المحتوى الرئيسى

الغربة الأبدية

03/11 02:20

دونكيشوت سيفه الشعر، مظفر النواب عروبي، فلسطين في قلب رؤيته، انتشرت أشعاره بالسماع من الأشرطة المسجلة، أما عنفه اللغوي وشتائمه فكانت تجاري المزاج الشعبي

(سندباد العراق) طاف العالم على بساط الشِّعر، زاده مواقف رافضة وحنين، دونكيشوت يرحل ويحارب بسيف الشعر، مواجهاً الاغتراب وأجهزة الديكتاتوريات العربية التي كممت أفواه الشعوب، فلم تسانده إلا لغته الثورية وتراكيبه الفنية العالية النبرة، والتحدي في عصر أهم سماته السكوت والرضوخ للواقع ولأنظمة كان ومايزال عدوّها الأول هو الكلمة. لم يكن شِّعر (النواب) يوما قضية فردية ينشد من خلالها معاداة نظام بعينه، إذ كان هدفه تغيير واقع سائد في العالم العربي عموماً، فشاعر الحب لا الشتيمة كما حاول البعض نعته «علّمه وطنه أن التاريخ البشري بدون الحب عويل ونكاح في الصحراء».

وقوفه ضد النظام الرسمي سواء في بلده أو بلاد العرب الواسعة وما عاناه من سجن واضطهاد لم يغير قناعاته، فرفض التهاني بسقوط الديكتاتور الذي تلازم باحتلال وطنه، خلافاً لما نشاهده اليوم من مثقفين وفنانين ونخب تدعو لاحتلال أوطانها.

لم يكن انتماء النوّاب ووفاؤه للعراق تعصباً، فالعراق من وجهة نظره جزء من الوطن الكبير الذي عاش وعاصر أمراضه، وقد هاجم دعاة القطرية ورفض الإقليمية بأشكالها، ولعل قصيدته: «القدس عروس عروبتكم» الأشهر بين ما نظم وحفظت الأجيال لم يروها إلا كمواطنٍ فلسطيني أراد أن ينفجر في وجه قادة وحكام يتزينون بالقضية بالقول، ويتعامون عنها بالفعل، لذلك لم يقتصر ارتباطه بفلسطين كقضية كبرى على مناسبة أو موضوع، بل كانت همّه الأول، وهناك الكثير من نتاجه الذي تمحور حول فلسطين من مثل قصائده: «تل الزعتر، قل هي البندقية أنت، يا قاتلتي، وأنت المحال، يوميات عروس الانتفاضة» وغيرها من القصائد التي أسكنها الخيمة والمخيم.

وقف (النوّاب) ضد الرئيس العراقي في حربه مع إيران قائلاً: «وضع الحرب في غير مكان الحرب، بوصلة مشبوهة هذه التي لا تشير إلى القدس». نعم حمل قضيته العراقية لكنه لم يتركها تطغى على القضايا المصيرية، فأرّخ بالشعر الحوادث القومية، ومجّد شخصية الفدائي وتحدى من يرفع عينيه أمام حذائه، وقف مع فدائي البقاع، وبرّأ الذي يحمل البندقية ليقاتل فيها عدو الوطن ويدافع فيها عن أرضه.

لم يخفَ الجانب الديني وتأثير القرآن في لغة صاحب «الخوازيق» باعتبارها علامة مركزية في لغة النص (النوابي)، فاستخدم المصطلح، وفي أحيان كثيرة اللفظة ذاتها؛ وأحياناً لبث روح الحماسة «إيمانك والقرآن والوحدة» وفي أماكن نجده يستدعي أسماء السور كـ(سورة الضحى) أو (آية الكرسي) كما وظّف الشاعر العراقي القصص القرآنية في القصيدة من مثل: «جاء جند سليمان، أيها النمل فادخلوا لمساكنكم» واقتبس من الآيات لصالح الفكرة: «أين وعد الذين استضعفوا في الأرض؟» غير أن الصوفية التي اتسم بها شعره كانت علامة فارقة في سرده ونبرته الهادرة، فتصوفه وبحثه عن عالم نقي روحاني كانا – برأيي - نتيجة للحزن والغربة والألم، مثلما هو نتاج أوضاع اجتماعية وسياسية سيئة أو واقع مادي رديء عاشه الشاعر.

ولا شك أن في حياة (النوّاب) ومسيرته الشعرية اجتمعت كل هذه الأسباب، فهو الباحث دوماً عن المستضعفين والفقراء والحرية والثورة؛ أما أهم ملامح التصوف فقد جسدها هذا الشاعر في قصائده من خلال التزامه: «وهذا لمن يدرك الباطنية في العشق بعض انتمائي، أنا أنتمي للجموع التي رفعت قهرها هرماً». إذاً هو يرى الالتزام الثوري مع الفقراء خروجاً حقيقياً من الناسوت إلى اللاهوت، فالعودة إلى الإنسان وحمل السيف مع الفقراء هو الله جميعاً كما هو وارد في الكثير من الألفاظ والإشارات الصوفية في قصائده.

