنت قد سمعت بالاسم فقط ولم أقرأ له شيئاً للأسف.
تؤرقني كل تلك الوجوه الخبيئة، المتوارية، الهاربة، الصارخة، خلف وجهه الحزين.
وراء عينيه، نامت وجوه أعمق، وأكثر نأياً، وأكبر سناً، لم يكن وجهك يا بشير فحسب، وجه حزين يسخر من الدموع، ليست عيناك ولا شفتاك فحسب، ملامح حزن. كلّك حزن، تماماً مثلنا نحن السوريين، حزانى، مقتولين، مغدورين، محاصرين بالسكاكين.
وجه بشير العاني، الوجه الموجوع سلفاً بالشعر وبالحياة.
هكذا هم الشعراء: إما ينتحرون أو يُعدَمون.
«بشير»، في عينيك وطن مزّقه خنجر الحقد.
اختلسك الموت، الشبح المرعب الذي أطلقه الأسلاف من الماضي، وحوش خرجت من القبور لتقتل الأحياء، وحوش روّج لها الدين، وسلّحتها السياسة، لتقلنا، صوب المجهول، لتوزع السوريين على بقاع الأرض. الحصة الأكبر من السوريين ابتلعتها البحار.
عند نهاية حياة من العذاب.. ثمة شيء من الراحة المبهَمة.
عندما تمر الأيام متثاقلة الخطى كسجين في سجنه.. يغدو الموت حلّاً. نعم، قالها لي أحدهم تحديداً في مدينة الرقة: «ما أحلا الموت»، ما أشهى الموت للمتعذِّب؟!
الشاعر كالأيل المطارد، في أيام السلم، فما بالكم في أيام الحرب؟!
حتمية تفسُّخ مستقبلنا، واضحة بسبب ماضينا المتفسّخ، ماضينا الذي لا يلهمنا غير الاستعداد المضني للموت.
المعركة ليست معركة شعراء يا «بشير»، والنضال ليس نضالاً عادياً، إنها معركة الوحوش، لأن الأرض، أرض غابة، مفخّخة بمستنقعات التاريخ.
طبعاً، لا بد أن تقتلنا «الردّات»، يا «بشير» وتقتل «ابنك»، ممنوع علينا استئناف الحاضر صوب المستقبل، لنا فقط أحقاد الماضي، نتنفّسها، لتقتات على دمائنا.
سيقطع الموت الشاحب بمنجله رؤوس المستقبل، لا مستقبل لنا، على أرضنا، فماضينا هو خصمنا، سيقتلنا إن لم نقتله.
لا ربيع ينتظرنا، قتلوك في بداية الربيع، تمهيداً لخريف لا ينتهي.
ملطَّخون بحزننا يا «بشير»، منهَكون بيأسنا، هلى ثمة خلاص؟ ثمة سلام، أو سكينة؟!
هذا العالم، دائماً يعثر على الذريعة اللازمة لقتل الشاعر، بأية ذريعة قَتَلَ الاسبان أفضل شاعر عرفته اسبانية؟ قتلوا لوركا، لهذا سيقتل الشعراء دائماً.
أعدموك يا «بشير» ليغتالونا عن بعد. موتك موتنا، واغتيالك اغتيال لنا، حتى لو بعُدت المسافات، يمكن لرائحة الموت أن تبلغنا ليتفسخ ما بقي لدينا من أمل.
Comments