كثير من النقاد حاولوا زعزعة مكانته الشعرية من خلال نعته بشاعر الشتيمة والألفاظ البذيئة وغير ذلك، علماً أن (النوّاب) لم يستخدم هذه الألفاظ إلا للنيل من الأنظمة، موظفاً إياها في لغة تهكمية وقد برر ذلك بأننا نعيش البذاءة بآلاف الأشكال والألوان، والتردي يحيط بنا: «هل مطلوب من الشاعر أن يختار الألفاظ المنمقة والتعابير اللطيفة حتى لا يخدش حياء من يحزه من الوريد؟» رافضاً اللجوء إلى معجم الأخلاق في زمن لا يرى فيه من الأخلاق شيئاً؟

إن استخدام (النوّاب) لألفاظ لاذعة ومفردات مختلفة كانت دلالاتها في معظمها دلالات جنسية على نحو: «النطفة، الأست، البغي، اللواط، الخصية» لكنه استطاع توظيفها في السياق وتطويعها لصالح قصائده المتمردة، فكانت عالية النبرة بالنسبة لمن كان المقصود بها من الحكام العرب، بينما كانت تثلج صدر الجماهير التي تغنت بها وحفظتها عن ظهر قلب، ومن الخطأ أن نعتبرها كما اعتبرها عبد اللطيف عقل: «تدغدغ غرائز الجماهير» فالجماهير تتغنى بها وترددها لأنها تريد شتيمة سلطات شكّلت لديها حالة رعب وعوز، وهي تستخدم هذه الشتائم في سرها لكنها لا تتجرأ على الجهر بها؛ فالكلمات التي استخدمها (النواب) في شعره لم تكن مرادفات جنسية جمالية حتى تكون غرائزية.

إن التهميش الذي ناله النواب من النقاد والبحوث التي شرحت الشعر المعاصر كان سببه الخوف من الأنظمة، ومن المعروف أن كُتب (النوّاب) وأشعاره كانت ممنوعة في معظم الدول العربية بل ممنوع تداولها أيضاً، لا سيما أنه هجا الملوك والحكام بأسمائهم أو مشيراً إلى بلادهم وعواصمهم؛ الأمر الذي لم يتجرأ عليه أحد غيره، ولا يغيب عن بالنا تبرير (النوّاب) شتائمه المتكررة إذ قال: «أعتقد بأن الحكام العرب هم شتيمة أكبر من أي شتيمة، لقد شتمونا بكل تصرفاتهم»! فقوله هذا يدل على أن الشتائم التي استخدمها لم تكن ناتجة عن ردات فعل غير مدروسة نتيجة مواقف فردية تخص الشاعر، بل بسبب سياسات وقضايا مصيرية لا زالت الشعوب تعاني منها حتى هذه اللحظة.

أول قراءة شعرية لصاحب «عبد الله الإرهابي» كانت سماعية بالعامية العراقية، لا أنكر أني لم أفهم الكثير من الألفاظ التي وردت في هذه القصيدة، لكن كنت مصرا على نسخ شريط الكاسيت لمعاودة الاستماع وتفسير معاني بعض الكلمات عن طريق أصدقاء عراقيين في دمشق، أما حرف القاف الذي كنت اسمعه «كاف» اعتدت عليه ولا يمكن أن تستبدله أو ترده إلى أصله لأن ذلك يضعف جمال القصيدة.

لقد حقق (النواب) عبر الكتاب الصوتي الشهرة والانتشار والوصول للعامة والنخبة، فمن خلال عدة عوامل استطاع الشاعر الوصول إلى كافة الشرائح، والعامل الأول في ذلك كان الجرأة على السلطات؛ فشعره حاكى أوجاع الشعوب وهمومها وهواجسها، بالمعنى الأصح؛ وعبّر عما عجزت أن تعبّر عنه وبينما هو يؤرق وجدانها، ربما لعجز هذه الجماهير عن التعبير نتيجة الخوف من البطش أو لانعدام وسيلة أو طريقة للتعبير وبث همومها. أما العامل الثاني فكان في استخدام (النوّاب) اللغة العامية والفصيحة معاً في نصوصه؛ مما جعل شعره في متناول الجميع. العامل الثالث كان برأيي هو (شريط الكاسيت) الذي عبرت قصائد الشاعر من خلاله إلى خارج المكان؛ الأمر الذي لم يستطع تحقيقه الكتاب مع أشكال الرقابات التي فرضت عليه ومن بينها دخول المدن في زمن لم تنعم حركة النشر العربية بمزايا الثورة الالكترونية، إضافة إلى أن الطباعة في الصحف اليومية والثقافية ممنوعة نتيجة هيمنة الأنظمة ورؤوس الأموال عليها.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل